المغامر
نجح عمر على شاشات الغرب، وحصل على المزيد من الأدوار والأضواء وتعلم ألا يتقشف في نجوميته وسحره الشرقي الذي اتسع وشمل بفيضه النساء، وفيما توالت أفلامه: \”فتاة لطيفة\” لهربرت روسّ، \”مايرلينج\” لتيرينس يانج، \”مايريج\” لهنري فرنوي، دخل عالماً مبهراً كان التجلي الحر لشاب شرقي صوّرت له مخيلته ما سيحقق من انتصارات على أرض الغرب المجهول، لكنه اكتشف أنه غير قادر على الطيران؛ فقد وقع في الشرك الكبير ومضى يصعد ويهبط مع منحدرات متاهة لا تنتهي حدودها، أرهقته فيها الطرق فيها وهو الغريب الذي ضل الإشارات في خريطة لم يحفظ خطوطها، كانت حصته في النجاح والنجومية والحضور على الشاشة متباينة من عمل لآخر، لكنها حصة كبيرة بالنسبة لطائر مهاجر اتبع حدسه في الطيران إلى عالمه الجديد ولم يصغ لصوت غير هشاشته التي تدحرجت على محطات الغربة في لياليها الفوضوية المشاكسة: بريدج ونساء وتوهان آخر في دهاليز السياسة يحاصره، وحين يعبر منه يكتشف أنه من حسن حظه أنه أفلت من خرافة أن أرضه الجديدة هي الفردوس السعيد.
\”كنت أفكر لو لم أعمل في لورنس العرب، فهل كنت سأظل سعيداً، أنا كنت في مصر نجم وأستاذ وزوج سعيد، لما سافرت واشتهرت دخلت في مناخ آخر وحياة مختلفة لم أكن أنتظرها، ذهبت إلى هوليوود، كانوا يعطونني أجراً جيداً، وأصلاً هوليوود تعني كثيراً للممثلين، هي إغراء كبير لهم، كل واحد يحلم بها، لما كنا صغاراً في مصر كنت أذهب إلى السينما كل يوم وأقول أريد أن أكون مثل الفنانين الكبار الذين أشاهدهم علي الشاشة نجوماً في أفلام أمريكية، ولما تحقق ذلك وصرت واحداً منهم نسيت نفسي، كان عندي وقتها 29 سنة، أي أنني عشت 29 سنة كاملة في مصر وكنت لا أعرف الخارج أبداً، وتأقلمت مع الحياة والطباع والتقاليد في بلدي، وحين خرجت إلى عالم آخر رأيت وصادفت حاجات غريبة، أنا حتى لحظة خروجي من مصر لم أشاهد التليفزيون لأنه أساساً لم يكن دخل في بلادنا، أي أنني حتى سن 29 سنة لم أعرف التلفزيون، ولا رأيته، كنت فقط أقرأ وأحلم، هذا أقصى ما وصلت إليه\”.
لم يقف عمر الشريف عند منعطف فيلم (لورانس العرب)، وظهر بطلاً في أفلام عديدة ، فجسد دور جنكيز خان أمام الممثلة الفرنسية \”فرانسواز دورلياك\”، ولعب دور الكاهن في فيلم \”أنظر الحصان الشاحب\” تحت إدارة المخرج الأمريكي فريد زينمان مع أنتوني كوين وجريجوري بيك، حيث صار نجمه يلمع أكثر في السينما العالمية، ويدأت وسائل الإعلام تتكلم عنه، خصوصاً بعد قيامه ببطولة فيلم (دكتور زيفاجو) أمام جولي كريستي وجيرالدين شابلن، والذي أدى فيه دور الدكتور زيفاجو الطبيب والشاعر السوفييتي البرجوازي المنشق والمناهض للثورة البلشفية، واصل صعوده وانتقل والديه للعيش في مدريد بأسبانيا، حيث كان يعمل والده وحيث تزوجت شقيقته وعاشت معهما في نفس البلد، مشوار التحول في حياته بدأ بمغامرة، كان له في مصر بيت وزوجة وابن، وعمل في السينما المصرية وله فيها مكانة، فغامر بكل وشعر أنه يدين لفيلم \” لورانس العرب\” بالكثير كما يدين لمخرجه ديفيد لين الذي قاده في هذه التجربة التي بدلت حياته في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وجعلته واحداً من كبار نجوم السينما العالمية طوال أكثر من ثلث قرن، ديفيد لين الذي سانده دائماً ومنحه دور (الشريف علي) بدلاً من دور آخر أصغر منه بكثير، ثم اختاره مرة أخرى ليكون دكتور زيفاجو في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه والمقتبس عن رواية بوريس باسترناك الشهيرة.
\”لاحقاً حينما علمت أن ديفيد يريد أن يحقق فيلماً انطلاقاً من رواية \”دكتور زيفاجو\” لبوريس باسترناك، اشتريت الكتاب وقرأته لكي أعرف ما إذا كان في العمل دور لي، وحينما انتهيت من قراءة الكتاب رأيت أنني يمكن أن أحصل على دور \”باشا\” الذي عاد ولعبه توم كارتناي، لذلك اتصلت من فوري بديفيد لين، وعرضت عليه أن ألعب ذلك الدور الثانوي في الفيلم، فكان جوابه الصارم والفوري \”لا\”.. ثم، بعد لحظات صمت عميق سألني بكل هدوء ما إذا كان دور الدكتور زيفاجو نفسه يهمني، فالتزمت غير قادر على التلفظ بحرف\”.
كان ديفيد لين يعرف كيف يسخر الأخلاق كلها لمصلحة شخصياته. خذوا على سبيل المثال شخصية د. زيفاجو: لقد تزوج من المرأة التي كان يحبها، ثم أقام علاقة مع امرأة أخرى كانت تقيم وهي في السادسة عشرة علاقة مع وغد عجوز، هل يمكنكم أن تتخيلوا مدى تأثير هذه الحكاية في فلاحي الوسط الأمريكي؟ تساءل عمر الشريف ثم أجاب: حسناً.. مع ديفيد لين مرّ هذا كله بهدوء ومن دون مشكلات.
انهالت العروض السينمائية على عمر الشريف وقام ببطولة العديد من الأفلام الفرنسية أمام كاترين دينوف، وجان بول بولموندو، وغيرهم، فوقف أمام الإيطالية صوفيا لورين في فيلم (سقوط الإمبراطورية الرومانية) ، وأمام إنجريد بيرجمان في فيلم (الرولزرويس الصفراء) ، ومرة أخرى مع بيتر أوتول في فيلم ( ليلة الجنرالات) ، وأمام كاترين دينوف في فيلم ( مايرلينج)، كما قام بدور تشي جيفارا في الفيلم الذي حمل اسمه، للمخرج ريشار فليشر، لكن هذا الفيلم واجه عاصفة نقدية، حيث لم يغفر له أنه قدم على مدار ساعة ونصف موضوعاً مكرساً لتشويه صورة الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا وتوصيفه بأنه شخص فاشل، مريض بالربو ومثير للسخرية أحياناً، كما يصور الفيلم فيدل كاسترو بأنه دائماً مخمور ومثير للسخرية أحياناً، لقد كان فيلماً يشوه كل ما يمثله جيفارا من قيم جيدة، حتى أن عمر نفسه أعلن ندمه عليه فيما بعد وتراجعه عنه، كما صرح بأنه لا يفتخر سوى بعدد قليل من أفلامه الأجنبية، وهو سبق أن ذكرنا لم يكن لديه وعي أو رفاهية الاختيار بسبب عقد الاحتكار غير المدروس الذي وقعه مع شركة كولومبيا.
\”ماذا تنتظرون من ممثل مصري شاب لا يعرف شيئاً عن عالم السينما في هوليوود وعرضوا عليه دوراً رئيسياً في (لورانس العرب) مع عقد يحتكر نشاطه الفني لمدة سبع سنوات لحساب شركة كولومبيا، لقد كان هذا العقد بمثابة عقداً للعبودية\”.
ولم يكن يتقاضى في تلك السنوات السبع العصيبة غير خمسة عشر ألف دولار فقط عن كل دور يقوم به، لذلك ما إن إنتهت مدة العقد، وكان عمره حينذاك 37 عاماً تقريباً، حتى إنطلق باحثاً عن المال والمزيد من الشهرة لئلا يفوته القطار.
\”كنت أنا الممثل الوحيد في العالم الذي يمتلك جنسية ليس لها مثيل في الأفلام العالمية، أي أنه كان هناك ممثلين فرنسيين يعملون في أفلام بفرنسا وأحياناً يذهبون للراحة في بلد آخر، وهناك أمريكان، وكذلك إيطاليين، لكن أنا لدي لهجة لا هي فرنسية ولا هي إنجليزية ولا هي أمريكية ولا هي يونانية ولا شيء آخر، أي كانت أشبه بالأشياء غير المفهومة، فلذلك كانوا في الأول يجعلونني أمثل روسي لأن أيامها لم يكن يعرفون كيف يتحدث الروس، فمنحوني أدوار شخصيات روسية رأوا أنها الأنسب لي، مثل زيفاجو ودور ضابط المخابرات الروسي في فيلم ثمار التمر الهندي \”.
أدرك عمر الشريف أن شركات السينما العالمية كانت لا تريد الممثل بداخله أن يتقمص الشخصية التي يمثلها، لكنها كانت تريد أن تبيع للجمهور الغربي عمر الشريف! الممثل العربي الذي قامر بحياته وخاض معاركه الخاصة على درب الوصول العالمية حتى وصل إلى قمتها بعد عناء طويل كلفه الكثير، ربما رأى من بعيد أن السماء ستكون في متناول يده؛ فلما اقترب وجد كل شيء واقعي والأفق الواسع الذي انجذب إليه عن بعد محفوفاً بالمتاهات التي فتحت له أبوابها ليدور فيها بعبثية ويحاول أن يكمل رحلته التي أرادها ليقفز من مخيلته إلى خطوة موجعة في فضاء لا نهائي كان يعتصره فلا يترك له سوى عقل لا ينام، يظل مستيقظاً كأنه يهرب من الأضواء الباهرة ليتفرغ لصاحب الجسد المرهق ويستعرض معه كل صور الأحداث والشخصيات التي مرت به، فيجعله يلهث في تتبعها الاجباري، وعلى هذه الخلفية عاش عمر حياته رحالاً يتنقل من مكان إلى مكان، ومن استديو إلى آخر، ومن دولة إلى دولة، يزرع زهور نجوميته الطاغية في كل سماء، ويخترق المجتمع الهوليوودي الذي كان محرماً على العرب دخوله في هذه الفترة، قد يكون ذلك بسبب نظرة الريبة التي اعتاد عليها العرب تجاه هوليوود باعتبارها جزء من معاداتهم الغرب الإستعماري، وأن كل ما تقدمه هوليوود هو بالأساس جزء من مؤامرة يحيكها اليهود والصهاينة والغربيون ضد المجتمع العربي أو الشخصية العربية، ومن هنا لم تقبل النظرة العربية هذه فكرة التعامل مع الغرب. وراح أصحابها، كما يقول الناقد والكاتب اللبناني نديم جرجورة، يتّهمون الذاهبين إلى هوليوود (وإلى الدول الأوروبية أيضاً) بالعمالة للفكر الصهيوني، متغاضين عن إنجازات مهمة حقّقها عربٌ خاضوا معارك طاحنة لإثبات حضورهم في هوليوود، ليس بسبب انتمائهم الجغرافي أو الحضاري أو الديني، بل بسبب وجود \”منافسة\” حقيقية في صناعة السينما لا تختلف عن المنافسات الأخرى التي تشهدها أي تجارة أو صناعة في العالم، ولعل عمر الشريف ومعه المخرج السوري الراحل مصطفي العقاد، كانا النموذج الأبرز للفنان العربي الذي اشتغل في هوليوود، وصنع كلاً منهما اسماً لامعاً ومحترماً في المجتمع الهوليوودي، ولديهما قائمة مُشرّفة من العمل السينمائي، على مستوى الإنتاج الضخم لعدد لا بأس به من الأفلام التي حقّقت إيرادات عالية، والتمثيل الآسر والأعمال الجدّية والتجارية والشعبية.
كان مصطفي العقاد دخل هوليوود قبل عمر الشريف بسنوات، حيث ترك سوريا في العام 1954 بعد أن انحرف عن رغبة عائلته في أن يمتهن مهنة مرموقة كالعمل بالمحاماة أو الهندسة أو الطب، فاكتشف بعد سفره أن إمكانية العمل متاحة للجميع وكذلك فرص النجاح فهي ليست مستحيلة وإن لم تكن سهلة في الوقت نفسه. فاسمه العربي كان عائقاً أمام تقدمه، وكان بإمكانه التخلص من اسمه وتغييره كما فعل بعض العرب للدخول في عوالم المال والسلطة والشهرة في هوليوود إلا أن المسألة كانت بالنسبة إليه مبدئية. وكان يرد علي الذين يطالبونه بتغيير اسمه قائلا: \” كيف أغيّر اسمي وقد أورثني إياه والدي؟\”.. درس السينما بجامعة جنوب كاليفورنيا ونال الماجستير، ما مكنه من العمل مع أشهر مخرجي السينما العالمية مثل المخرج الأمريكي سام بكنباه الذي اتسمت أفلامه بالعنف، ثم دخل حقل الانتاج السينمائي وقدم بالتعاون جون كاربنتر سلسلة أفلام العنف والرعب التشويقي المسماة \”الهالوين\”، لكن الهاجس الفكري الذي شغله كمبدع عربي قاده إلى إنجاز مشروع سينمائي ملحمي ضخم يسير على نهج وأساليب السينما الهوليوودية ذات الميزانيات الكبرى، فاختار موضوعاً يحكي عن الجانب المشرق لأمته العربية عبر فيلم يحكي رسالة الإسلام ينقلها ليس إلى أبناء أمته فحسب، بل إلى العالم بأسره موضحاً وشارحاً الجذور الأولى للدين الإسلامي، ورسالته الحضارية الى العالم أجمع. فقدم فيلم \”الرسالة\” 1976الذي صار اليوم وثيقة ومرجعية أساسية في الكثير من بلدان العالم لدراسات العالم الاسلامي، وقدم \”المختار، أسد الصحراء\” (1981)، وتعاون فيه مع ممثلين كبار أمثال أنتوني كوين وإيرين باباس ورود ستايجر وأوليفر ريد، في حين أنه تعاون مع الممثل المصري الراحل عبد الله غيث والممثلة السورية منى واصف في النسخة العربية من \”الرسالة\”، إذ أدّى الأول دور حمزة بن عبد المطلب عمّ الرسول، والثانية دور هند زوجة أبي سفيان والد معاوية، في حين أن أنتوني كوين أدّى دور حمزة في النسخة الإنجليزية، إلى جانب إيرين باباس أيضاً ومايكل أنسارا وجوني سيكا.
