قدم الكاتب محمد علاء الدين هذا العام مجموعة قصصية جديدة بعنوان، \”موسم الهجرة لأركيديا\”، عن دار ميريت للنشر، يتنقل علاء بين الرواية والقصة القصيرة بشكل مستمر، كمن يرفض التصنيف الضيق، أو بالبلدي كده.. شايف أن السرد ملعبه.
صدر لعلاء خمسة روايات وثلاث مجموعات، صاروا أربع بصدور \”موسم الهجرة لأركيديا\”، كما يتنقل علاء بين أشكال السرد يتنقل أيضًا بين دور النشر، ولا يقف كثيرا عن التنقل، ويرد ببساطة: \”أنا كاتب محترف\”.
المجموعة الجديدة تحوي ثلاث قصص طويلة نسبيا، وآراها تخرج من حيز \”القصة القصيرة\” التي تعمل على رصد المشهد أو التفصيلة الضيقة الدقيقة، وتنتقل إلى حيز \”النوفيلا\”، حيث كل المقومات الشكلية للرواية، عدا الطول، من طول الفترة الزمنية الدرامية وتعدد الشخصيات والغوص في تفاصيلهم ورسمهم بدقة، بل ورصد عوالمهم الداخلية ورؤيتهم الشخصية للعالم من حولهم.
يسيطر على المجموعة جو من السخرية يبدأ من عنوان الكتاب، وهو عنوان القصة الأخيرة فيه، \”موسم الهجرة إلى أركيديا\”، في معارضة مفارقة لرائعة الأديب السوداني الراحل، الطيب صالح، \”موسم الهجرة إلى الشمال\”.
\”الببغاء في عزلته\”.. هكذا جاء عنوان القصة الأولى التي خلق فيها علاء الببغاء الخاص به بمنتهى الدقة، ونصب له الشرك بسادية منقطعة النظير، ليقتله في النهاية بميتة تافهة غير مأسوف عليه بعد هذا البناء الدرامي المحكم.
ببغاء علاء هنا هو \”رفقي بك\” العجوز التافه الذي لا يملك أكثر من المال سوى الجهل والشك في كل من حوله، وكيف في جُمل بسيطة كتبت بعناية وتم اختيار أماكنها بدقة، لتمر عليها عين القاريء بوصفها تفاصيل عادية لا تؤثر في المسار الدرامي، كيف لهذه الجمل أن تبنى بعناية الجوانب النفسية والشخصية لذوات شخصياته الدرامية، والتي بناء على هذه النفسيات تتحرك وتتخذ قراراتها فتصنع المسار الدرامي.
لا يقدم فساد رفقي بك، أو بمعنى أدق تناغمه مع الفساد السائد في الدولة، عبر جمل رنانة ولا مواقف بطولية، بل ببساطة شديدة \”حافظ على مضاربة أبيه بالأراضي التي يستحيل ترابها ذهبا بالصبر والرشوة\”.
ومثلما قدمه وبنى عالمه وهوسه بهذه البساطة، قتله وسط تحصيناته المريضة وحيدا، لا برصاص قناص، ولا تحت أقدام الثوار، بل بصيحة عادية تحمل اسمه.
عمل لا يمكن فصله عن الثورة، ولا يمكن الإمساك بها زاعقة بين جنباته، ولا ضبطه متلبسا برفع أي من شعاراتها بشكل أعلم جيدا كم يكرهه علاء كراهيته للصحفي الشاب، الذي يواجه حيتان الانفتاح في أفلام السبعينيات والثمانينيات البائسة، خاصة إذا كان الصحفي الشاب نور الشريف.
أما القصة الثانية \”مربى الحرنكش\” فهي أكثرهم وجعا، خصوصا لأبناء جيلي، فهي ترصد حياة شخص كما لخصه علاء في النهاية \”رجل يبدأ في مغادرة الفتوة إلى الكهولة، بالضبط حين يتبقى النزق رغم خفوت القوة\”، محاولة بائسة لشخص بائس يسعى من خلالها أن يقفز خارج صفوف العاديين، وتتمثل هذه المحاولة ببساطة في صناعة \”مربى حرنكش\” وتسويقها لشركات الأغذية.
لا يضيع علاء الفرص في الدخول لنفسيات شخوصه، الذين أشفق عليهم، فالزوجة ودون أن نعرف طبيعة عملها تكون أكثرا نجاحا من الزوج، لكنها لا تعاني من أي عقد بهذا الخصوص، بينما لا يخلو الزوج من شعور بمنغصات ذكورية، تجعله يفسر الكثير من تصرفاتها بناء على دخلها المرتفع، ولا يخلو الأمر من كونه يخشاها ويبالغ في تدبر أموره، بنفس أخطاء الشباب ونزقه، فيعامل مع مشروعه بوصفه مشروع سري.
وحين يتم ضبطه من قبل الزوجة، تساعده بإخلاص وبلا مشاكل، فهي لا يضايقها سوى أنوثتها المهملة، بل وتقتسم معه أكل الإنتاج الذي يفشل ببساطة في تسويقه، بل وتسرق بعضه دون علمه لتمنحه لآخرين قد يكونوا عائلتها، أو عشيقا ما.. يكمل ما ينقصها شعوريا قبل جسديا.
أما الخاتمة وصاحبة عنوان الكتاب \”موسم الهجرة إلى أركيديا\”، فتنغمس تماما في الأحداث الأولى للثورة، لكن أيضا دون أي تورط سياسي أو نضالي، فقط رصد أدبي لتفاصيل إنسانية من خارج معسكر الثورة أو حتى أعدائها، فقط قصة حب شديدة الرومانتيكية، لكنها من طرف واحد، لا لشيء إلا أن أحد الطرفين بلا مشاعر من الأساس.
\”وقع حمزة في حب عظيم، وككل قصص الحب العظيمة فقد توافرت كل الأسباب لجعله حبًا بعيد المنال، وربما محرمًا\”، هذه الجملة تصف بوضوح قصة التي تدور حولها القصة، ينقصها فقط توضيح سبب أن الطرف الآخر بلا مشاعر، وعند قراءة القصة، وبلا حيل كتابية طفولية، تعرف من البداية أن قصة الحب طرفها الأول ميكانيكي متوسط الحال والثاني جاكيت جلد باهظ الثمن.
يدخل علاء عالم \”ما وراء أركيديا\” ليخرج لنا بالأسطى حمزة وبزوجته التي كان يضاجعها قبل الزواج، فوق سطوح منزله، هكذا ببساطة دون أحكام قيمية من الكاتب، وكأي قصة حب تتناولها الدراما، خصوصا المنحازة لمعسكر الضحك المُر، تنتهي نهاية مأساوية، وتأتي النهاية هنا من ذات طينة الحدث وأبطاله، في قصة تستحق القراءة باستمتاع كأنك تحاول للمرة الثانية صناعة مربى الحرنكش.