كنت قد توقفت من نحو عام عن كتابة المقال السياسي، ليس لرغبة في الصمت، فنحن معشر الكتاب ليس حريُ بنا إلتزام الصمت، لكن أحيانا تكون الأوضاع بائسة، كما هي الآن، بالدرجة التي تدفع للحِنق عليها، بل والهروب منها، والاكتقاء بالمتابعة الدؤوبة لفقرات البؤس المتتالية التي امتلأ بها واقعنا، إلى أن اكتفيت من المراقبة تماما، وفضلت أن اكتب.
تابعت بشغف الكثير مما كتب من مقالات سياسية، في هذه السنة الفائته، الكل يحلل ويغضب ويتفنن في صياغة عباراته المنمقة، وفي المواجهة، الجمهور اتفق على سؤال واحد تم توجهيه لكل الكُتاب: \”إيه الحل؟\”، مأزق الحل اللعين، السؤال الأبدي الذي يطاردنا، ليس دور الكاتب أن يقدم الحلول، بل دوره أن يرصد اللحظة التي يكتب عنها بكل ما فيها من سيء وطيب، لا أحد هنا يعرف الحل، ليست هذه المشكلة، المشكلة تتركز في أن أحدا لا يبحث عن الحل!
قادتني الصدفة إلى مشاهدة أولى حلقات مسلسل \”الهروب\”، جذبني المسلسل رغما عن مشاهدتي له من قبل، استكملت المشاهدة إلى أن استوقفني أحد المشاهد في الحلقة الثالثة منه، والذي حكي فيه \”محمود\” بطل المسلسل الذي جسده ببراعة واقتدار \”كريم عبد العزيز\”، عن إحدى طرق الشرطة المصرية لتصفية المعارضين إبان حكم المخلوع مبارك، بأن يقوموا بتعبئتهم في إحدى السجون المتنقلة التي تسمي \”عربات الترحيلات\”، ومن ثم اقتيادهم إلى مكان مجهول، وقتلهم، وإخبار الإعلام بأن المتهمين أطلقوا الرصاص عليهم، ومن ثم فكان واجبا قتلهم، دفاعا عن النفس، تذكرت على الفور \”إسلام عطيتو\”، الطالب الذي اختطف من إمتحانه ليلقى المصير الذي تحدث عنه \”محمود\”، لتلقى عبارة \”كارل ماركس\” الشهيرة بظلالها \”التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة\”، فهل نقبع الآن في مأساة مبارك في ثوب أكثر غلظة، أم نشهد ميلادا جديدا لمهزلة المستبد العادل؟!
تكمن المأساة والمهزلة معا، في أن تضطر لمواجهة نظام يؤمن بأن مساحات حرية الرأي والتعبير التي تركها سابقوه لمعارضيهم، كانت السبب في سقوطهم، هذا هو المأزق الحقيقي الذي نغرق فيه إلى الأذقان، إنعدام مساحات حرية الرأي والتعبير، بداية من المظاهرات، ووصولا إلى الكتابة، فحتى الأحرف لا تجد طريقها للبوح.
إعادة تنظيم صفوف المعارضة، أصبحت أشبه بالمستحيل، فعقب قيام ثورة يناير، كان الخلاف منحصرا بين التيارات وبعضها، أما الآن فالخلاف بين أبناء التيار الواحد، بل وأبناء نفس الحركة السياسية، فجماعة الإخوان تشهد الآن ميلادا لجيل جديد من الشباب، الذي يرفض فكر الكبار، المتمسكون بالسلمية لآخر لحظاتهم، ويعتبرون من العنف طريقا وحيدا لإسقاط النظام، في المقابل القوي المدنية، تقف بائسة وحيدة، تفرغ أعضائها للتنكيل ببعضهم، بل وبالاغتيال المعنوي أحيانا للرأي المخالف، فكلما ظهرت مبادرة للإصلاح من هنا أو من هناك، تشتعل آلات التخوين والمزايدة، ولا تهدأ حتى يتم القضاء على تلك المبادرة، والقضاء معها على جزء من شعبية هذه التيارات، التي فقدت ظهيرها الشعبي تقريبا.