لم يلتق عمر الشريف ومصطفى العقاد إلا مرات قليلة، وأشيع أن خصاماً قاما بينهما بسبب استعانة العقاد بأنتوني كوين بطلاً لأفلامه فيما لم يطلب عمر، تقابلا في القاهرة واتفقا أن يقوم عمر ببطولة فيلمه \”المطران كابوتشي\” الذي لعب دوراً بارزاً لخدمة القضية الفلسطينية، لكن القدر لم يمهل هذا التعاون كي يتم حيث قتل الإرهاب مصطفى العقاد، في الاعتداء الإجرامي على فنادق عمّان، يوم الجمعة 12من نوفمبر 2005، فاغتيل معه حلم \”المطران كابوتشي\” وحلمه القديم \”الأندلس\”، ومعهما أمل التعاون بين نجمين عربيين إقتنصا مساحتهما الخاصة في هوليوود، هو وعمر الشريف.
في هوليوود بدا عمر الشريف كأنه شخصية شكسبيرية حدثت لها تحولات عنيفة قلبت حياتها رأساً علي عقب، من نجومية متمهلة في السينما المصرية وأسرة مستقرة وأصدقاء أوفياء إلى نجومية مندفعة في السينما الأجنبية ووحدة رهيبة وشتات أسري، والده ووالدته في أسبانيا، وزوجته تطلقت منه، وأصدقائه الجدد هم في الغالب أصدقاء عمل يفتقدون هذا الدالدفء الذي كان يجده في أصدقائه المصريين، فصار عمر في ظل هذه التقلبات التي تأخذه من حال لحال وكأنه بطلاً تراجيدياً تتحكم فيه الأقدار ويهرول في طريق يميناً ويساراً بين السعادة والشقاء.
\”الغربة صعبة.. كلمة كنت أسمعها أحياناً وبالصدفة لكن لم أعرف معناها أو بالأحرى لم أحس بالشعور الكامن بحروف تلك الجملة حتى جربتها ووجدتها بالفعل صعبة جداً، وصعوبتها تكمن في الاشتياق الهائل للأهل والناس والأصدقاء ومصر وحتى الشوارع وكورنيش بحر اسكندرية ونيل القاهرة، شعور صعب عندما تكون وحيداً وشعور صعب عندما تضحك على أمر معين لوحدك وشعور أصعب عندما تحزن لوحدك\”.
في الغربة اكتشفت عمر أشياء كثيرة لم أكن يعرفها قبل السفر، حيث تعرف على بلاد أخرى، أمريكا وأوروبا التي لا تشبه بلاده في شيء، كل ما حوله مختلف؛ ثقافة الأماكن وأسلوب حياة البشر، الصداقة والمعاملة، وحينئذ أدرك أن الغربة صعبة؛ معنى لم يختبره من قبل وإن سمعه كثيراً وكان يصيبه بالدهشة ويتساءل: أليس هذا توصيف مبالغ فيه؟ السفر ليس غربة وإنما اكتشاف، لكن حين خاض تجربته بنفسه، لم يستأنس الوضع الجديد بسهولة وشردت ذاكرته إلى قديمه كلما شعر بالتعب حتى لا تصاب روحه بالعطب.
\”الغربة صعبة جداً على المصريين بالذات، لأننا في مصر لدينا أسلوب معين، يختلف عن كل العالم، وأنا أحب الطريقة المصرية في التعامل والصداقة والعلاقات الإنسانية، وعندما سافرت وتركت مصر كان عمري 29 سنة، وقد تكونت شخصيتي واكتشفت عالماً جديداً وحياة مختلفة، ولايعني ذلك أنني أحببتها، إنما اقتنعت بضرورة التجاوب معها من منطلق إحساسي بأن هذه هي قسمتي ونصيبي، يعني لست أنا الذي أختار طريقه، إنما القدر إختار لي ذلك، هناك أشياء في حياة الإنسان لا يتدخل في صنعها أبداً، حيث يجد نفسه وقد سار في طريق لا يستطيع أن يخرج منه مثل \”الدوامة\”.
تذوق عمر الشريف حلاوة نجاحه في عالم السينما والنجومية وتجرع في ذات الوقت مرارة الغربة التي تركت بصمتها في روحه وانسحبت علي ملامحه ونظرة عينيه المليئة بالحزن والشجن، هي نظرة عميقة تخفي وراءها حكايات كثيرة من الألم والقلق، كان في مصر جامحاً في تمرده وتسيطر عليه فكرة الرحيل، وخارج مصر صار كأبطال أفلامه الأجنبية غريباً يعيش في غير وطنه، وقلِقاً أصبح القلق مثله مثل الغربة جزءاً أصيلاً في شخصيته.
الغربة هي الإحساس الذي لازمه طول رحلته الطويلة التي عاشها متنقلاً بين البلاد وبين الفنادق، مجرد عابر سبيل لا تاريخ له هنا ولا ذكريات، مشدود إلى دفء واحتواء أصدقاء حقيقيين في الوطن، رحل عنهم باحثاً عن بريق النجومية وترف الشهرة وربما رغبة ملحة في حرية أكبر، ومشدود أيضاً إلى هنا حيث أحلامه التي شاغلته وراودته ليجري وراءها بلا فرصة للجدل، هو حائر بين مصر وجذوره والوطن المغلق علي طفولته وصباه وشبابه، وبين العالم الآخر المفتوح علي طموحاته، حتى وجد نفسه في بلاد الأجانب هو \”الأجنبي\” الغريب القادم من بلاد الشرق البعيدة. ارتبك عمر بين محاولته الحفاظ على التوازن بين انتمائه لبلده وتاريخه القديم وبين طموحه الذي لا يوقفه العوائق أي عائق، ومع ذلك لم تكن طريق نجوميته إلى العالمية مفروشة بالورود والحرير، ففي مصر تخلى عن تاريخه الفني الذي صنعه طوال عقد كامل، وفي هوليوود المعقل الأهم والأخطر للسينما في العالم عانى كثيراً، لم يحصل على حريته التي أرادها وصار أسيراً لعقود إحتكار وأدوار استغلت ملامحه العربية وقدمت موضوعات أعلن فيما بعد أنه غير فخور بها وغير راض عنها، كان العربي التائه في متاهات هوليوود وأنظمتها الصعبة، وإن نجح وصنع لنفسه سيرة مهنية تضمّنت عناوين لافتة للنظر ونجاحات متفاوتة، لكنه فهم الحقيقة وعرف أن هوليوود ليست عادلة بل ترزح تحت ثقل عنصرية تعبث بالمصائر ويتحكم فيها لوبي يهودي، يشيرون إليه بصفة \”العربي\” وهذا لم يجعله يشعر بالخجل، لكن بالحسد تجاه اليهود لأنهم \”لوبي\” لديه مخططات يتعاونون علي تحقيقها، كان يتمنى طوال الوقت أن يعرف العرب مثلهم كيف يطرحون قضاياهم وفنهم أمام الآخر، ويقول: \”ما يفعلوه اليهود ليس معجزة لا نستيطع نحن العرب تحقيقها\”، لكن أمنياته كانت تخصه وحده، ويظل عمر الشريف هو الممثل العربي الذي دخل هوليوود يبحث عن فرصة نجومية، فغرست التجربة شوكة في قلبه تحملها في صمت وواصل مشواره يتكتم آلامه التي منحته بُعداً إنسانياً مختلفاً، وأضفت على وجهه وروحه عذوبة وصفاء وعلى روحه صبراً مثل صبر أيوب.
1967 عام النكسة، جلس كعادته يتابع أخبار مصر، هذه المتابعة اليومية التي يقول أنه حرص عليها لسببين، أولهما أنها تشفي غليل حنينه لبلده، وثانيهما لأنه كان طوال الوقت قلِقاً ومتأثراً بما يحدث بلده سواء على المستوى العاطفي أو على مستوى العمل وتعاملات الآخرين معه، فما كان يحدث في مصر انعكس دائماً عليه بشكل أو بآخر، ثم أن وجوده في الخارج كان لا يعني أنه انفصل عن مصر، \”لم أنس وكذلك لم ينس الناس الذين تعاملوا معي غالباً حسب الأحداث السياسية الجارية في الداخل\”. لكنه في هذا اليوم، في الخامس من يونيو 1967 شعر بوجع وحدته؛ وحيد فجأة في أفق مسدود ولا شيء يسانده ولا أحد، أحس بثقل الكارثة التي وقعت على رأس العرب جميعهم والتي أغرقته هو في بحر الهواجس والاتهامات والإنكار، لدرجة أنه أقسم حين حكى عن هذه اللحظة الصعبة أنه كان يسمع أنيناً لوحدته؛ صوت يعلو ويقول له: ماذا فعلت في هذه الدنيا لتستحق ذلك، وحدك هنا تمضي إلى المجهول، وهم هناك ينكرونني ويحيلون اسمي للعدم.
\”ماحدث في 5 يونيو 1967 كان كارثة بكل المقاييس، وضاعف من ثقلها النفسي عليْ أنني كنت أصور فيلماً في هوليوود، وسط اليهود، متأثراً جداً وحزيناً لشيئين، الأول أنني تأثرت لحال الجيش المصري جداً وماحدث لجنوده البسطاء الذين رأيتهم أمامي على شاشة التليفزيون في مشهد حزين ومفجع، والأمر الثاني سخرية اليهود مني ومن الجيش المصري، كان يذبحونني وهم يتسامرون أمامي، ويقولون أن جيش بلدي ترك الحرب وجري، كانت فترة عصيبة عشتها على أعصابي في مذلة وإحساس بالمهانة\”.
تركت النكسة أثرا أليما في نفس عمر الشريف كما تركته في نفوس المصريين والعرب جميعاً، وأعلن جمال عبدالناصر في خطاب رسمي التنحي والعودة إلى صفوف الجماهير، فاندفعت جموعها الحاشدة متوافدة من كل صوب، تطالب عبد الناصر بالعودة وعدم الاستسلام للهزيمة ، وتصرخ \”حنحارب.. حنحارب\”، في ظل هذا المناخ الذي تغلي فيه مصر والوطن العربي، كان عمر الشريف في هوليوود يواصل صعوده الفني وكان مشغولاً بتصوير فيلمه الجديد \”فتاة مرحة\” والذي شاركته بطولته الفنانة اليهودية \”بربارا سترايسند\” وكانت أحداثه تدور في حي يهودي ببروكلين حول علاقة شاب يهودي بفتاة يهودية، فتلقى عمر هجوماً عنيفاً عندما نشر في إحدى الصحف الأمريكية صورة لمشهد غرامي من الفيلم يجمع الإثنين (عمر وبربارا) في قبلة، ما لبثت الصورة أن وصلت إلى القاهرة، ومن ثم نشرت مرفقة بتعليقات مطولة ومقالات متتالية تطالب بإسقاط جنسية عمر واتهامه بأنه خائن، باع وطنه لأنه تجرّأ على تقبيل بربارا سترايسند (اليهودية!) أثناء تعرّض الأمة العربية لهذه النكسة التي شرخت قلبها، ولم ينتبه أحد بأن الفيلم كان تم تجهيزه قبل النكسة وأن عمر أساساً يعمل في هوليوود التي يتحكم فيها اليهود وليس هو، بل أنه ملتزم بقوانين هوليوود في العمل ولا يملك مصيره، لكن لا أحد أراد أن ينتهج أسلوباً منطقياً في النقاش والجدال الفارغ.
\”كانت فترة عصيبة، تلقيت خلالها مكالمة هاتفية من وكالة (الأسوشيتد برس) تسألني عن رأيي في هذه المقالات التي تنشرها الصحف المصرية عني؟ فأجبت بالقول : إنني لا أهتم بأن اسأل فتاة عن جنسيتها أو مهنتها أو ديانتها قبل أن أقبلها، سواء على الشاشة أو في الحياة العامة، إنني أعارض فكرة التعصب القومي والديني، وأكره العنصرية، بل أكره أي شيء يدفع بمجموعة من الناس إلى إحتقار مجموعة أخرى من الناس\”.
والفترة كانت عصيبة بالفعل على عمر الشريف، لأنه كما فوجيء بالهجوم العنيف الذي شنته عليه الصحافة العربية، فإنه فوجيء أيضاً بأن الطرف الآخر يتخذ موقفاً ضده، حيث باغته مدير إنتاج فيلم \”فتاة مرحة\”، هذا الفيلم الذي سبب له الأزمة، يطلب منه بلهجة آمرة الصمت التام وألا يدلي بأي رأي في أي شيء، حاولوا أن يغلقوا فمه على حد تعبيره، وظل بعدها عاماً كاملاً لا يصله سيناريو واحد، وعند هذه العقبة فهم ألاعيب هوليوود وعنصريتها المحمالمحمومة، وصار يصعب عليه أن يجد عملاً، وأنفق في هذه الفترة كل ما ادخره فاضطر أن يشترك في أفلام ضعيفة المستوى وصلت لحوالي 40 فيلم وذلك لسد احتياجه الماضي بالرغم من أنها جرحت رضاه الفني، كان ماحدث معه وحالة الحصار التي فرضت عليه ومنعته من الكلام أو البوح في هذه الفترة ليس فقط جزءاً من عنصرية تجاهه كفنان له أصول وجذور عربية، لكنه كان أيضاً جزء من الرقابة الصارمة المفروضة علي البطل كما أسماها السينمائي بول وارن في كتابه المهم (خفايا نظام النجم الأمريكي) والذي يكشف من خلاله عن السر الخفي في قوة تأثير نظام النجوم للفيلم الأمريكي، كما يكشف أيضاً عن سر هيمنة السينما الأمريكية عامة على المشاهدين في كافة أنحاء العالم.
