آلاء الكسباني تكتب: كارنيه V.I.P

(1)

كلما علم أحدهم أن والدي –رحمه الله- كان ضابط شرطة , يفغر فاه سائلا: \”معقولة؟!\” بإندهاش كبير.

حاولت مرارا أن أستفسر عن سر هذا الإندهاش الغريب, فيُتبع استفساري دائماً إجابة واحدة: \”أصل إزاي بنت ضابط تبقى مع الثورة يعني؟!\”

توفي والدي منذ حوالي سبع سنوات, أي من قبل اندلاع الثورة بحوالي ثلاث سنوات كاملة, وبالرغم من عدم منطقية اعتبار هذه المدة دليل على براءته من انتهاكات الشرطة الجسيمة تجاه المواطنين قبل الثورة، إلا أن هذه الجملة كافية لإسكات السائلين وتطييب خواطر المندهشين وتسكين احتقان كارهي الشرطة وأفعالها, حيث يكتفون بترديد: \”أذكروا محاسن موتاكم\”، إكراما لوجودي واعتناقا لمبدأ أن كل شرطي مجرم قبل حتى أن تثبُت إدانته, وإيمانا بأن الانتهاكات ما قبل الثورة مختلفة تماما عن انتهاكات الثورة وما بعد بعدها.

لكن ما لا يعلمه هؤلاء المندهشون المُحتقرون لكل عناصر الشرطة, أن والدي كان ذا سمعة طيبة، على الرغم من العار الذي يلحقه دائما جراء عمله!

لم يذكر أحد أبي بعد وفاته بسوء قط, على العكس, لازلت إلى اليوم أسمع عبارات المديح والدعوات له بالرحمة من أُناس أنا شخصيا لا أعرفهم, تقابلني بهم الأيام لتثبت لي صحة وجهة نظري في أبي, ليس فقط كأب رقيق القلب صبوح الوجه ذو ابتسامة أصفى من أمطار الإسكندرية الخفيفة في بدايات الشتاء, بل كضابط شرطة يحب عمله ويؤديه على أكمل وجه، مع محاولة مستميتة لعدم الانخراط لفساد هذا الجهاز بأفراده وعناصره المختلفة.

لازلت بسبب سمعته الطيبة وحب الناس له على امتداد أقسام الشرطة المختلفة من شرق الإسكندرية لغربها إلى اليوم، أسير بينهم مرفوعة الرأس وأردد بكل فخر: \”أنا ابنة العقيد المرحوم أحمد الكسبانى\”.

(2)

لم يترك لنا أبي سمعته الطيبة وذكراه العطرة بعد موته فحسب, بل ترك لنا ورقة أكثر ربحا وقوة، يحسدنا عليها الكثيرون, ترك لنا كارنية الشرطة.

نعم, فأنا أمتلك كارنية يُثبت أنني ابنة ضابط شرطة, يُمكّنني من دخول النوادي والشواطئ والمستشفيات الخاصة بعناصر الشرطة حتى بعد وفاة والدي, لكن قيمته الحقيقية تكمُن في قدرتي على السير في الشارع دون أن أخاف من الاعتقال العشوائي أو السحل أو الضرب أو الإهانة غير المُبررة أيا كان شكلها, وحتى المُبررة منها!

(3)

منذ بضعة أيام طالعت فيديو لشاب في المترو يُضرب ضربا مُبرحا من بعض أمناء الشرطة, يسحلونه أمام الجميع ويسبونه بأمه , وسط تساؤل –غير مُبرر بالمرة بالنسبة لى- من الجميع عن حجم الجريمة التي ارتكبها هذا الشاب, وتوسلات للأمناء بتركه لأنه \”غلبان\” .

حين نقبت على الفيسبوك خلف السبب الحقيقي وراء هذا الفيديو, اكتشفت أنه حدث بمحطة مترو دار السلام مساء, حيث تحرش أحدهم بخطيبة الشاب المسحول التي سارعت بالاحتماء  بالعسكري الموجود بالمحطة، لكنه لم يعر استنجادها به اهتماما حتى أتى خطيبها وعلم بالقصة, فذهب إليه مُعاتبا، وحدثت مُشادة بينهما أفضت إلى إصرار الشاب على تحرير محضر ضد العسكري وجاء على أثرها بعض أمناء الشرطة لتهدئة الوضع, لكن ما حدث هو العكس تماما, حيث أهان أحد أمناء الشرطة الشاب وضربه, فصاح فيه الشاب قائلا: \”مش من حقك تضربني ولا تهيننى\”، فأنهال عليه باقي الأمناء بالضرب والسب واقتادوه لتحرير محضر ضده بتهمة الاعتداء على موظف أثناء تأدية عمله!

تذكرت نفسي وأنا أقرأ تفاصيل القصة الحقيقية خلف الفيديو، وأتحرى دقتها منذ فترة ليست ببعيدة, حين كنت عائدة إلى منزلي بعد يوم مُرهق وطويل, أجلس في الميكروباص بجانب السائق, حتى استوقفنا أحد الضباط في كمين شرطة.

نظر إلي السائق بحذر, ثم نظر إلي نظرة طويلة مُتفحصة , و طلب مني أن يُلقي نظرة على الكتب الموضوعة في حجري, فإذا بوجهه ينقلب حين رأى كتاب \”الأوردي – مذكرات سجين\” لـ سعد زهران.

قبل أن يتلفظ بأي كلمة من شأنها إهانتى, وبكل هدوء وبابتسامة صغيرة, أخرجت له كارنية الشرطة والبطاقة، فأنفرجت أساريره فجأة قائلا: \”طب ليه الكتب دي بقي مدام بابا عقيد شرطة؟\”، فأجبته: \”معلش.. طيش شباب وأصدقاء سوء\”, فقال ضاحكا: \”ماتعمليهاش تاني\”، وأعطاني الكتب و تركني أذهب لحال سبيلي!

