بالتأكيد فيه ناس عندهم مشاعر مختلطة لما بيسمعوا الخبر بتاع اكتشاف أكبر حقل غاز في العالم، بداية من التشكك والإنكار، ثم الفرحة الشديدة المفاجئة، ثم الإحساس بأن شيئا ما يشوب تلك الفرحة، وبعدين إحساس بالذنب لإن الفرحة مش صافية، وتحس إن شيء جواك باظ من الأجواء المسممة اللي إحنا عايشين فيها.
طيب مبدئيا، الخبر في حد ذاته صحيح، يعني بيستوفي شروط الخبر الصحيح، شركة \”إيني\” أعلنت عن الاكتشاف ووسائل إعلام موثوق فيها نقلت الخبر، والحمد لله وسائل الإعلام المصرية مادخلتش على الخط من أوله عشان تزيط وتهبل كالعادة.. كده أنت عديت مرحلة التشكك والإنكار.
الغريزة البشرية هتخليك بعد كده تفرح، لإنه بطبيعة الأمور ده هينعكس على مستوى حياة المصريين، يعني هيبقى فيه غاز كافي لمحطات الكهرباء، والغاز هيدخل بيوت أكتر والدعم بتاعه يستمر بقى ونخلص من طوابير البوتاجاز.. العداد بيعد والحسابة بتحسب.
لو أنت شخص عاقل عمرك أكتر من 35 سنة، فهتلاقي إن الفرحة مش صافية، لإنك شفت الأجواء دي قبل كده في التسعينيات، اللي هو كان العصر الذهبي لاكتشافات الغاز، ونفتكر إنه وقتها ميزة زي دي راحت في الهوا بصفقات تصدير مشبوهة لإسرائيل وإيطاليا وأسبانيا بأسعار أقل من السعر العالمي، وراحت معظم الفلوس في عمولات ومشاريع وهمية زي توشكى.. إيزي تيجي وإيزي تروح.
المرحلة اللي بعدها هتواجه أصعب شعور، وهو سؤال: \”أنا ليه مش فرحان؟\”، يعني لو كان في الأمر خدعة فيإما البلد دي شربت فناكيش شبيهة، ولو هيفرتكوا فلوس الغاز على مشروع حفر الفضاء الخارجي، فبرضه هتيجي على دماغهم (إحمد ربنا لإنه كان ممكن برضه نحفر الفضاء باكتتاب عام).. يعني في كل الأحوال عندنا طبقة حاكمة مخربة، فمش مشكلة لما يخرّبوا شوية وتسقسق معانا شوية بدل ما يخرّبوا على الناشف (منطق سواقين التاكسيات والحلاقين).
برضه ليه مش مبسوط؟ أقول لك: لإن اكتشاف زي ده هيطوّل في عمر نظام عمل كل حاجة شمال في البلد خلال 26 شهر بس، وبدل ما يواجه الأزمة الاجتماعية اللي في البلد، هيبقى معاه فائض يخليه يتحكم فينا أكتر وأكتر.
هنا الشعور بالذنب لإنك حاسس إن مصلحة الناس في وادي، والسيناريو اللي أنت منتظره في وادي تاني خالص، والأسوأ من ده، إن المفارقة دي بتحصل بينك وبين نفسك، لإنك عمرك ما هتقدر تخرج للناس وتقول لهم إنك عايز النظام يغرق في مشاكل اجتماعية علشان المجتمع يبدأ يطالب بحقوقه..
معظمنا بيوصل للمرحلة دي، ويقرر حسم أمره بإنه \”يعلن\” فرحته بأي شكل هيستيري، وكأنه طالع يجري عريان في الشارع وهو بيصرخ: أيوه أنا فرحان.. فرحاااااااااااان.. أنا مش وحش وعايز الخير والله.. صدقوني صدقوني.