الأمور لم تمض على هذا النحو طويلاً، حيث عاد عمر الشريف مطلوباً للعمل وقدم بعد ذلك العديد من الأدوار التي تفاوتت في المستوى الفني، مثل دوره في فيلم السطو مع جان بول بلموندو، وقيامه ببطولة مشتركة مع البريطاني مايكل كين في فيلم القرية الأخيرة، وأفلام أخرى مثل رصاصة بالتيمور، مرارة الحب، الحصان الأبيض، الخريف، وفيلم الموعد أمام الممثلة الفرنسية أنوك إيميه، وفيلم أكثر من معجزة مع صوفيا لورين، ثم فيلم ثمار التمر الهندي، حتى قام في العام 1979 بدور قصير في فيلم أشانتي مع الممثل الروسي بيتراستيوف، وفي فيلم أشانتي قدم شخصية العربي الشهواني تاجر الرقيق الذي يختطف زوجة طبيب يهودي بمعاونة أحد المشايخ الأثرياء، وهو أحد الأفلام التي كرست فيها هوليوود الشخصية العربية في الصورة النمطية للشهواني الغارق في ملذاته مع جمله وخيمته في الصحراء أو الإرهابي العنيف، نوع من الكليشيهات الجاهزة، كما يفسر د. جاك شاهين الخبير الإعلامي وأستاذ الإتصال الجماهيري في جامعة جنوب إلينويز في كتابه ( العرب السيئون.. كيف إستطاعت هوليوود تشويه أمة) الذي رصد فيه 900 فيلماً أنتجتهم هوليوود وقدمت فيهم الصورة السلبية للشخصية العربية، ومنه أفلام مثل الشيخ (1921) للنجم الشهير رودلف فالنتينو، الأم (1932) ، سيدة الشارع (1953)، نزوح جماعي (1960)، الحصان الأسود (1979)، قوة الدلتا (1986)، إيرنيست في الجيش (1997)، قواعد الإرتباط (2000)، وغيرها من أفلام وصفها المفكر الراحل إدوارد سعيد في كتابه (الإستشراق) بأنها مثالاً لفكرة الاختراق الاستعماري، فعلى المستوى الجماعي يخترق الأوروبيون أرض الشرق وأهله ويقتحمون حتى الأماكن المقدسة، وعلى المستوى الفردي لايسمح للإنسان العربي كما يصورونه كنموذج للعنف والجنوح.
كان حظ عمر الشريف أن أول أفلامه (لورانس العرب) أظهر صورة العرب موزعة بين عرب أخيار وعرب أشرار، لكنهم في النهاية عرب يجنحون للعنف ويتمزقون بين نوازعهم القبلية، كما أوحى الفيلم بأن العرب ضعاف وعاجزون عن حكم أنفسهم بأنفسهم وأنهم في حاجة ملحة للقيادة الأوروبية، ثم يأتي دوره في فيلم \”أشانتي\” الذي أثار ضده هجوماً عربياً عنيفاً وصل إلى درجة أنه تمت مقاطعته عربياً بتهمة تعاونه مع الصهاينة، خاصة وأن الفيلم تم تصوير جزء كبير منه في صحراء النقب بفلسطين المحتلة، ومثل فيه بعض الممثلين الإسرائيليين، وحقيقة الأمر أنه عرض دوراً رئيسياً علي عمر الشريف في هذا الفيلم ثم سحب منه عقاباً له علي رفضه السفر إلى اسرائيل، واضطر لقبول دور صغير فيه لأنه كان مقيداً بعقد.
\”عُرض عليّ هذا الفيلم وفيه الدور الرئيسي الثاني، والذي أداه الممثل الهندي فيما بعد، على أساس أن الفيلم سيصور في المغرب، وفي آخر لحظة قال المنتج أنه سيصور في إسرائيل . قلت له : أنا لن أذهب الى إسرائيل، ليست لدي الرغبة في أن أصور في إسرائيل . قال: إنك مضطر لأنك وقَّعت العقد، وأنا بعت الفيلم على اسمك . قلت : هذا لا يهمني ، لقد إتفقنا على المغرب ولن أذهب إلى إسرائيل، فاعطي الدور إلى ممثل آخر، لكنه قال: عليك أن تقوم بدور صغير حتى أستطيع أن أضع إسمك على ملصقات الفيلم . فاقترح أن نصور في مدينة بالرمو في صقلية ، ودفع ـ بالضبط ـ مبلغ مائة ألف دولار مقابل التصوير لمدة أسبوع، وكنت في ضائقة مادية حينها \”.
لعل هذه الواقعة توضح مرة أخرى ألاعيب هوليوود، وهو ماقاله سام كين فيما بعد في رسالة له عام 1986 وجهها إلى جمعية رسامي الكاريكاتير الأمريكيين: \”يمكنك أن تضرب وتصيب العرب الى ما شاء الله وبحرية تامة ومجاناً، إنهم هنا مجاناً كأعداء وكأشرار، في حين أنه لم يعد بإمكانك أن تفعل نفس الشيء مع يهودي أو أمريكي أسود\”…
ذلك النفوذ الذي عبر عنه أيضاً نجم مثل الراحل مارلون براندو في العام 1996 حين فجرت مقولته عاصفة من الجدل حيث قال في مقابلة مع المذيع اليهودي لاري كنج على شبكة (سي إن إن) التلفزيونية الإخبارية: \”إن هوليوود تدار من قبل اليهود، ويملكها اليهود، ويتعين عليهم أن يظهروا حساسية أكبر تجاه قضايا الناس الذين يقاسون من المعاناة\”\”.
ومن ذلك النفوذ عانى منه عمر الشريف كثيراً لكنه لم يتخل عن أصله واسمه العربي كما فعل ممثلاً شهيراً حاز على جائزة الأكاديمية للتمثيل (1984) عن دوره في الفيلم الرائع أماديوس (الذي يروي قصة حياة وموت موزارت) يخفي اسمه العربي، وهو فريد موراي ابراهيم، ليصبح ف. موراي ابراهام، ويقول لاحقاً :عندما ابتدأت التمثيل لم أستطع استخدام اسمي لأنني لو جئت باسمي فريد ابراهيم لما حصلت على أي دور مهم.
ولم يكن يكفيه ما يعانيه في هوليوود حتى يواجه بمقاطعة عربية اتهمته بالخيانة، تألم عمر من المقاطعة العربية له: \”لم أذهب إلى إسرائيل، رفضت الذهاب، فبماذا يتهمونني؟ لأنني صورت فيلماً لم أذهب من أجله إلى إسرائيل ؟ لقد شرحت كل هذا لجامعة الدول العربية، وعلى هذا الأساس رفع الحظر، فماذا يريدون مني ؟\”. وغضب عمر أكثر حين أراد الجانب العربي الذي وجه له اللوم، استثمار الأموال في السينما العالمية، بإنتاج فيلم الرسالة للمخرج الراحل مصطفى العقاد، ولم يفكر فيه أحد بالمرة، واستعانوا بالممثل \”أنتوني كوين\”، بالرغم من أن رأسمال الفيلم والمخرج والموضوع عربي، في الحقيقة، إن المقاطعة العربية ظلمت عمر الشريف كثيراً وهو الذي تمزق بين خصام أهل وطنه له وهجومهم العنيف عليه في المجلات والصحف العربية، وبين سطوة رأس المال اليهودي على السينما الأمريكية، فعندما بدأ عمر الشريف مشواره نحو العالمية، وأصبح أحد نجومها الكبار، شنت عليه الصحف الصهيونية هجوماً أعنف بعد ما أشاعوا أن عمر كان طياراً سابقاً أغار على إسرائيل وقتل أهلها.
ذات يوم فوجيء بمراسل \”الاسوشيتيد برس\” يتصل به تليفونيا ليخبره أن بلاده تنوي سحب الجنسية المصرية منه وأن بعض الصحف المصرية كتبت ذلك، ثم جاءه بنسخة من مجلة فنية مصرية بها مقال بعنوان:\”امنعوا الجنسية العربية عن هذا الممثل الرقيع\” وإلى جانب المقال صورة القبلة بينيه وبين \”بربارا سترايسند\”، ثم سارعت وكالات الأنباء الأجنبية التي يسيطر عليها اليهود بنشر الخبر، فانفعل عمر الشريف وقال للمراسل الصحفي: \”إنني مصري وابني مصري، وإنني متمسك بجنسيتي المصرية وبولائي لبلدي مصر، وإنني أعمل في الخارج وأنا أحمل اسم بلادي ونجاحي في العالم هو نجاح لها\”، لكن المجلة الفنية المصرية استمرت في حملتها عليه وأكدت أن هناك علاقة عاطفية بينه وبين هذه الممثلة الاسرائيلية،بل وأنه تجنس بجنسيتها\”.
وفي يوم آخر وقف عمر مع صديقه الفنان عبدالحليم حافظ والسفير أحمد حسن الفقي في أحد فنادق لندن، وإذا بشاب عربي يندفع نحوه ويسأله بعصبية: لماذا تركت جنسية بلادك وتجنست بجنسية اسرائيلية أو فرنسية؟.. لحظتها أحس عمر بالألم يعتصره وصاح في الشاب بعصبية أكثر: أنني سأعيش وأموت مصرياً، وأحمد الله أن جواز سفري كان في جيب سترتي. ثم أخرج جواز سفره بسرعة وهو يصيح: انظر.. لقد جددته لثلاثة أعوام أخرى في سفارتنا في روما. وتدخل في تلك اللحظة السفير أحمد حسن الفقي وقال له: انني هنا سفير مسئول أتحدث اليك علي هذا المستوي من المسئولية لاؤكد لك أنك موضع تقدير من بلدك وأن كل ما تريده منك بلادك أن تستمر في النجاح رافعاً اسمها. في هذه اللحظة المفعمة بالشجن بذل عمر جهداً كبيراً حتى يحبس دموعه.
البريدج في ليل الغربة
أسفر المجهول عن غربة بلا ميناء خطفته سريعاً حتى أنه لم يعد يجد فرقاً بين بابي الدخول أو الخروج، وفي ليل الغربة ووحشته وسطوة معارك الاحتكار والمقاطعة، عرف عمر أن وجوده في الغرب لم يكن مجانياً، وحدته كانت الثمن الذي دفعه، ثمناً أرهق روحه التي افتقدت الأصدقاء الحقيقيين، الوحدة كانت تزعج ليله لم ينجح في الاعتياد عليها أو أن يجعل منها صديقته، خاف عمر من هذا الإحساس وقرر أن ينحاز لشخصيته الصاخبة، جاء هذا الاختيار رغم تطرفه أفضل من الاستسلام لأحزان وورطات واقع لا تتسع خاناته إلا للأرقام، فكان السهر داخل كازينوهات القمار هو البديل لحياة أخرى قاتمة لم يعد يعرف فيها طعم البيوت والحياة الحميمية وسط عائلة تحبه وتحيطه بحنانها، فقد هجر برغبته العائلة والزوجة والوطن، ووالده ووالدته، عائلته الأخرى شاءت الظروف أن تختفي هي أيضاً من حياته عندما سافرت إلى اسبانيا لتقيم هناك، كل ذلك جعله يشعر أن الدنيا بلا طعم ولا لون، ولم يكن يطمئنه سوى اتصالاته الهاتفية اليومية بوالدته، أو أن ينتهز فرصة تصوير بعض الأفلام في دول أوروبية ويحصل على إجازة ليسافر إلى اسبانيا وتأنس روحه بها ويرتوي من حنان والدته ودفء عائلته، ولكن هذا كله كان يبدو بمثابة الدواء المسكن لوحدة صارت تتوحش في حياته الخالية من الحب الحقيقي بالرغم من زحام المعجبين والأصدقاء والصديقات، بمجرد خروجهم يجد نفسه مرة أخرى بغرفة في فندق مع وحدة ترهقه وتجهد جهازه العصبي.
ـ ماذا أفعل في حياتي هذه؟
عمر الشريف النجم الكبير كان يسأل نفسه هذا السؤال يومياً، يملك كل ما يتمناه: الشهرة والنجومية والنساء الجميلات، غير أن ثمة فراغاً عميقاً بداخله يعذبه، لم يبصر الشريف ما يثير أو يغير بوصلة الملل ويخرجه من براري القلق سوى أن يلعب مع الحياة ولا يلتفت لأشياء تشدد عليه الرقابة وتعيده مكسوراً لبداية الطريق، ففي صغره علمته أمه أن الحياة لعبة والبقاء فيها للأذكى، وأن الأذكى من يجلب السعادة إلى نفسه ولا يغرق في فخاخ الطاقة السلبية، وعلمته أيضاً أن يجيد لعب البوكر والبريدج، حتى صار واحداً من أبرز لاعبيها، وقد صرح عمر ذات مرة في حديث تليفزيوني أن انطلاقه في عالم البريدج بدأ بكتاب يطبق أسس الرياضيات في لعبة البريدج، قرأ الكتاب بالصدفة وهو المعروف عنه ولعه بالقراءة والكتابة أيضاً حتى أنه كان قد كتب عدة مقالات لبعض الصحف، ومن البريدج ولعب الورق حصد عمر الملايين، وتمرّس العيش وحيداً بالفنادق الفارهة فى باريس أو لندن، والسهر حتى الخامسة صباحاً كل ليلة فى الكازينو.
البريدج كان وسيلته للهروب من الوحدة وأيضا ليتحسس وجوده الإنساني بعيدا عن عالم الشهرة والفن والأضواء لأن الجميع في هذه اللعبة، كما يقول بنفسه، يكونون سواسية لا فرق بين لاعب وآخر، بدأ عمر الشريف لعب البريدج في موقع تصوير أحد الأفلام وعمره 22 عاماً، لم يكن غريباً علي لعبة الورق التي عشقها من والدته المحترفة فيه والتي كانت تلعب مع الملك فاروق الذي كان يعتبرها تميمة حظه ولا يمكن أن يلعب بدونها، فورث عمر عنها هذه النزعة إلى المقامرة والتحدي وحب المخاطرة، وكبرت هذه النزعة ولازمته في سنوات غربته ووحدته، فكان حين يشعر بالضيق يخرج فوراً باحثاً عن أفق أوسع يحرره من هذا الضيق أو من القلق الذي كان ينتابه أمام المجهول، فيذهب إلى كازينو القمار ليحقق شعور التحدي بداخله، وكان على إستعداد لأن يفعل أي شيء يخرجه من حالات الملل.
