أحمد مدحت يكتب: الحر وجهنم الأرضية.. هل نستحقها إن كانت عقابا؟

كان العرق يغمرني تماما، أنفاسي تضيق، ونظاراتي تغطيها سحابة من العرق تحجب عني الرؤية الرائقة.. العالم مهزوز وضيق وساخن وخانق لدرجة لم أتخيلها من قبل! اعتدلتُ في جلستي، في الكنبة الأخيرة في الميكروباص، وبدأت في تعبئة صدري من الهواء الساخن المندفع من الشباك، بعدما صارعت طويلا من أجل دخول العربة، بعد الوقوف أكثر من نصف ساعة، في زحام المنتظرين، تحت شمس الظهيرة الحارقة القادرة على إصابتي بالصداع والإعياء لباقي اليوم.

نظر لي العجوز الجالس بجواري، وهمس، كأنه يحادث نفسه، وهو يمسح وجهه بمنديل قماشي عملاق: ده عقاب ربنا! زفرة من زفرات جهنم.. ربنا بيدينا إشارة عشان نتعظ ونبطل بقى.

ظللتُ أفكر في ما قاله العجوز بقية اليوم.. أشعر بالفعل كأنني سجين جهنم الأرضية! هذا الحر يخنقني خنقا، ويدفع بي للاكتئاب، مهما تجنبته أو راوغته.

كان الطرح الذي ألقى به العجوز، ونحن نتصبب عرقا في زحام الميكروباص، مغريا بالنسبة لي، كأنه أكد هاجسا يهمس داخلي منذ بداية هذه الموجة الحارة اللعينة، التي أزهقت الأرواح، على سبيل المجاز، وبالفعل أيضا، بعد أن مات البعض بسبب شدة الحرارة.

هل قرر الله أن يعاقبنا بهذه الموجة الحارة؟

من الناحية الدينية، لدينا الكثير من الحكايات التي تؤرخ لما أنزله الله من عذاب على الأمم، التي بغى أهلها في الأرض، أو تجبروا على الله وتحدوه في سلطان ألوهيته.

على مدار الأربع سنوات الماضية، تورط العديد من المصريين في تأييد قتل واعتقال خصومهم السياسيين ظلما، دون سبب.. ناس عاديون تماما هللوا فرحا، وبعضهم لا يزال يهلل، عند قتل أو اعتقال شخص لا يرضون عن فكره أو عقيدته.. الشماتة في الموت، بشكل عام، انتشرت كأنها وباء لا علاج له.

يبدو العقاب بارتفاع درجة الحرارة ذو شجون! عقاب مناسب تماما لو كان في الأمر عقابا إلهيا بالفعل.. هل أراد الله أن نشعر بجزء مما شعر به شباب أولتراس الزمالك \”وايت نايتس\”، وهم يموتون اختناقا في \”ممر الموت\”، يدوس بعضهم بعضا من شدة التزاحم والتدافع الجنوني، في ذلك الكمين الذي جهزته لهم الداخلية على بوابات ستاد الدفاع الجوي؟

هل أراد الله أن نشعر ببعض ما يعانيه المعتقلين في سجنهم الطويل؟ حرارة الزنازين المغلقة تختلف! ليل السجن الطويل لا يعرف السمر، ولا هواء المراوح، ولا المكيفات، ولا تسلية الإنترنت والتليفزيون.

منذ قرابة العامين، وعقب فض رابعة، تعرض 37 سجينا للقتل في عربة ترحيلات متجهة لسجن أبي زعبل.. مات بعضهم مختنقا بسبب ارتفاع درجة الحرارة، والبعض الآخر كان على موعد مع تجربة الاحتراق حيا؛ بفعل ملامسة المعدن الساخن لعربة الترحيلات، حتى إن بعض من نجوا حكوا أنهم شموا رائحة اللحم المحترق لزملائهم، قبل أن يرحمهم الله ويقبض أرواحهم.. هل نشعر الآن بنصف الحر الذي عانوه؟ لا أظن.

وهذا الجندي، الذي يؤدي خدمته في أحد المعسكرات المقامة في الصحاري، يقضي تحت لهيب الشمس ساعات طويلة، مملة، لا عمل له فيها سوى الانتظار، قبل أن تصيبه رصاصة غادرة أو قنبلة، يظن من يلقيها أنه يخدم الله ودينه، وبعدئذ، نجد من يشمت في موت الجندي، ويصف مقتله بأنه انتصار لدين الله.. هل نشعر الآن بخُمس الحر الذي كان يعانيه هذا الجندي، وقد وقف ينتظر موته، دون أن يملك سبيلا للدفاع عن نفسه؟

لا أعرف إن كانت هذه الموجة الحارة عقابا إلهيا أم لا؛ فهذا ضمن الأمور التي لا يعملها إلا الله.. المهم، لعلها تكون رسالة ضمنية للجميع، تذكرهم بتفاهة الحياة، وكيف يمكن أن تنتهي حياة إنسان بفعل ارتفاع عدة درجات في مؤشر حرارة الجو! لعل الجميع يتذكرون أن كل هذه الكراهية لا مبرر منطقي لها سوى الغباء الناتج عن فقدان البصيرة؛ فكل هذا لا يستحق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top