البطل الذي هزمته الحياة.. والذي أخطأ ثم أفاق وعاد، والذي ارتقى حتى باعدت مثاليته بينه وبين الأرض، والذي أحب والذي كره والذي ضعف والذي مرض والذي استغرقته المأساة.. نحن دائما نستوعب ما ورء الأساطير والحكايات، ونتفهم.
نحن لا نفكر كثيرا قبل أن نتعاطف مع أولئك الساكنين خلف الشاشات.. الأحداث تكشف لنا الداوفع، وتعدد الرؤى، والأطراف المختلفة للقصة، والمشاعر المتباينة ونقاط الضعف، ومواطن الجمال أيضا؛ وبسهولة نتماهى مع الشخصيات، ونبدو في منتهى الإنسانية.
هؤلاء الأبطال ليسوا من صنع الخيال تماما، إنهم نسخ من أبطال حقيقيين.. بشر يحيطون بك من كل جانب، ويسكنون أقرب الناس إليك؛ بل يسكنونك أنت نفسك، فلماذا لا نبدو بكل هذا التفهم والاستيعاب والتعاطف حين ننزل إلى الواقع.. أو قل: حين نرتفع للحياة الحقيقية!
لماذا نبدو في تعاملنا مع الواقع وشخصياته أقل تفهما واستيعابا وتعاطفا وتماهيا؟ لماذا نحن على الأرض أقل إنسانية منا في الخيال؟!
ربما أننا لم نتحرر بعد مما يفترضه فينا المجتمع المحيط، ربما نخشى أن نبدو كمتصالحين مع الخطأ أو متوافقين مع الضعف الإنساني أو متفهمين للتناقضات البشرية \”الطبيعية جدا\”.. حتى لو تعمق وعينا واتسعت ثقافتنا وانكشفت لنا حقائق الحياة بتعقيداتها المختلفة، نستطيع دائما أن نفصل بين إدراكنا وبين تطبيقه في الحياة الحقيقية، بينما نجد متسعا لممارسة كل تلك الرحابة مع أبطال خياليين.. حيث لا رقابة على انفعالاتك ولا محاسبة على تفسيراتك للأفعال ولا ثمة رد فعل من الآخرين تجاه مشاعرك وتوحدك مع الخيال.
ربما.. أو أننا نعرف أنه لا خسارات، في لعبتنا مع الخيال، فالأبطال الخياليون لا ينافسوننا على شئ، لا إعجاب ولا محبة ولا نجاحات ولا مكانة، نحن مدركون تماما أنهم لا يشكلون خطرا علينا، بل هم من مكتسباتنا في كل الأحوال، يلعبون لصالحنا؛ فعليهم نسقط أخطاءنا وأوجاعنا ومخاوفنا ونقاط ضعفنا وحتى بعض طموحاتنا.. وهم المتنفس لنا لكي نلعب برقي أكثر!
ربما أن جلوسنا أمام الشاشات يمنحنا الطاقة الكاملة لنشارك دون جهد حقيقي! فأنت هنا لست مضطرا لأن تمنح من وقتك وطاقتك الوجدانية حقيقة، بل تمارس متعة كاملة صافية دون أثقال، أنت أيضا لست في مجال مقارنة مع أي من الأبطال، بل أنت جزء من بطولاتهم وبإمكانك التماهي مع سعادتهم وانتصاراتهم وثمارهم من حيواتهم المتخيلة.
يمكنك أيضا ببساطة أن تبدل بعض الأمور وأنت تشاهد، طوال الوقت تستطيع أن تسأل نفسك: ماذا لو كان أو لم يكن؛ وهذا ما لا يمكن أن يتيحه لك الواقع أبدا، أو في أغلب الأحيان.
مؤكد أن واقعنا سيتغير كثيرا إذا ما منحنا بعض رحابتنا الإنسانية هذه للساكنين بجوارنا في واقع من لحم ودم.. سيرى كل منا بطولاته الخاصة، ويدرك إخفاقاته ويتخطاها، ولا يتوارى بضعفه وأوجاعه وبشريته كأنه آثم بالطبيعة! سيمنح كل منا للآخر متنفسا لكي يمارس حقيقته بلا بتر للروح ولا حسابات تخصم من أعمارنا الكثير، وتحرمنا من رؤية الجمال بقدر ما تحرمنا من الكشف والفهم والتبصر.
ستختلف الحياة كثيرا إذا ما منحنا الواقع بعض طاقتنا النفسية التي ننفقها بسخاء على الخيال في حين نبخل بها على أنفسنا وعلى الآخرين خشية الخسارة، ولا ندرك أن في هذا خصم حقيقي من قدرتنا على العيش بسلام وطمأنينة ورحابة.
نحن كمن يتنفس ملء رئتيه في الأحلام ثم يكتم زفيره في اليقظة! كمن يصل شرايينه بنفوس من ظلال ويقطع أوردته عن قلوب تنبض بالجوار.. كمن يتحرى ضبط حيثيات مرافعة الدفاع عن برئ محكوم بإعدامه سلفا!
ستختلف الحياة بالتأكيد.. إذا لم نكتف بالترقي في الخيال، إذا أصبحنا أكثر إنسانية على الأرض.