صرح الشريف عند سؤاله في راديو بي بي سي عام 1978 عن ما هي أكثر رفاهية يريدها؟ فأجاب: \”لا أعتقد أنه يمكنني الحياة بدون مجموعة من الأوراق في يدي\”، لكن الأوراق وأندية القمار أفلساه، بعد خسارة 750 ألف دولار في لعبة الروليت، أجبر على بيع منزله بباريس وأعلن: \”لا أمتلك أي شئ عدا بعض الملابس، أنا وحيد و محطم تماماً. كل شئ كان يمكن أن يكون جيداً لو فقط وجدت المرأة المناسبة\”، واعترف أن إدمانه القمار كان جنوناً لكنه لم يقدر على التوقف. ألقى باللوم على الملل، والوحدة. اعتاد وكيله على مكالماته البائسة التي فيها يطلب منه عمل من أجل سداد ديونه العاجلة، حتى انتهت اللعبة بعد عشرات السنين بخسارة كبيرة على يد رجل إنجليزي يدعى سام بينادي، ألحق بعمر الشريف خسارة كبيرة في أحد أخطر لعب القمار \”لعبة الجسر الأوروبية\”، وفقد قصراً فخماً كان يطلق عليه اسم كازا، بلغ ثمنه 4.5 مليون جنيه إسترليني، وكانت مساحته تصل إلى 7 آلاف متر ويقع في جزيرة لانزراروت الأسبانية، وكان القصر بمثابة تحفة معمارية من أروع الأماكن التي بنيت على المحاجر البركانية.
\”كل إنسان هو هاوية، نُصاب بالدوار إذا نظرنا إليها…\” جملة الألماني جورج بوشنر الشهيرة في مسرحيته \”فويتزيك\”، والتي تكاد تنطبق على علاقة عمر الشريف بصحافة الإثارة التي لهثت وراءه وسعت ترسم له صورة النجم الماجن في ليل الكازينوهات على طاولات القمار، صورة أرضت غريزة التطفل وأشبعت لذة التشويه لدرجة الهوس، وهو إدمان آخر يتغذى على خصوصية البشر، ولا يقل خطورة عن إدمان القمار الذي تسلل إلى عمر الشريف، كانت هذه الصحافة تصاب بالدوار وهي تحاول أن تتسلل إلى حياته، فتجدها بئراً عميقة تخفق في الوصول إلى نهايتها فتكتفي بما ظهر علي السطح، بالصورة الخارجية وهي عادة تكون خادعة. تقارير الصحف التي طاردته محاولة أن تقتنص له فضيحة أو حادثة مثيرة كتبت عنه أنه نجم يتنفس بالشهرة والمجد والمال، وأنه مدمن للقمار، ولم تنزع القشرة لتشهد غليان القلق والوحدة، فهذا شيء لا يعنيها ولا يخص طبيعتها الفضائحية، وربما تجد واحداً من روادها يصرخ في وجهك : أنا لست بمصلح اجتماعي.
\”المسألة ببساطة أن حياة الفنادق التي كنت أعيش فيها كانت مملة والكازينوهات في هذه الفنادق كانت مثيرة، لذلك كنت أقامر وأخسر كل نقودي\”.
القمار، إذن، كان الوجه الآخر لوحدته في المتاهة التي دار فيها وحاولت أن تنل منه وتجعله مجرد حطام روح، فلقد اختاره عمر منتصراً للحظات المتعة التي حولها عنواناً عريضاً لحياته، تلك اللحظات الوحيدة التي كان يشعر فيها بأنه لم يزل ضمن قائمة الأحياء على هذه الأرض.
\”فلسفتي في الحياة هي أنني أعيش كل دقيقة بكل قوة كما لو كانت آخر دقيقة في حياتي، ولا أفكر فيما حدث قبلها ولا ما سيحدث بعدها، فأنا أفكر فيما أفعله في هذه اللحظة، أما اسوأ شيء، فأنا لا أعرف أنه بالفعل أسوأ شيء ولكن من اسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث هو أن تموت ويكون آخر شيء قمت به أو آخر ليلة قضيتها قبل الموت كئيبة ومملة\”.
لم يحسب عمر حساب المستقبل، فهذا لم يشغله وإنما كل ما اهتم به هو اللحظة الآنية التي يعيشها، كان يخاف من الحياة الكئيبة التي تخلو من مظاهر تدل علي وجوده وحضوره كإنسان، والتي تحرمه من معتقداته الشغوفة بالحياة بدون تعاسة، والقمار لم يكن مجرد إختيار، لكنه أُجبر عليه بسبب ظروف عمله ونجوميته وشهرته ووحدته.
\”القمار لماذا؟ .. أنا طوال الوقت كنت أعيش في فنادق وأحمل شنط وأتنقل من بلد إلى بلد فكل أفلامي كانت في بلدان مختلفة وكنت أذهب إليها وحدي، فحينما أصل إلى دولة ولا أعرف فيها أحداً، فماذا أفعل؟ أين أتناول العشاء؟ كنت أذهب إلى كازينو، فهذا هو المكان الذي تستطيع فيه أن تأكل وحدك دون أن يستغرب منك أحد أما إذا ذهبت إلى مطعم ووجدوك تأكل وحدك سيقولون عنك مسكين لا يعرف أحداً يتعشى معه، ومن هنا وجدت في اللعب تسليتي الوحيدة لأنني \”بازهق\” سريعاً لكن لو كان عندي أصدقاء أو شخص يعيش معي لكان الأمر أفضل والحياة في حد ذاتها مصدر سعادة، وبالتأكيد فإن القمار كان لا داعي له، كنت فقط أذهب إلى الكازينوهات حينما أفتقد الأصدقاء ولا أجد أحداً بجواري يعيش معي، أنا لا أحب القمار ولكنه يخرجني من وحدتي\”.
عادة، يمثل القمار بالنسبة للاعبيه حالة من التحدي لقدرات الإنسان المحدودة، كما قال الطبيب النفسي الراحل د. عادل صادق في كتابه الشهير \”أسرار في حياتك\” الذي ورد فيه:\” إنها حالة تحد لقدرة حواسه التي تقف عاجزة عند حد معين، فهو لا يستطيع أن يرى إلا وجهاً واحداً من العملة في وقت واحد، لا يستطيع أن يرى الوجه الآخر للورقة المقلوبة، وهو لا يستطيع أن يمد يده ببساطة ليعرف هذه الوجه الآخر، إن هذا الوجه المقلوب يشكل تحدياً له ولغيره، وكما أن الإنسان يعيش في السياق الاجتماعي مع الناس، فهو يعيش أيضاً في سباق مع الناس لابد أن يثبت قدراته فيه لكي يحظى بالتفوق، ولهذا فهو لايملك إلا أن يخمن شيئاً وليخمن الآخرون شيئاً آخر، و تكون نشوته عارمة حين يصدق تخمينه و يفشل الآخرون\”.
والبريدج بالنسبة لعمر الشريف كان يمثل هذه الحالة من التحدي التي وصفها د. عادل صادق، فهو كان يشعره ليس فقط بالإنتصار على الآخرين بل وعلى خوفه الداخلي من المصير وحيداً، وحتى عندما كان يخسر يتولد لديه شعوراً مختلف بمتعة أخرى تحققها له أحاسيس أنه لم يزل لديه مشاعر حية قادرة على الغضب كما الفرحة، وفي كل الأحوال تغمره موجات من القلق والتحدي تدور بداخله تتصاعد مع الخسارة أو الفشل حتي يأتي الانتصار ليزيل هذه الأحاسيس، بالضبط مثل المعادلات الرياضية الصعبة التي تستعصي على الحل بسهولة.
\”منذ طفولتي كنت صاحب عقلية منطقية، أحببت الرياضيات لأن كل مسألة رياضية كانت لغزاً بالنسبة لي، لذلك أيضاً أحببت لعب الورق والبريدج بالتحديد لأنه مثل الرياضيات يحتاج لعقلية منطقية، وخلال فترة اللعب يتعين علي المرء حل سلسلة من الألغاز\”.
طاولة البريدج منحت عمر الشريف أحاسيس الفوز والخسارة وكانت مهمة بالنسبة له، فهذا التناوب أو الانتقال من الهزيمة إلى النصر وما يصاحبه من إحساس بالنشوى واندفاع الادرينالين هو ما كان يسعى إليه ويدفعه إلى اللعب، فعندما يكون الربح سهلاً جداً أو تكون الخسارة شبه مؤكدة عندها تضعف كثيراً أحاسيس اللذة المرافقة للعب، التي كانت تتضاعف عند حصول الفوز بعد مجهود كبير وخسارة متكررة، فقد كانت تلك الأحاسيس هي الجسر الذي يعبر من خلاله إلى ضفة السعادة وينسى مؤقتاً أية تعاسة يمر بها، ولكن في ذات الوقت لم يكن البريدج ولعب الورق بالنسبة له هدفاً للحصول على مكاسب مادية كما يفعل آخرون، وإنما أكد عمر الشريف أنه لم يلعب البريدج كقمار طوال حياته، فما شده إلى هذه اللعبة ليس هو المكسب والخسارة بل التحدي العقلي والذهني، كان عشقه لهذه اللعبة كجنونياً، حتى أنه كان يرفض الاتفاق على تصوير أي فيلم تتعارض مواعيده مع إحدى مسابقات البريدج، كان لاعباً ماهراً في البريدج سعى إلى درجة الكمال، لكن البريدج مثل الجولف لا يمكن الوصول فيه لدرجة الكمال خاصة مع وجود شركاء في هذه اللعبة.
وعمر لم يحب لعبة البريدج فقط، بل لعب كل شيء يستطيع أن يراهن عليه حتى ولو كان الخيل، وبالفعل وقع في غرام الخيل فجأة، فقرر أن يقامر عليه وبعدها أصبح مالكاً لاسطبل خيول كبير، وبعد أن حققت خيوله بعض المكاسب قام بتوسيع الاسطبل الخاص به، حتى استثمر مبالغ طائلة من هذه العملية، واستطاع أن يكسب في ثلاثة سباقات مهمة، ولم لا وهو الذي تعود أن يراهن.. وأن يكسب!! زادت اهتماماته في تربية الخيول والسكربل وظل البريدج طموحه الأكبر حتى من الطموح السينمائي.
\”أمام البريدج كنت أتجاهل كل شيء فقد شكلت في عام 1968 مع ثلاثة إيطاليين أول فريق لمحترفي البريدج ومنحتني اللجنة العالمية للبريدج لقب (لاعب السنة) عملت بعد هذا ناقداً ومعلقاً على مباريات اللعبة وتمرست فيها وأتقنت فنونها في صحيفة (صانداى إكسبريس) البريطانية ومجلة (فيجارو) الفرنسية وكنت أحلم بتكوين فريق مصري للمشاركة في بطولات البريدج العالمية\”.
وفي اعترافات الشريف لا ينكر أنه وقع في فخ الخسارة، حيث خسر أموالاً كثيرة، بل وخسر كل شيء من أسهمه ومدخراته، عندما إنهار سوق الأوراق المالية الأمريكية، ولأول مرة في حياته بدأ يواجه مشكلات مادية، جمع ثروة كبيرة في حياته هدرها بالكامل على طاولة القمار، أنفق الكثير من المال ولم يحسب حساب المستقبل بل كان يعيش حياته يوماً بيوم، ينهك نفسه أحياناً حتى تعرض لأزمات في الصحة العامة وتشنج في عضلات جسمه ورقبته وتكلس المفاصل ووجع الظهر بسبب الجلسات الطويلة على طاولة البريدج.
استمر عمر في تنقله من لندن إلى باريس إلى هوليوود وغيرها، حتى إستقر به المقام في باريس في بداية الثمانينيات، وأصبحت السينما بالنسبة إليه مجرد أكل عيش (كما قال)، فقد كان لا يشارك في أي فيلم إلا إذا أحس بضائقة مالية، فهو يذكر ـ بصراحة ـ في إحدى مقابلاته الصحفية بأن عمله في السينما يرتبط بخسارته على موائد البريدج: \”عندما كنت أترك صالة ألعاب بعد أن أكون قد خسرت كل نقودي، كنت أتصل بمتعهدي كي يجد لي دوراً ما في أي فيلم\” ، ومعنى هذا أنه إنغمس في مباريات البريدج والسهر ومراهنات سباق الخيل، لذا إنحسر نجمه لفترة طويلة، ما أشعره بضرورة أن يجتاز مرحلة حساسة من مراحل التحدي الشخصي، وضرورة إثبات الوجود، ذلك لأنه أراد أن يبرهن لنفسه وللسينما العالمية التي خذلته، أن بإمكانه النهوض من كبوته الفنية.
\”كان لابد أن أذاكر وأدرس جيداً وأرجع للكاميرا والتصوير، كان لابد أن أنتهي من لعبة البريدج التي كانت تأخذ جزءاً من مخي، كنت أفعل أشياء ساذجة لمجرد دفع نفقات الكازينو، أما الآن فالأمر مختلف أنا أحب عملي جداً والتمثيل أصبح الشيء الوحيد الذي أحبه، ولذلك قلت لابد أن أركز علي التمثيل فقط في الفترة الباقية من عمري\”.
ثم توقف عمر عن ممارسة لعبة البريدج التي كان يتمتع فيها بشهرة كبيرة على مستوى العالم حيث خاض العديد من المنافسات العالمية وقال \”لا أريد أن أنهي حياتي كعجوز يمارس البريدج\”.
فتش عن المرأة
كما عشق البريدج، برع في لعبة أخرى وهي لعبة الحب والهوى، فكان ساحر النساء واعتبروه من أكثر الرجال وسامة في العالم، ثم تقاطعت خطوط حياته متقاطعة مع البريدج والحب، فبدا وكأن كل إنتصار يحققه في اللعب يساويه إنتصار آخر في الحب، بل أن مشاهديه ومتابعيه في مباريات البريدج كان في الغالبية من النساء.