طالما ما تحدث أبناء جيل الستينيات والسبعينيات إلى الشباب، بفخر وزهو عن تفاديهم للخطأ الذي وقع الكبار فيه، خطأ التخوين بين التيارات، رفض محاولات الاتحاد أو العمل المشترك، بل رأى ذلك الجيل أن التفاهم بين أبناء التيارات السياسية المختلفة من الشباب، هو ما قاد إلى ثورة يناير، بداية من الاعتصام المطالب باستقلال القضاء في 2005، وصولا إلى ثورة يناير ذاتها، والتي كانت أكبر وأعظم مثل على ذلك التفاهم، ذهب ذلك التفاهم أدراج الرياح، وسيطرت بدلا عنه العنجهية الثورية، وهو ما يهدد بمصير من سبقونا، يهدد بقتل أي محاولة لم تعرف طريقها للنور بعد بالثورة، يهدد من يسكنون الزنارين الآن بالبقاء فيها لمدى لا يعلمه إلا الله، وبإنضمام القلة الباقية خارج السجون إليهم، مصير مرعب.
الخروج من المأزق الآن لا يستدعي سوى تجاوز الخلافات، والعمل على مواجهة الخطر الفعلي، خطر تكرار النصف الثاني من القرن الماضي، لكن تجاوز تلك الخلافات، لن يكون إلا بأن يعترف كل فصيل، بل وكل شخص أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن بأخطائه، ومن ثم العمل سويا على الفتك بالخطر، بعيدا عن ما يسمي \”المعارك الصغيرة\”، التي أثبتت التجارب العملية العديدة والمريرة، أن الانتصار فيها ما هو إلا هزيمة مقنعة، الخطر يعلمه الجميع ولا يجنح أحد إلى مواجهته بذاته، مع أن النتيجة دائما واحدة، إما الانتصار، أو السجن والقتل.
الاعتراف بالخطأ، يلزمه التخلي عن العنجهية الثورية اللعينة، ذلك المرض العضال الذي سيطر علي الغالبية العظمى من المنشغلبن بالعمل العام في مصر، سواء كانوا معارضين لأي نظام أو مؤيدين له، في الاجتماعات السياسية التي حضرتها بعد ثورة يناير وإبان حكم الإخوان، دائما ما كان يثار سؤال قبل أي تحرك: \”من يعرف فلان المسئول في تلك الحركة لينسق لنا معه؟ حتى يتم الأمر بسهولة ودون عنهجية من ذلك المسئول؟\”، الأدهى، هو عند التحدث عن الشعب، وصمه بـ \”الجهل والتخلف وحب المستبدين\”، هكذا ينظر أغلب المنشغلين بالعمل العام إلى الشعب المصري، عندما لا يقف في صفوفهم، وعندما يقف في صفوفهم يتغنوا فيه بالأشعار، أبهذا المنطق يمكن أن تقوم ثورة، أو حتى تغيير طفيف؟! وهو ما يرجعنا إلى الدائرة المغلقة التي تقول بإن فشل الثورة لم يكن إلا بأخطاء الثائرين، وهو طرح وجيه لم يجانبه الصواب.
بدلاً من حالة الزخم الثوري التي عشناها في السنوات القليلة الماضية، هنا الآن حالة من اليأس، والبكاء أثناء النوم عند تذكر تلك الثورة، الكل يتذكر الثورة، ولكن أحدا لا يتذكر كيف قامت الثورة، هل كان أحد يصدق أن نظام مبارك أو نظام الإخوان سيسقطان؟ بل إن أحدا لم يكن يصدق أن المجلس العسكري سيسلم السلطة ويدعو إلى انتخابات رئاسية، ورغما عن عدم التصديق، سقط مبارك ومجلسه العسكري ونظام الإخوان، مما يجعل من سقوط كل من صار على نهجهم ضرورة حتمية وتاريخية.
\”فشل الثورة\”.. المصطلح المُثيِر لرعب وحفيظة الثائرين، الثورة تغيير جذري، من الطبيعي أن ينتج آثاره السياسية والاقتصادية فتتحسن الأوضاع التي قامت عليها الثورة، لكن هذا ليس ممكنا إلا بإعادة بناء الفرد، فلا يحب القط خناقه كما يقولون، لكن بساطة الحياة التي تفرضها الأنظمة المستبدة هي التي تمنع الناس من الثورة، وهنا يقع دور المنشغلين بالعمل العام، فلا ثورة ولا ألف ثورة يمكن أن تنجح من دون إعادة بناء الفرد، بحيث يصبح عالما بحقوقه وواجباته، وقتها، ووقتها فقط، لن يقدر عليه كل المستبدين الذين عرفهم التاريخ.