ههههههههههه.. حضرتك شخص ساذج قوي، بداية من تخيلك إن الأزمة والفقر ممكن يدفعوا الناس للمطالبة بحقوقهم، الحقيقة عكس كده تماما، الفقر بيخلي الناس أضعف، بينما اللي مستحوذ على الثروة بيبقى أقوى.. ده مش كلامي، أنا أول مرة سمعت الكلام ده من ظابط جيش، وكان بيتكلم إن الإخوان عايزين يفقروا البلد علشان يتحكموا في البلد أكتر، ولأول وهلة قلت ده كلام عبيط، لإن الإخوان جم بالانتخابات وعينهم على تحقيق أي إنجاز، كمان ممكن يغوروا بالمظاهرات أو انقلاب عسكري لو زودوها (إيه ده!! دول فعلا غاروا بمظاهرات وانقلاب عسكري).. بس بعد فترة اكتشفت وجاهة كلامه، إنه فعلا الإخوان اللي بيحكمونا من 63 سنة كانوا حريصين على إن الفقر يفضل وجه أصيل للبلد، هم اللي ضيعوا مواردنا على مشاريع وهمية وهزيمة تلو هزيمة، هم اللي هبشوا الموارد دي لأنفسهم وولادهم وأحفادهم وثبتوها بالقوانين اللي هم أصلا بيكسروها، هم اللي ربونا على كره الصهيونية ومن تحت لتحت كانوا بيبيعوا الطاقة ليها ويمنعوا تنمية سينا عشان خاطر عيون ولاد العم.. ده الإخوان أوساخ قوي يا جدع، وعلى رأي المثل الإنجليزي: لما تشاور بسبباتك لشخص، فيه 3 صوابع تانيين بيشاوروا عليك (يعني لما تتهم واحد بنقيصة، غالبا أنت متضايق لإنك قلبتها في دماغك ومستكترها عليه)
النظرية المركزية في العسكرية المصرية إنه العسكري طول ما هو مضغوط زي السوستة، فهو كده تحت السيطرة (اللي دخل الجيش عارف النظرية دي)، نقدر نعكس النطرية دي، إن التحسن الاقتصادي بيشجع الناس إنها تطالب بحقوقها.
لو قريت كتاب سامر سليمان \”النظام القوي والدولة الضعيفة\”، هتلاقيه بيحكي اللي إحنا فيه ده كذا مرة، إنه كل ما الأزمة الاجتماعية تضيق على نظام الحكم عندنا، تلاقي هدية درامية نزلت عليه تنتشله من الأزمة (معونات غربية- غزو الكويت – ارتفاع أسعار النفط… إلخ)، لكن مع ملاحظة مهمة، إن الأزمة دي كانت بتوفر دافع للنظام علشان يعالج جذور الأزمة، لكن مع توافر الحل الميلودرامي إياه، بيستمر النظام في سياساته العقيمة، فقط بيشتري شوية وقت، لكن الوضع بيبقى أسوأ بكتير في الأزمة الجاية.
وبعدين حط نفسك مكان البطريارك، يعني هو انطلق في خطته اللي بتعفي الدولة من واجبها الاجتماعي وماحدش قادر يفتح بقه؛ الدولة تقتلك وتاخدك سخرة براحتها، ناتج عملك يتوزع على هيئة مزايا لطوائف الدولة، لكن الغذاء والتعليم والصحة دول عليك مالناش فيه.. فيعني لما ربنا يرزقه خزائن غاز الأرض، مش هينصص معانا فيه، هيبقى زيادة الخير خيرين، وكفاية عليه الأفواه المفتوحة في دور رعاية أبناء الطوائف.
إزاي اتعلمت إني أبطل أقلق وبقيت أحب القنبلة: لما تفكر في حقل الغاز العظيم ده، فكر كمان إن سلاطين الخليج صرفوا علينا 21 مليااااااار دولااااااار خلال أقل من سنة، وبعدها لا الناس شافت النعمة ولا الأزمة خلصت، فكر في العقليات اللي قررت تحفر بتاعة في سنة واحدة ملهاش أي مردود اقتصادي واضح (إلا إنه يبقى عندنا مبرر للاحتفال)، فكر إنه هيبقى عندنا أزمة في مياه النيل، لكن هنستصلح مليون فدان (يوووه دول بقم مليون ونص وفيهم كذا ألف خلصوا من قبل المشروع حتى)، فكر في كل متر غاز هنطلعه، هيروح قد إيه منه عمولات؟ قد إيه مزايا إضافية للقضاء والشرطة والجيش؟ قد إيه هنشتري بيهم حاملات طائرات وسفن فضاء وقنابل غاز؟ وقد إيه هيفضل للصحة وللتعليم وحفر الأشياء؟
ملحوظة: بعد ما خلصت كتابة، وبدون أدنى نية للبحث أو التنكيد عليك، لاقيت خبر إن الحكومة المصرية من شهرين رفعت سعر شراء الغاز من شركة إيني بأكتر من الضعف.. عرفت بقى هي ماشية إزاي؟!