سارت حياة عمر الشريف فترة طويلة على وتيرة واحدة، فكانت مثل ورقة اللعب، وجه للبريدج ووجه للنساء، يلعب كثيراً ويدخل في منافسات شرسة على طاولة اللعب، ويحب كثيراً ويدخل في مغامرات عاطفية عنيفة مع أجمل النساء، وكما لم يهتم بحسابات المكسب والخسارة في لعب الورق لا يتوقف كثيراً عند نهاية قصة حب، لأنه دائماً كان هناك حب جديد يطرد حباً قديماً، كما أنه كان بارعاً في إنهاء علاقاته العاطفية عند نقطة معينة، نقطة اللاخسارة بحيث يصبح في النهاية هو والطرف الآخر صديقين.
\”لم أحب أي امرأة عرفتها بدليل أنني لم أتعذب في هواها\”!!
غريباً كان يرى نفسه في مرايا نساء غريبات، لا يلعب معهن دور العاشق، وإنما بين امرأة وأخرى يخطو على جسر من سراب، فهو فعلياً كان ينقصه الحاضر ولا يملك تصوراً لمستقبل علاقة، لكنه كان يمكن أن يصبح بعد ذلك صديقاً وفياً إذا لزم الأمر، وحين كان يدير ظهره لامرأة لا يطلب منها سوى النسيان، لأنه هو ذاته غير مطمئن وليس من شأنه أن يمنح شيئاً يفتقده. المثير أنه لم توجد امرأة أرادها ورفضته، لم يتعذب ولم يسهر ويفكر، على العكس كل شيء حدث سهلاً، ونجح في الحصول على مراده بطريقته التي تشعبت فيها الرغبة والحميمية والتراجع في اللحظة المناسبة بهدوء ودون أن يدوس أي طرف على الآخر.
\”كنت أحصل على أي امرأة أريدها لأنني أعطي نفسي كلية، ومن هي هذه المرأة التي ترفض هذا الكم الكبير من الدفء الإنساني؟ فأن تعطي، أن تواسي، أن تحمي، أن ترشد. هذه هي مميزات الرجل، وإلغاء هذه الأشياء معناه إلغاء إمتياز الرجل\”.
كما عرف عمر الفرق بين امرأة وأخرى، ودائماً كانت تعجبه امرأة معينة، امرأة تشعره بذاته دون أن تتخلى عن ذاتها وتلغي وجودها من أجل أي شخص حتى لو كان حبيبها، فهذا يسلبها ماهية وجودها ويسرق من روحها.
\”أحب المرأة التي لها شخصيتها المستقلة، لا تكون تابعا لزوجها، تعتمد على نفسها ويعتمد عليها، أحب في المرأة طريقة تفكيرها، وأحب الحوار معها، المرأة الذكية التي لها أحلام تسعى لتحقيقها تجذبني، وفي نفس الوقت أرفض المرأة عندما تشعرني بضعفها وبأن لا حيلة لها، كما أرفضها عندما ينتصر ذكاؤها على حبها وتتعامل معي من منطق قوة الرجل، فأنا أحمل ملامح الرجل الشرقي بداخلي مائة بالمائة\”.
هنا يطل المزاج الشرقي لعمر الشريف الذي تعجبه وتجذبه المرأة القوية التي تستخدم ذكاءها وأنوثتها، لكنها في ذات الوقت لا تتعارض وتتناقض معه علانية، بل التي تثبت له ببعض الوسائل التي يفضل ألا يعرفها أنه مخطيء، على ألا تواجهه رأساً برأس على قدم المساواة، فهو يرفضها لأنها هنا تعطيه إحساساً بالعجز.
\”فشلت المرأة الغربية في أن تحتل حياتي أو تقتحمها بالشكل الذي يجعلني أرتبط بها إلى الأبد، دائماً كنت أقارنها بالمرأة المصرية، فأجد أن الفرق كبير بالنسبة لي أنا الذي اعتدت علي دفء المرأة المصرية وحنانها وتفانيها وشخصيتها التي تحمل القوة والضعف معاً، لذلك لم أستطع الدخول في علاقة حب حقيقية في الخارج رغم كل الحكايات التي كتبت عني.. لا أتفق مع السيدات الأجانب، عقليتي لاتتفق معهن، أسلوب كلامهن وأسلوب تصرفاتهن فوق قدرة إحتمالي، الأجنبيات شكلهن حلو ولطيف، لكن عاداتهن مختلفة عن عاداتنا تماماً، قصة العلاقة عندهم علاقة عافية، وأنا لست من نوع الرجال اللذين يقولون بأن الرجل أهم من المرأة أو العكس، أنا رجل متحضر جداً، لكن هناك أسلوب لابد للمرأة أو بالذات الزوجة عليها أن تعامل به رجلها، هذا الأسلوب هو أسلوب الأنوثة، أسلوب المشاعر، وليس أسلوب القوة والعافية، أنا لست معتاداً أن تكلمني الست بطريقة مستعفية\”.
وقعت كل بطلات أفلامه في غرامه بدءاً بفاتن حمامة وانتهاءً بأنجريد برجمان وباربرا سترايسند وكانت لكل منهن حكاية يعيشها بصدق وقوة ثم ينساها، في العام 1968، عمل مع بابرا سترايسند فى الفيلم الموسيقى (فتاة مرحة)“Funny Girl” وقال عنها :\”اعتقدت أنها ليست جذابة للغاية فى البداية؛ لكن بالتدريج ألقت بسحرها على أغرمت بشدة بموهبتها. وكان الشعور متبادلاً لأربعة شهور، الوقت الذى أخذه تصوير الفيلم\”.
تزوج عمر الشريف مرة واحدة، ولم يفكر في الزواج مرة ثانية بعد طلاقه من فاتن حمامة رغم أنه أقام علاقات عشرات المرات مع نساء رائعات الحسن والجمال، تزوجت فاتن بعد انفصالهما من الدكتور محمد عبدالوهاب وصارت صديقته حتى أنه كان يأخذ بمشورتها وصلت في أعماله الفنية في مصر، ومع ذلك ظلت فاتن المرأة الوحيدة التي اقتنع بالزواج منها.
كانت تعجبه نساء باريس بالذات خاصة بعد قصة الحب العنيفة التي حدثت بينه وبينه الممثلة الفرنسية الشهيرة \” أنوك إيميه\” والتي كاد أن يتزوجها ثم عدل فكرته لأسباب يقول أنه لم يعرفها، لكنه في حقيقة الأمر كان يخاف من فكرة الزواج ويشعر أنها ربما تشكل عليه قيداً، وربما يظلم من سيتزوجها لأنه لا يعيش حياة مستقرة.
\”أنا رجل أعيش حياة متعبة للغاية لايمكن أن يكون فيها مكان لامرأة تبحث عن الإستقرار، حياتي غير طبيعية، غير مستقرة في مكان واحد، معظم عمري قضيته في الفنادق، لم تكن عندي مواعيد نوم واستيقاظ ولا مواعيد طعام، لم أستطع أن أتزوج وأرتبط بواحدة تسافر معايا العالم من مكان لمكان\”.
التقت \”آنوك إيميه\” بعمر الشريف أثناء تصوير فيلمهما \”الموعد\” إخراج سيدني لوميت، أحبته فأحبها، وتفانت في إظهار هذا الحب الذي أبهر عمر وجعله يتشبث بهذه الفتارة الرقيقة التي اقتحمت فجأة وبهدوء حياته حتي صارت ملمحاً أساسياً فيها لا يمكن الإستغناء عنه.
\”لقد أعطاني فيلم الموعد الفرصة لأن أقابل من أعتبرها أكثر النساء غرابة وهي \”أنوك إيميه\”، لقد كانت دون أدنى شك فتاة رائعة الجمال ذات صفات لم أجدها في امرأة، فهي تعرف بالضبط كيف ترضي الرجل الذي تحبه وتجعله سعيداً، أنوك رفيقة مثالية، فكرت أننا يمكن أن نرتبط، لكن القدر فرق بيننا، كيف حدث هذا؟ كانت غلطتي؟ أم غلطتها؟ لا أدري ولكنني في وقت ما من علاقتنا أردت حقاً أن أتزوجها ولكن الحاجة لأن أحتفظ باستقلالي هي التي إنتصرت ولقد أثبتت التجربة أنني كنت علي حق\”.
وهكذا انفصل عمر عن أنوك إيميه، ثم قابلها بعد ذلك في استوديو \”فوكس\” مع الممثل ألبرت فيني، لقد كانت تعيش معه قصة حب ثم تزوجته بعدها بينما كان عمر يفكر في امرأة جديدة، ومثلما صار عمر الشريف صديقاً لفاتن حمامة وزوجها، صار أيضاً صديقاً لأنوك إيميه وزوجها، حتى أنه إستطاع أن يقنع أنوك بالتمثيل في فيلم كانت ترفض العمل به لأن حبيبها \”ألبرت فيني\” كان يعمل في فيلم آخر في بلد آخر وكانت تريد اللحاق به إلا أن عمر إستطاع الاتصال بصديقها ليجعله يقنع بالإتصال أنوك، وبالفعل حدث.
وهذا التلون الرومانسي هو مما ورثه عمر الشريف عن والدته التي كان يشعر بأنها المرأة الوحيدة التي تمنحه الحرية وتجعله يتوغل بجرأة أكثر في الحياة، تلك الأم العجيبة فبالرغم من أنها كانت تبدو استحواذية، لكنها بالنسبة لابنها نافذته على العالم المتحرر، أمه التي كانت تذهب إلى السينما لتكون أول من يشاهد أفلامه وتردد بفخر أمام الجميع كل أفلام ابني جميلة، هي المرأة التي أراد عمر دائماً نموذجاً يشبهها ليستطيع أن يرتمي في حضنها إلى الأبد.
\”لقد كانت أمي دائماً موجودة في حياتي لدرجة أنني لم أكن أشعر بالحاجة لامرأة أخرى، وأنا إنسان حر أحب أن تكون لي صديقة أو حبيبة، لكن لا أحب أن أنام في فراش واحد مع أحد، فعندما يحين موعد نومي يجب أن أنام وحيداً في الفراش\”.
وانتهى ولعه بالعلاقات النسائية بنفس السهولة التي تخلى فيها عن عادة تدخين 100 سيجارة في اليوم، عقب أزمة قلبية عام 1994. حين انهار في فراشه بفندق جورج الخامس في باريس ووسط ألمه لم يستطع التفكير في أي شخص ليساعده، وعاش أكثر من عشرين عاماً بدون امرأة.
\”لقد تعودت على الحياة بمفردي، أتناول طعامي بمفردي، أنام بمفردي، أشاهد التليفزيون بمفردي، أتكلم مع ابني ساعات وألعب مع أحفادي لأعيش لحظات سعادة خيالية، لقد تعودت على حياة العزوبية\”.
واختفى اسمه كعنوان بارز لقصص الحب والإثارة والتي كانت تغيظه حيناً وتضحكه أحياناً: \”أنا رجل أعزب بالتأكيد كنت مادة خصبة للشائعات، لكني إنسان بطبعي رومانسي جداً مثلي مثل كل الشرقيين وكان قلبي في فترات ما يسيطر على شخصيتي وربما أكون وقعت ضحية الابتزاز العاطفي نتيجة تلك الرومانسية المفرطة لكن ربما أدى الاحتكاك بالآخرين في بلاد الغرب والحياة الصعبة هناك إلى اكتسابي المزيد من القدرة على أن أجعل عقلي يسيطر أحياناً على عاطفتي\”.
لكن قبل هذا الاختفاء كان عمر الشريف بطل فضيحة كبرى فجرتها الصحافة في بداية العام 1996 حين ظهرت صورته تتصدر الصحف والمجلات وبجوارها صورة شاب إيطالي يشبهه تماماً اسمه روبين يقول أنه ابناً غير شرعي لعمر الشريف، وأن والدته هي صحفية إيطالية تدعي \”لولا دي لوكا\”، وأنه يدعوه لحضور حفل تخرجه من الجامعة، وقال في حوار مع رضا حماد لجريدة أخبار اليوم (المصرية) أنه يسعده حضور عمر الشريف هذا الحفل ليكون صاحب أول يد تمتد إليه لمصافحته وتهنئته بمناسبة تسلمه شهادته الجامعية وإنهاء دراسته، وروبين الذي كان يبلغ حينذاك 25 عاماً قال أيضاً في نفس الحوار أنه يحلم باليوم الذي يستطيع فيه أن ينادي عمر الشريف \”بابا\”.
وهي القصة التي تناقلتها الصحف والألسنة وسرت كالنيران تشتعل وتحرق في سيرة عمر الشريف الذي بدا كأن هذا الإعلان الذي فجره الشاب الإيطالي أشبه بالمفاجأة السخيفة التي صفعته على حين غرة وأربكته، لكنه استعاد توازنه بسرعة وقال: \”أنا غير مقتنع بأنه ابني فلا يوجد ما يؤكد ذلك، هو شبهي طبق الأصل، وبطريقة تجعل البعض يقول أن الأمر معقول جداً، لكني غير مقتنع بذلك ولا أعرف أين الحقيقة بالضبط التي يمكن أن تؤكد لي أمر كهذا، بحثت عنها ولكني لم أجدها على الإطلاق، إذن فهي غير حقيقية ولا يمكن تصديقها\”.
وحين ضاق عليه حصار الصحافة، وتساؤلاته روى تفاصيل الحكاية التي رتبتها له الصدفة ولم يكن يتوقع نتائجها، فقال:\” أم هذا الولد صحفية إيطالية جاءت لإجراء حوار صحفي معي منذ 25 سنة، وجلست معي خمس دقائق، ثم انقطعت أخبارها عني بعد ذلك، وبعد سنة اتصلت بي وقالت أنها أنجبت ولداً مني واسمه \”روبي\”، لا أعرف أين الحقيقة، فلم يكن بيني وبين هذه السيدة قصة حب حتى أعرف، إنني لم أقابل هذه السيدة أو أراها إلا مرة واحدة طوال حياتي ولم تنشأ بيننا علاقة بعد ذلك حتى هذا الشاب الذي يدعي أنه ابني لماذا صمت كل هذه السنوات وفضل أن يعيش بجوار والدته، فهو سواء مني أو من غيري فقد أحب والدته واختار الحياة معها، إذن فهو ابنها هي وأنا لا تربطني به أية صلة، مثلاً نادية ابنة فاتن حمامة والدها كان عزالدين ذوالفقار، لكني اعتبرتها ابنتي، لماذا؟ لأني أحببت أمها، أما امرأة لم أعرفها إلا عدة دقائق ولم أحبها كيف أعتبر ابنها ابناً لي\”.