(4)

بعد أن قارنت بين الموقفين السابقين بدقة, طرحت على نفسي سؤالاً أود أن تشاركني عزيزي القارئ البحث عن إجابته, ماذا لو متلك كل مواطن كارنية شرطة؟!

لا أقصد كارنية مثل الذي أملكه, فليس الجميع أولاد ضباط بالطبع , وإنما كارنية من نوع آخر, يمكن أن نسميه بكارنية الـ VIP, مثل كارنيهات الانتساب للنوادي، بالرغم من عدم عضويتك بها!

تخيل معي عزيزي القارئ أن تذهب إلى السجل المدني طالبا استخراج كارنية VIP – شرطة, وتدفع مقابله مبلغا ماليا عللا أن يُجدد سنويا, تستخدمه في حالات الطوارئ فقط, حين تصادف كمينا, حين ترى مظاهرة تسير بجانبك, حين يقشعر بدنك لسماع هُتاف المعتقلين من عربة الترحيلات, حين تجد اعتقالا عشوائيا في الشارع, حين تدلف إلى أحد الأقسام لعمل محضر في عسكري أو ضابط أو أمين شرطة, وحين تُطالب بمحاسبة رجل الأمن الذي قصر في حماية خطيبتك من التحرش, أو حتى تحرش هو نفسه بها! تخيل حجم الخسائر التي يُمكن تفاديها على الصعيد الشخصي بكارنية صغير للغاية تُثبت به ولاءك للنظام ولأهم ثاني جهاز فيه -الشرطة- بل وتخيل حجم المكاسب التي يمكن أن تجنيها أنت والنظام!

لن يُصبح  لكلمة رشوة داع في حياتك, خصوصا للأمناء والعساكر, فأنت تدفع لهم سنويا من أجل تفضيلك على باقي المواطنين بالفعل.

لن تمشي خائفا بعد اليوم, يمكنك أن تقتني ما تشاء من الكتب وتسير بها في الشارع دون أن يتم التحفظ عليك باعتبارك تهديدا للسلم والأمن الداخليين!

يمكنك أن تسير في أمان تام مُمسكا بيد حبيبتك, أو راكبا معها سيارتك, كارنية الـ VIP سيقيك شر الاستماع إلى سخافات ضباط الكمائن والأمناء حين يتحرشون بكما غامزين لامزين مُطالبين بإبراز وثيقة زواجكما في محاولة دونية منهم للضغط عليك لتتركها لهم!

سيختفي الإعتقال العشوائي إلى حد ما, فكل من لديه كارنيه VIP يمتلك إثباتا ماديا ملموسا بحقيقة انتمائه للنظام من عدمه, ويُقدم دليل براءة واقعي من انتمائه لأي جماعات إرهابية أو امتلاكه لأي بالونات صفراء تحمل شارات رابعة, أو عدم فرحته بقناة السويس الجديدة, أو سيره بجانب مظاهرة بالخطأ, أو عدم غنائه لـ \”تسلم الأيادي\” أثناء سماعها في الشارع.

من يمتلك كارنية الـ VIP يُعد في حماية النظام من النظام نفسه!

لن يتكرر مصير \”خالد سعيد\”, لن تكون هناك حاجة للثورة على الفساد أساسا، فسوف نتعايش معه في سلمية تامة, ستكون هذه الظاهرة سببا في إنشاء نوع جديد من أنواع العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية, فسوف تخرج الطبقة المتوسطة من عباءة الطبقة الفقيرة المُعدمة، وتنضم بفضل الكارنيه إلى فئة الآمنين من الكبار أصحاب المناصب والجهات السيادية, وتتساوى بأصحاب الثورة القادرين على شراء ذوي المناصب.

(5)

\”دي خريطة للأوضاع الاجتماعية في جمهورية مصر العربية, وفي ظل المأساة اللي بتعيشها البلد, مفيش حد يقدر يعيش مطمن على كرامته وحياته وأسرته، إلا الأفراد في هذه المنظومات الثلاث:

أولا: منظومة الجهات السيادية: الحكومة, أمن الدولة, المخابرات بأنواعها.

ثانياً: منظومة العدالة: القضاء, النيابة, الشرطة

ثالثا: منظومة الثروة: وفي الحقيقة المنظومة دي بتتعامل وتكاد تشتري المنظومتين اللي فوق دول.

الناس دي بس, هي اللي بتقدر تنام وهي مطمنة إن محدش هايقدر يأذيها ولا يبوظلها حياتها، ولذلك نقدر نسميهم الفئات الآمنة إلى يوم الدين, أما اللي زينا.. حيالله علماء, دكاترة, مهندسين, فإحنا مُرشحين ناخد وفي أي وقت بالجزمة! لا قيمة لنا في هذا الوطن!

\”أنا مجمعكوا هنا عشان ندور على حلول خلاّقة نقدر ننضم بها للفئات الآمنة وندخل معاهم تحت مظلة الأمان الخاصة بيهم\”

هذا ما قاله الراحل العبقري خالد صالح في واحد من أجمل أعماله \”فبراير الأسود\”, وهي كلمات واقعية بحق, تُعبر عن لسان حال كل فرد فينا, واعتقد أنني قد وجدت الحل الخلاّق الذي كان يبحث عنه, والذي سيُمكن باقي الطبقات غير الآمنة من محاولة اللحاق بمظلة الأمان تلك.. هو ببساطة: كارنيه VIP .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top