وفي حوار آخر أجراه معه الكاتب الصحفي محمد تبارك لجريدة أخبار النجوم (المصرية) في عددها الصادر بتاريخ 24 فبراير 1996 عاد عمر الشريف ليؤكد إنكار أبوته للشاب الإيطالي روبن، فسأله محمد تبارك:
_ ولكن الشبه بينكما أنت والإبن كبير جداً، وربما إلي حد التطابق؟
_ أنا معترف بهذا الشبه الكبير الذي يجعل الغير يقول معقول، ولكن أين الحقيقة التي يمكن تأكيدها الآن، مثلاً كل من \”يربي شنبه\” وله شعر أبيض يقول أنا عمر الشريف؟
_ الابن.. أو الشاب الإيطالي يقول أنك التقيت به أكثر من مرة.. وفي كل لقاء بينكما كنت تعامله بود وحب..!
_ لقد إلتقيت به بالفعل ثلاث أو أربع مرات وكنت رقيقاً معه، هذه طبيعتي مع كل من ألتقي بهم، ثم ما ذنبه هو إذا كانت والدته قالت له أن والده هو عمر الشريف، وطبيعي أن يصدق كل ما تقوله أمه..
_ إذن أنت تعترف معي بأن الابن في هذه الحالة مظلوم؟
_ (قال عمر الشريف بصوت فيه شجن): من المؤكد أن الابن مظلوم، أنا معك في هذا، وكثير من أطفال العالم مظلومين.
_والأم؟
أيضاً مظلومة، وأنا أيضاً مظلوم، فماذا فعلت حتى يطلب من الاعتراف بأبوة هذا الابن رغم عدم وجود الحقيقة التي تؤكد ذلك، فلو أنني كنت قد أحببت الأم ودامت العلاقة لتأكدت أنه ابني واعترفت به بلا أدنى تردد، أما أن أقحم في مثل هذه القصة فهذا أمر مرفوض تماماً، فما اؤكده أن الحقيقة ضائعة بكل المقاييس، وعلى هذا الأساس كل واحد يتحمل مسئولية تصرفاته وأعماله، أنا لم أعرف الكذب طوال حياتي، وكل من تعامل معي يعرف هذه الحقيقة جيداً، انهم يحاولون تأكيد أنه ابني، وأنا لا أعرف بالتحديد هل هو ابني أم لا، وعموماً كل إنسان في هذه الدنيا مظلوم في شيء ما وإلا لما كان هناك مظلوم واديه كل مايريده ويمتلك كل شيء، فماذا ينقصه بعد ذلك.
_ ألا تفكر في تغيير موقفك من هذه المشكلة الآن بعد النداء الذي وجهه إليك هذا الشاب الإيطالي \”روبين\” عبر الصحف؟
_ ولماذا أغير موقفي الآن في فبراير عام 1996.. موقفي ثابت ولن يتغير، هو في الماضي كما هو في الحاضر…!!
تقول الوقائع والظروف والملابسات والشبه الأقرب إلى \”نسخة كربون\” أن روبين الإيطالي هو ابن عمر الشريف شكلاً هو قطعة منه أكثر من ابنه الشرعي \”طارق\” من زوجته الفنانة فاتن حمامة، لكن ظل إنكار عمر الشريف للشاب الإيطالي حائلاً يمنع إثبات الإبوة والتواصل بين شاب سعى بعد 25 عاماً للتواصل مع رجل قال أنه أباه وفشل، لكن هذا الحائل لم يمنع سيل الهجوم الذي إنهال على عمر الشريف وخاصة من بعض جمعيات حقوق الإنسان التي اتهمته بالقسوة والظلم لإنسان جاء للدنيا بسببه ورفض حتى أن يحنو عليه، وهو ما أدهش عمر فقال: \”قد يكون هذا الشاب مظلوماً، لكني لست السبب، بل أمه التي جعلته يعيش في وهم أن والده عمر الشريف\”.
بينما كتب صلاح الدين محسن في الحوار المتمدن عن حق المرأة الغربية المهضوم مستشهداً بواقعة عمر الشريف فقال: عن وجود ابن غير شرعي للممثل المصري العالمي عمر الشريف من صحفية إيطالية، ويشبه عمر الشريف تماماً أكثر من ابنه الشرعي من الممثلة الكبيرة فاتن حمامة !، صلته به ليست قوية وتكاد تكون قد انقطعت، لكن الابن الإيطالي الأم لعمر الشريف والذي تخرج من الجامعة منذ سنوات وكان يتمنى حضور الأب – عمر – معه حفل التخرج . ولم يحقق له عمر الشريف تلك الامنية – وقال أنه نتيجة علاقة مدتها 5 خمس دقائق مع الصحفية الإيطالية وقتما زارته لأخذ حديث صحفي منه ! – وبكل بساطة يقول \” ابني هو الذي أحببت أمه \” !!! ويوم قرأت ذاك التصريح للنجم الكبير شعرت بالأسف .. فما دام أن إنساناً قد جاء للحياة . فلا ذنب له ولا شأن له بكون الأب أحب أمه أم لم يحبها ولا أن كانت الأم أحبت أباه أم لم تحبه .. طالما أن إنساناً قد جاء . فله حق يأخذه – حنواً وعطفاً إنسانياً . هو أضعف الإيمان (ولا يفوتنا أن نذكر بالخير الرئيس والمفكر الفرنسي الراحل \” ميتران \” الذي رد لابنته غير الشرعية حقها قبل مماته . وبينما هو في قصر الرئاسة فكان يصطحبها وصديقها. معه في الأماكن العامة بل وفي زياراته الخارجية لبعض الدول كرئيس لفرنسا) ! – والنجم الكبير – عمر الشريف- وأياً منا كان معرضاً لأن يكون في نفس وضع ذاك الابن المسكين … ولكن ما يقلل من محنة ابن عمر الشريف والحالات المماثلة له كحالة الأمريكية السعودية الأب السابق الحديث عنها . أنه يعرف أن والده عمر الشريف وقد تولاه الأب لفترة قصيرة وأهداه بعض اللعب عندما كان طفلا واشتري له بعض الحاجيات.
صمت عمر الشريف حين سمع مثل هذا الكلام ثم ابتسم وقال: \”تركت زوجتي من خوفي لأخونها، فربنا عاقبني وجعلني لا أستطيع أن أحب أبداً بعدها .. لم توجد امرأة واحدة أحببتها بدرجة تجعلني أرتبط بها.. وهذه السيدة الإيطالية لم يربطني بها شيء، فكيف يربطني بها ولد بعد كل هذه السنوات.. هذا أمر يتنافى مع العقل.. أنا لا أستطيع أن أقول له \”مرحبا أنت ابني\”، فهذا أمر لا أجيده فعلاً، وأشعر أنني لو كنت فعلته كنت سأكذب وهذه ليست طبيعتي، صدقوني لقد بذلت جهداً حقيقياً ولم أستطع.
السياسة.. عزف منفرد
\”القدر هو الذي اختار لي طريقي، فهناك أشياء في حياة الإنسان لا يتدخل في صنعها أبداً، حيث يجد نفسه وقد سار في طريق لا يستطيع أن يخرج منه، بالضبط مثل الدوامة\”.
قالها عمر الشريف وهو يتذكر هذه السنوات العجاف في مشواره الفني وفي تاريخ وطن كان مكلوماً بهزيمة كبرى، هزيمة الروح وانكسار الذات التي خلفتها الهزيمة العسكرية، وأضاف: كانت مرحلة عسيرة جداً في حياتي جعلتني أتنازل وأقبل أعمالاً فنية دون المستوي، وعندما أجد نفسي أقوم بهذه الأعمال أفقد روحي المرحة وأصبح شخصية غريبة ومنفرة، وأجد كل أصدقائي يبتعدون عني لسوء طبعي وأخلاقي، فما أقسي وأبشع من أن يعيش الإنسان لحظات مفروضة عليه وليست باختياره، لكن \” ما باليد حيلة\”، فالفن هو مصدر زقي.
كان عمر الشريف بالفعل فاقد الحيلة، فهو قد اختار وعليه أن يتحمل تبعات اختياراته، العالمية وهوليوود والتمثيل والسينما، ذلك هو العنوان الأبرز لاختياره وعليه أن يتشبث به حتى لا يجد نفسه في النهاية مستنداً علي جدار ساقط في شارع الفن، اختار عمر أن يهجر مصر ولم يجبره أحد، وكان عليه أن يتابع أخبارها من بعيد كلما شعر بالحنين، وهو دائماً كان يشتاق إليها.
\”قضيت30 سنة أعمل مع الأمريكان والأجانب، وأغلبهم يهود متعصبون، وأنا كنت قادم من بلد عبدالناصر، وأحمل جواز سفر مصريا ولم أغيره في حياتي، وقتها كنت أخاف أقول أي كلمة لأنهم كانوا سيرجعوني على بلدي أجر أذيال الخيبة والفشل\”.
سنوات غربته مرت، وهو يعاني الأمرين: اغترابه وشقاء حنينه لوطنه، وبينهما صورة جمال عبدالناصر نصب عينيه، ضابط الجيش القوي ذو النظرة الثاقبة، الحادة والحانية في ذات الوقت، الرجل الأسطورة الذي وصل إلى مصاف الآلهة، حسب تعبير عمر نفسه، واستطاع أن يغرس نفسه في وجدان أمته. شيء ما كان يجعله يتحمس لسماع تفاصيل هذه الأسطورة بإنصات واهتمام سرعان ما ينقلب إلى غيظ شديد وغضب دفين، شيء ما جعله لا يحب عبدالناصر الأسطورة، شيء في صدره لم يبوح به لكنه كان يزداد يوماً بعد الآخر كلما كبرت الأسطورة، ربما كان هذا الشيء هو وجوده في الغرب وأمريكا نفسها التي تعادي عبدالناصر وثورة يوليو الجامحة في مشروعها بالتحرير والتغيير وتعادي أيضاً مشروع عبدالناصر العروبي ولم تستطع أن تروضه وتضمه تحت جناحيها.
\”الأمريكان لو كانوا تسامحوا مع عبدالناصر، واستقطبوه ناحيتهم لكان مصير المنطقة تغير.. لكنهم للأسف لم يدركوا أن هذا الرجل هو الذي يجب أن يتسايروا معه، فقد كان صاحب شخصية قوية جداً، وكان في منتهى الذكاء، والبلدان العربية تحبه بشكل جنوني\”. (من حوار مع عمر الشريف لمجلة الشباب في عددها الصادر في نوفمبر 1999). وربما كان هناك سبب آخر وهو أن عبدالناصر وقف في الجهة الأخرى المقابلة لعمر، هما بالفعل طرفان نقيضان متقابلان، فعبدالناصر رمز العروبة والداعي إلى القومية العربية وتوحيد الصف العربي في مواجهة الآخر، بينما عمر الشريف هو ابن الثقافات المفتوحة علي هذا الآخر والمتماهية معه.
كان عمر، كعادته، يتابع أخبار مصر علي شاشة التليفزيون أو على صفحات الصحف وينظر إلى صورة جمال عبدالناصر ثم يشرد، ويعود لينظر إليها مرة أخرى فيشعر أن هناك شيئاً ما تغير في ملامحه، ربما كان هذا البريق الذي كان يشع في عينيه قبل يونيو 1967 والذي يراه خافتاً الآن، هناك انكسار ما يبدو في الصورة، لكنه ممزوجاً بملمح عناد وتحد ليس واضحاً سوى للذين يعرفون تفاصيل هذا الوجه جيداً أو الذين يمتلكون شفافية خاصة، كان عمر يدقق في الصورة وكأنه يريد أن يعرف السر في أن صاحبها يسكن الأفئدة والقلوب العربية.. لماذا يعتبرونه علي مدار السنين هو الحلم والأمل والرمز ونور الهداية.
علاقة غريبة ربطت عمر الشريف بالرئيس جمال عبدالناصر، فهو لم يقابله أو يصادفه ولو مرة، وربما لولا ظهور عمر على الشاشة الفضية ما كان ناصر عرفه أبداً، وكذلك لم يعطل عبدالناصر أحلامه في النجومية سواء في مصر أو خارجها، ومع ذلك لم يحبه عمر ولم يفهم حب الناس له، إلا أن هذا الشيء الذي يعتمل في صدره تجاهه ظل ثابتاً بداخله، وحين مات عبدالناصر في سبتمبر 1970 اهتز الكيان العربي كله وخرجت الجماهير العربية وراء جثمانه تشيع معه الأحلام وتحاول أن تقتبس منه آخر نور لآمالها في التغيير.
\”أنا لم أكره عبدالناصر ولا ثورة يوليو أبدا، وكنت معها منذ البداية وشجعتها ودافعت عنها كثيرا في مواجهة والدي البرجوازي الذي خاف من الثورة، لأنه خاف على ماله وثروته، وفعلا تعرض والدي للتأميم، ولو لم أكن اتجهت للتمثيل وأذعنت لوالدي الذي أرادني أعمل معه في تجارة الأخشاب كنا أفلسنا نحن الإثنين، ولكن بـ\”فلوس\” التمثيل ساعدته في السفر إلى مدريد وعاش مع والدتي هناك، واخترت لهما هذا المكان بالذات لما يمتاز به من أجواء شرقية تجعلهما لا يشعران بغربة، وبعد ذلك تغيرت نظرتي للأمور ولم أعد متحمسا للثورة\”.
اليوم الذي مات فيه جمال عبدالناصر كان عمر الشريف في بيروت أذهله مافعله اللبنانيون لحظة ماعرفوا خبر رحيل ناصر، مشهد الحزن الذي غطى لبنان كله كان رهيباً ومؤلماً، تأثر به عمر وأحزنه موت الرجل الذي لم يكن له أية مشاعر حب.
\”كنت في بيروت يوم وفاة عبدالناصر، وكان تأثير وفاته علي اللبنانيين فظيعاً جداً، وأعتقد أن كل البلاد العربية كانت حزينة كذلك.. وأنا أيضا حزنت بالرغم من أنني لست من المحبين لعبدالناصر أو من المؤيدين له أو من الناصريين\”.
عمر الشريف لم يحب جمال عبدالناصر، هو لم ينكر ذلك ولم ينساه، كان يظهر في كل مقابلاته الإعلامية ليعلنها مدوية، ثم يتحدث طويلاً كأنه يحاول أن يجد تبريراً لهذا الشعور الذي لازمه طول حياته، فينسبه إلى أحداث سياسية أو لإعتراضه على إنجازات الثورة التي لم يرها سوى \”لخبطات\” على حد تعبيره أفسدت المصريين ولم تساعدهم، بل أنها أفسدت الوطن كله، وهو ما يتناقض مع كلامه الذي سبق أن قاله في مجلة الشباب وكأنه حزين لأن أمريكا لم تستطع أن تستحوذ على عبدالناصر وتركته للروس، أي أنها باللغة الدارجة \”استخسر عبدالناصر في الروس\”، وهو ما تناقض مع تصريحات أخرى تخص رؤيته لعبدالناصر، كالتصريح الذي سبب أزمة كبيرة في يوم تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في العام 2005، حين قال في المؤتمر الصحفي الخاص بهذا التكريم أن \”عبدالناصر كان عميلاً للأمريكان، يتلقى منهم الأموال والسلاح في بداية الثورة\”.. قالها، ولم يحسب عاصفة الاستنكار التي واجهته بحدة من الحاضرين في المؤتمر والذين وصفوا كلامه بأنه مثيراً للدهشة والسخرية، مما اضطره للتراجع والاعتذار عن وصف عبدالناصر بالعمالة ثم قال: \” خانني التعبير ولم أقصد بالضبط أن عبدالناصر كان عميلاً للأمريكان وإنما ما أردت قوله هو أنه كانت هناك علاقات طيبة بينهما\”.. بدت هذه الإجابة هي الأكثر تعبيراً عن شخصية عمر الشريف النجم المحاط أحياناً بغلاف من الغموض، وفي كثير من الأحيان بغلاف أوسع من الصراحة الغير محسوبة والتي فاقت الحد في ذلك اليوم حتي أنه قال إنه كان يشعر بالإذلال خلال الفترة التي قضاها في مصر في عهد عبدالناصر، وكان يضطر للوقوف في طابور طويل من الراقصات للحصول علي تأشيرة خروج من مصر لذلك اضطر لمغادرة مصر نهائياً وظل في الخارج 13 عاما ولم يعد إلا في السبعينيات عندما التقي الرئيس أنور السادات في البيت الأبيض ووجه له الدعوة لحضور حفل زفاف ابنه.
بدا الأمر لحظتها وكأنه تصفية حساب قديم مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أو مع ثورة يوليو، لكن عمر أنكر ذلك وقال: \”لم يكن بيني وبين عبدالناصر أو ثورة يوليو ثأراً شخصياً، حتى أنتهز الفرصة في هذا الجمع لأنتقم منه، لأنني لو رغبت في ذلك حقاً، لكان أمامي منابر كثيرة أخري وعالمية ومنذ زمن طويل لأفعل ذلك، لكني أتحدث بصفتي مواطناً مصرياً من حقه أن يتناول تاريخ بلاده وأن يكون له رؤية تجاهه\”.
وأضاف: \”إنني في حقيقة الأمر أحببت ثورة يوليو إلى حد ما، حتى جاءت 1956 ووقع الأمريكيون في أكبر خطأ في التاريخ عندما أوعزوا إلي البنك الدولي برفض تمويل السد العالي فأعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس، وهاجمت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل مصر، وتدخل الروس والأمريكان وقاموا بإخراجهم فتحول عبدالناصر إلى بطل أسطوري وعندما رأي صدام حسين والقذافي وغيرهما ذلك، وهما كانا يعيشان عندنا في مصر، عادا إلى بلادهما وقاما بحركاتهم الثورية لينالوا المجد الذي ناله ناص، وصارت كل الأمور في يد الشيوعيين لأن روسيا أعطت لمصر السلاح والأموال لبناء السد العالي، وتطورت الأمور وساد التأميم كل شيء، وارتمينا في أحضان الشيوعية على الرغم من أننا كعرب ليس من طبيعتنا أن ندخل في خندق الشيوعيين.. وبالذات المسلمون.. وأنا بصفة شخصية لا أحب الشيوعية أبداً\”.
كلام عمر، لم يحمل صيغة متسامحة مع ثورة يوليو، وقد علل ذلك أكثر من مرة بأن أكثر ما أغضبه من يوليو هو تقسيم الأراضي وقانون الاستصلاح الزراعي الذي اعتبره اتجاه غير عملي أفسد آلية الزراعة في مصر، كما سار على هوى أن حصول ك فلاح على خمس فدادين أفسد الزراعة وخفض من قيمة القطن المصري ولم يعد أحسن قطن في العالم بعد ما تفتت الرقعة الزراعية على فلاحين \”غلابة\” لا يمتلكون مقومات مادية كافية للنهوض بالزراعة، لم يتحدث عمر عن العدالة الاجتماعية التي حاول عبدالناصر أن يرسي دعائمها بعد أن كان 60% تقريباً من الشعب المصري تحت خط الفقر بينما كانت النسبة الأقل هي التي تتركز الثروة في كفتها، وراح يتحدث كما يتحدث المستشرقون عن مصر البلد الزراعي التي هجر فلاحوها الأرض ليعيشوا في العاصمة بسبب سوء تخطيط يوليو.
\”حين أنظر حولي أكتشف أنني لم أعد أرى الفلاحين الذين شكلوا يوما غالبية المصريين، والذين كنت أحبهم بدرجة كبيرة، لكنهم اليوم بعد هجرتهم إلى القاهرة تاهوا في شوارعها وتحولت القاهرة إلى كرة ملتهبة من المشاكل وصارت كالعلبة \”الصفيح\” التي كادت تنفجر من ضغط ماتحمله بداخلها، فالقاهرة التي تركتها في الستينيات وتعدادها 3 مليون نسمة صارت اليوم تحمل ربع سكان مصر أو أكثر، وصار أهلها لا يستطيعون العيش فيها، ولايوجد تشجيع كافي للفلاحة والاهتمام بالزراعة، وكل هذا نتاج طبيعي لما خلفته ثورة يوليو\”.
هذا الكلام أثار استياء الكثيرين، حتى أن كاتب مثل الراحل رجاء النقاش قال مستنكراً: \” لا أعرف ما الذي يريده عمر الشريف بالضبط، وما الغرض من كلامه هذا المرتبك، يبدو أن لديه أزمة لا نعلمها..\”، ثم كتب النقاش في إحدى مقالاته واصفاً تصريحات عمر الشريف بأنها \”خيبة أمل\”، وأضاف: \”هذا يذكرني بموقف حدث لي معه ذات مرة، فـ\”النجم العالمي\” كما يطلق عليه، جمعنا لقاء مع بعض الأصدقاء وفوجئت به يشن حربًا شعواء عالية الصوت على الصحفيين المصريين ويتهمهم بأنهم يلفقون كلامًا على لسانه، ويدلل على قوله بحديث نشر معه منذ سنوات خمس، حاولت استيضاح الأمر وسألته لماذا لم ينشر تكذيبًا وقتها، حاولت إقناعه بحقه في الرد، وحاولت إقناعه بالكثير من الأشياء التي من شأنها أن تجعله يخفض نبرة الغل والغيظ والصوت العالي، لكني فشلت فقد كان مصممًا أو ناويًا على ذبح الصحفيين المصريين على مائدة العشاء التي جمعتنا، وأوقعتني هذه المقابلة في حيرة من أمري وتدافع سؤال إلى رأسي، ماذا قدم لنا عمر الشريف؟ قفز إلى رأسي نموذج الفنان محمود مرسي الذي كان يعمل بإذاعة \”بي. بي. سي\” عام 1956م عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر وكانت له مكانة مرموقة في هذه الإذاعة ولكنه لم يتردد عن تقديم استقالته والعودة إلى وطنه إحتجاجًا على مشاركة بريطانيا في هذا العدوان، المقارنة ليست في صالح عمر الشريف بالتأكيد، ففي ذروة الأزمة العربية طوال السبعينيات من القرن الماضي، كان نجم عمر الشريف يلمع ويصعد ويتألق\”.
المفارقة الغريبة التي ربما أحدثت هذا الدوي فيما قاله عمر الشريف عن عبدالناصر أو ثورة يوليو، أن قدره كان أن تكتب له ثورة يوليو شهادة ميلاده بطلاً في السينما المصرية الصاعدة مع بداية عصر الثورة وتعلن نجوميته المزدهرة بين جوانحها، وجاءت أفلامه معبرة عن آمالها وأحلامها واتجاهاتها، منذ أول أفلامه \” صراع في الوادي\” الذي قدم خلاله شخصية ابن الفلاح الذي يقف في مواجهة الباشا الطاغي، أو فيلم \”أرض السلام\” إخراج كمال الشيخ، والذي قدم فيه شخصية أحمد الفدائي المصري الذي يختفي داخل قرية فلسطينية، وتتعاون معه سلمى، وهي إحدى فتيات القرية، ويصور الفيلم معارك الفدائيين من أجل تحرير فلسطين والصعوبات العديدة التي يلاقونها من نسف خزانات الوقود، وبعد انتهاء أي عملية يعود أحمد مع سلمى دون أن يتمكن الإسرائيليون منهما، تنمو علاقة صداقة ثم حب بينهما تنتهي بالزواج، أو في فيلم \”في بيتنا رجل\” إخراج هنري بركات الذي يجسد فيه شخصية الفدائي إبراهيم حمدي الذي كرس حياته من أجل الوطن، أو حتي دور الضابط خالد في فيلم \”نهر الحب\” إخراج عز الدين ذو الفقار، والذي يستشهد في حرب 1948 لتحرير فلسطين، وغيرها من الأفلام والأدوار التي تباينت وتعددت، لكنها قدمت نماذجاً خرجت من رحم التغيير الذي أحدثته ثورة يوليو في المجتمع المصري.
وهي المفارقة، أيضاً، التي عادة ما تثيرها أحاديث الفنانين في السياسة والتي غالباً ماتنقلب عليهم وتغضب جماهيرهم منهم، فحينما تدخل السياسة من الباب لا يخرج الفن من \”الشباك\” وإنما تفسد صورة النجم، و يثور الجمهور عندما يقول عمر الشريف أنه لا يحب جمال عبدالناصر ولا يحب عصره، وربما يطلبون منه أن يصمت، لكن عمر الشريف يقول بحسم: \”أنا لست رجل سياسة، لكني أتكلم كأي مواطن مصري يحب أن يناقش أمور بلده مثل كل المصريين، وأنظر إليها بعين المحب الذي يتمني لها الأفضل دائماً\”.
أصبح لدى عمر الشريف في الفترة التي أعقبت نكسة يونيو 1967 ثم رحيل عبدالناصر عام في سبتمبر 1970، مزاجاً حاداً.. ربما بسبب هذه الأحداث الجسيمة والمتلاحقة، وربما بسبب ضغوط العمل في بلاد لا ترحم وبسبب سخرية اليهود منه بسبب أصوله العربية وجنسيته المصرية التي رفض الاستغناء عنها واستبدالها بأية جنسية أخرى، كما قال، لكن المؤكد أنه واصل طريقه علي درب الشهرة والمال والمجد بلا تردد في ظل هذه الظروف، متنقلاً بين استوديوات ومسارح وصالات القمار في أمريكا وباريس ولندن وروما، حيث صار النجم الأول في الإعلانات والفضائح وأرصدة المصارف في سويسرا وهلسنكي والسويد، كما كانت تؤكد عناوين الصحف والمجلات في تلك الفترة، فقد صنع لنفسه نوع مختلف من الحياة.. كلها صخب. وعمل عمر في العديد من الأفلام، وبالرغم من التحفظ العربي تجاه هذه الأفلام إلا أن صورة عمر الشريف لدى الجماهير العربية كانت تكبر وتأخذ حيزاً لا بأس به في عيون نظرت إليه نظرة محبة وإبهار للعربي الذي وصل إلى هوليوود وحظي بأدوار البطولة في أفلام أجنبية مشهورة إلى جانب عمالقة السينما الكبار، ولعلها نفس النظرة التي منحها لها الرئيس المصري أنور السادات حين شاهده لأول مرة في البيت الأبيض، حسب رواية عمر نفسه، أثناء زيارة رسمية له هناك، مؤكداً أنه ذهب إلى البيت الأبيض أكثر من مرة، وتمت دعوته على العشاء، سواء من جيرالد فورد أو كارتر، وهناك قابل أنور السادات في حفل عشاء على شرفه وجاء من باريس خصيصاً لهذا الغرض، ولم يكن عمر قد زار مصر لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، وطلب منه السادات أن يعود لزيارة وطنه مصر كما دعاه إلى حفل زفاف ابنه وقال له : \” لو مجيتش ياعمر مش حاكلملك تاني\”. وكان عمر يخشى لو ذهب إلى مصر أن يرفضوا منحه تأشيرة خروج وهو ملتزم بعقود سينمائية عديدة في ذلك الوقت، وهكذا عاد عمر إلى مصر بدعوة من السادات، لتبدأ صفحة جديدة من حياته خط فيها السادات أول الحروف وأول الكلمات ليكرس لعلاقة قوية بين الرئيس الذي اقترب من أمريكا، وبين الفنان الذي عاش وعمل في أمريكا وله فيها حضور خاص، علاقة عبرت عن مرحلة جديدة لها معطيات مختلفة أحدثت زلزالاً في المجتمع المصري بل والعربي كله وتغيرت فيها الثوابت، فلم يعد هناك معنى أو جدوى للحديث عن المشروع العربي والقومية العربي وضرورة التواصل مع الأشقاء العرب في كل أنحاء الوطن، فهذه عناوين قديمة لا تخص سوى مرحلة مضت بحلوها ومرها، رحلت برحيل عبدالناصر وتلاشى صوت المقاومة والمعركة، أما المرحلة الجديدة فالصوت فيها منخفض والأذرع ممدودة بالسلام لا بالسلاح في وجه العدو، والسادات مضى في طريق السلام واقترب من أمريكا التي في كنفها يحيا عمر الشريف.
\”كان السادات محبوبا جدا لدي الرأي العام الغربي، وأنا أيضا كنت أحبه جداً، في الأول كنا نخجل من أن نظهر جواز السفر المصري بالخارج، وكنا نخجل من أن نعلن عن جنسيتنا، وبعد حرب أكتوبر 1973 صرنا نتباهي بجواز السفر المصري، وبأننا مصريون.. الواحد منا أحس أن شرفه رجع له، وبدأنا نرفع رؤسنا مرة أخرى ونفخر بمصريتنا وانتمائنا لمصر وبجواز السفر المصري، فكل واحد منا شعر أنه استرد شرفه، وأحسست بأنني أخذت بثأري وأنا بالذات كانت همومي مضاعفة لأنني عشت سنوات الهزيمة الست بالكامل بالخارج، بعيداً عن مصر، وكذلك حدث نصر أكتوبر العظيم وأنا بعيد عن بلدي\”.
كان عمر بعيداً عن بلده، يرى الصورة من زاوية أحادية، لم ينتبه إلى زوايا أخرى لم تلتقطها كاميرا قدمت له فقط صورة مسطحة، فلم يعش إنتفاضة 18 و19 يناير الشعبية حين خرجت جموع الشعب المصري تدافع عن حقها في الحرية والاستقلال والمعيشة الكريمة بعد إرتفاع الأسعار بشكل غير مقبول، فأسماها الناس \”انتفاضة الخبز\” في حين أطلق عليها الرئيس السادات \”انتفاضة الحرامية\”، لم ينتبه عمر الشربف للصورة الكاملة لمصر في تلك الفترة المرتبكة، صورة مصر الغريبة في عصر الانفتاح الاقتصادي الذي فرض سطوته منذ منتصف السبعينيات، حاملاً شعاره الاستحواذي\” اكسب واجري\”، عصر \”انفتاح السداح مداح\” كما وصفه الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين ملخصاً حالة العشوائية التي جرتها سياسة الإنفتاح الإ قتصادي علي مصر والمصريين ، وتكرست خلاله ظاهرة \”الدولة الرخوة\”، حسب تعبير د. جلال أمين، حتى أن السينما المصرية نفسها اعتبرته بأنه خيانة لحرب أكتوبر كما أشار فيلم مثل \”كتيبة الإعدام\” لأسامة أنور عكاشة والمخرج الراحل عاطف الطيب، لكن عمر الشريف أحب الرئيس أنور السادات واعتبره فرصة مصر للانفتاح على الآخر، وكان عمر بالخارج يتابع السادات في الداخل بنفس النظرة الأحادية ويزيد إعجابه بسياسته التي توافقت مع هواه.
\”أعجبتني سياسة السادات آه، لأنها سياسة سلام، أنا مش عايز الناس تموت، بيصعب عليّ أشوف وأعرف أن الناس بتموت، مابستحملش الموت ما بحبش الموت\”
وعلى هذه الخلفية كان عمر من أوائل المؤيدين له في مبادرة السلام عام 1977 الذي وصفها بأنها كانت ضرورة وحلم بالنسبة له.
\”أنا بطبيعتي أحب السلام لذلك كانت سعادتي بالمبادرة لا توصف، وهذه باختصار ليست وجهة نظر سياسية، إنما هي وجهة نظر إنسانية، فأنا أريد للشعب أن يأكل ويسكن ويفرح، ومن المؤكد أن الأموال الطائلة التي تنفق علي السلاح وقت الحرب، سوف يستفيد منها الشعب لو وجهت إلى المشروعات القومية الكبرى بأن نبني مصانع ومساكن\”.
دخل عمر الشريف تاريخ صنع السلام العربي/ الاسرائيلي بصمت وبدون علم أحد، حسب وصفه، حيث حكى أن السادات طلب منه أن يجس نبض الجانب الاسرائيلي تمهيداً لزيارته الشهيرة إلى القدس عام 1977 ، كلف السادات عمر بمهمة \”جس نبض\” رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين في السبعينيات والاتصال بالقيادة الاسرائيلية لمعرفة مدى استعدادها لاستقباله في زيارة للقدس، وهي الزيارة التي مهدت لاحقاً لاتفاق السلام في كامب ديفيد، اتصل به السادات وقال له: \” انت تتعامل في الأفلام مع اليهود وتعرفهم، كلم مناحم بيجين بالتليفون واسأله لو جاء السادات عندكم كيف سيكون استقبالكم له؟!\” قال عمر أنه وافق على الفور واعتبر هذا الطلب تكليفاً وطنياً وواجباً لابد من القيام به، ثم ذهب إلى السفارة الإسرائيلية في باريس وطلب مقابلة السفير الإسرائيلي، وحسب روايته جلس في مكتب السفير الإسرائيلي ثم قال له:
– اطلب لي مناحم بيجين على التليفون فوراً.
إندهش السفير الإسرائيلي من هذا الطلب وتساءل:
– لماذا؟
– ستعرف حين تتصل به
أصر السفير الاسرائيلي أن يعرف السبب، لكن عمر رفض مصمماً على طلبه وقال له:
– لن أتحدث إلا مع مناحم بيجين.
عندها إتصل السفير الإسرائيلي بمناحم بيجين، وتحدث معه عمر الشريف على التليفون وقال: إتصل بي الرئيس السادات وطلب مني أن اسأل بالنيابة عنه ما إذا كنت على استعداد للترحيب بالسادات لو جاء في زيارة للقدس، فرد بيجين بالإيجاب وقال: \”سنستقبله كالأنبياء، كالمسيح\”، ثم عقب هذه المكالمة إتصل عمر من مقر السفارة الإسرائيلية بالرئيس السادات في القاهرة وأبلغه برد بيجين.
هذه هي الرواية التي رواها عمر الشريف بنفسه في أكثر من موقع وأكثر من مناسبة، كالمؤتمر السنوي لعرب أمريكا في واشنطن في العام 2006 ، وتناقلتها وكالات الأنباء، فأثارت جدلاً حول مصداقيتها من عدمه، حيث إعتبره البعض يحاول أن يخلق له دوراً بارزاً، وآخرون طالبوا بعدم التسرع في كيل الاتهامات، أما عمر فقال: \”أي دور الذي أحاول أن أخلقه؟.. لماذا؟ على أساس أنه كان ينقصني أدوار أو تنقصني نجومية، أنا رويت قصة حقيقية ليست بعيدة عن التصديق، ثم أنني طول الوقت أحكيها حتى قبل مؤتمر العرب الأمريكان في واشنطن ولم يعترض أحد أو يكذبني، فلماذا هذه الضجة الآن؟.. أنا إتصلت بالسفير الإسرائيلي في باريس فعلاً بناءً علي طلب السادات، ووفقاً لقناعاتي كمصري يحب أن يتحقق السلام في بلده، وإتصالي بالسفير الاسرائيلي في باريس كان سهلاً لأنني نجم تفتح له كل الأبواب، وهذا ما أدركه السادات بذكائه لذلك طلب مني ذلك، وحاول يستغل نجوميتي وأنا كنت سعيد بهذا الطلب.
روى عمر الشريف تلك الحكاية على طريقة من حقق إنجازاً مهماً لصالح بلده، يقول أنه ذهب للقاء السفير الإسرائيلي في باريس وتحدث مع مناحم بيجين، ولا يهتم بأنه بذلك فتح الطريق للتطبيع مع اسرائيل، لأنه كان يفتح طريق السلام بناء على طلب من السادات صاحب المبادرة، ثم أن كلمة التطبيع ليست أصلاً في قاموسه، صعب أن تكون لديه وهو الذي يعيش في الغرب منذ منتصف الستينيات ويتعامل مع كل الجنسيات والديانات، فهو بالتأكيد يملك زاوية رؤية مغايرة وليست لديه هذه الكلمة الجديدة التي إنتمت إلى ثقافة جديدة بالنسبة له ولكنها شكلت جزءً من ثقافة المقاومة العربية، وجعلت حالة الرفض الشعبي مستمرة حتى اليوم في مصر للتطبيع مع اسرائيل أو إقامة أي نوع من العلاقات أو التعاون معها، فالسلام الذي وقع السادات إتفاقيته في 26 مارس 1979 مع اسرائيل، كان أسهل بكثير من التطبيع.
إتفاقية السلام أسعدت عمر الشريف، وكان من الطبيعي أن لا يلحظ حالة الإحباط والغضب التي سادت الشارع العربي منذ زيارة السادات للقدس، حتى أن وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي أعلن استقالته، وتبعه بعد ساعات قليلة محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية، وفيما طالب توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض الابتعاد عن \” العروبية المبتورة \” التي لا ترى العروبة إلا في ضوء المصلحة المصرية فقط، جاءت القطيعة العربية لمصر ضربة موجعة، ربما شعر عمر نفسه بمعنى القطيعة لمجرد المناداة بمقاطعة أفلامه الغربية عربياً، كانت هذه واحدة من نفاصيله المؤلمة، فما بال المقاطعة العربية لمصر؟
عمر الشريف الذي أسعدته إتفاقية السلام، لم يحسبها على هذا النحو، فهو من الأساس لم يحسبها من منظور سياسي أو إقتصادي أو إجتماعي، وإنما فقط برؤية إنسانية تخلو من أية حسابات أو تعقيدات أخرى، ما الذي ربحته أو خسرته مصر؟ .. سؤال ربما راوده، وربما أجاب \” مصر ربحت السلام، ونجت من الحرب\”، وهو صادق في جوابه لأنه عن عبر فعلاً عن إحساسه ويقينه الخاص، فهو فقط نظر إلى الشكل ولم يهتم إذا كان هناك مضمون، خطفه بريق الصورة دون إدراك ما تخفيه وراءه، النجم الذي ملأ الأعين في الشرق والغرب نظر إلى الصورة من بعيد، قال \”ملعونة الحرب.. السلام أفضل\” أو \”ملعون القتال، الحوار هو الحل\”.
الحوار والانفتاح على الآخر جزء من ثقافته وتنشئته في مدينته الأولي \”الاسكندرية\” والذي زاد يقينه به في معيشته بالغرب محاطاً بتعدد ثقافي وعرقي كبير، لكن هذا اليقين بضرورة الحوار هو ما جعله يخسر رئاسته لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في مطلع عام 1998، حيث كان مرشحاً وقتها ليخلف الراحل سعد الدين وهبة، وكان قد التقى بوزير الثقافة الأسبق فاروق حسني وكانت هناك موافقة مبدئية من عمر وأيضاً ترحيب مبدئي من الوزير، حتى صرح عمر في حواراته الصحفية وقال بتلقائية انه يرى أن القاهرة لا تصلح لإقامة المهرجان لأنها متخمة بالزحام والمشكلات وعوادم السيارات وأنه يقترح أن يتم نقل المهرجان إلى \”طابا\” ولم يمانع عمر وقتها من أن يشارك المنتجون اليهود في المهرجان وأضاف أن بين طابا واسرائيل خطوة واحدة فلماذا لا يشاركون في المهرجان؟!
تورط عمر في هذه التصريحات التي حاول أن يبدو من خلالها فناناً عالمياً، لم يرى في كلامه وآرائه ما يراه البعض بحتمية وجود تعارض بين الهوية القومية والنزعة الإنسانية أو العالمية، لم يرى أن الإنفتاح على الآخر قد يعني التبعية أو التخلي عن الملامح الأصلية، لكنه فتح على نفسه باباً جديداً لهجوم عنيف أفقده فرصة رئاسة مهرجان القاهرة واتهمه في وطنيته، وهو ما سبب جرحاً لعمر الشريف الذي اكتفى بالرد المقتضب: \” لم أسع لرئاسة المهرجان من الأساس، ووطنيتي لا تقبل المزايدة، فلست صهيونياً كما وصفني البعض.. ومصريتي شفافة ونقية\”.
وهكذا ظل عمر يشرق ويغرب في العالم، حياته كانت مكشوفة تحت الضوء، تفككت تفاصيلها في الغربة ونمت ذكرياته مضرجة باحتياج أصدقائه القدامى، كما تحول هو شخصياً إلى ماكينة للتصريحات المثيرة للجدل وزلات اللسان التي أوقعته في مشاكل كثيرة ، لكنه لا يندم ولا يعبأ بتقديم تبرير لسلوكه، حتى في اختياراته لأفلامه وإن لم يرض عن بعضها فإنه لا يعلن ندمه عن تقديمها: \”أعرف أني لحظة فعلتُ ذلك كان عليّ أن أفعل. هذا كل شيء. ثم إني لا أحبّ النظر إلى الوراء\”.
قرر أن يحيا دائماً لحظته الراهنة، لا أن يشغل باله في تتبع عثراته القديمة، ولا أن يختنق في أفق ضيقة رسمها له آخرون، اختار الشريف أن يعيش كل دقيقة حسب إيقاعه المنفرد، لا ينتمي لشيء سوى لنفسه التي تتحصن بفلسفته عابرة الزمان والمكان والهوية، يحقق قدرا كبيرا من النجومية والشهرة، لكنه يشعر أنه حر أكثر حين يتحرر من وطأة واقعه المغترب ويفوز في مقامرة مجنونة، وهو من الأساس لم تشغله خسارة الأموال واتبع فقط لحظة اكتماله بالفوز الذي كان معادلا لشغفه بالاكتشاف مهما كلفه الأمر حتى لو مسه صاعق الوحدة وجنونها وخطفته من خرافة الزمن السعيد لترميه في جُب الغربة الذي لا يعرف فيه مقلاعا ولا مرساة.
\”أرغمتُ على أن أعيش حياتي كلها مثل بدوي، ألعب دوماً دور الغريب، لا أملك في الحقيقة جذوراً، إني غربيّ الثقافة جداً وشرقي المزاج جداً\”.
تاريخه ولد كما شاء، فالكائن البشري الذي بداخله دوّن مصيره بعفوية بعيداً عن نظريات التأمل والتدبير، فهذه نظريات تحد من خياله في المقامرة، دخل عمر الشريف اللعبة بحياته كاملة، فانتزع نفسه من جذوره، ترك دينه ليفوز بحبه وهجر عائلته واختار السفر إلى المجهول، انحاز لنرجسيته بحس المقامر وغريزة الاكتشاف والمنحى الإنساني العام الأوسع من مجرد حياة تقليدية.
الكتاب صدر عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع ومكتبة أطياف.