رغم سكونه الدائم، كان مبتسما طوال الوقت، جلس على الأرض واتكأ على الحائط، رغم ذلك ظلت ثيابه بيضاء، حفرت سنوات العمر الثمانين على وجهه \”وعلمت عليه\”، لكنها تركته بشوشا دائما، لن تستطيع أن تحدد من نظارته العريضة إن كانت عيناه مغمضتين أم لا تزالان تريا الدنيا، لكنك ستشعر حتما بنظرات الحب والفرحة لكل العائلة التى تجمعت حولة فى العيد مثل كل سنة.
إلى جواره الأب والخال فرحين بأبنائهم العيال الذين صاروا بغالا.
انعطف منهم الحديث خطأ للسياسة، فطبعا (خيشوا فى بعض)، ولايزال الجد ساكتا مبتسما.
التوتر ملأ الهواء والأصوات العالية امتزجت وأصبحت صاخبة مثل (دي جي حمادة النمر الذي يهنئ العروسين ويتمنى لكم سهرة سعيدة لحد ما تبقوا طرش) أغمض الجد العجوز عينيه وأراح رأسه على الجدار، فرأى الماضي.
الماضى (الزمن الجميل)، حينما كان عبد الحليم \”نجم الجيل\” رغما عن \”الهضبة\” عبد الوهاب، بينما كان رشدى والعزبى مغنين مهرجانات.
فى الماضى كانت (#مصر_بتفرح) برضه.
تذكر الجد فرحته بثورة يوليو عندما سالت دموعه دون أن يشعر لما رأى اللواء أركان حرب محمد نجيب (أول مصرى يحكم مصر من بعد الفراعنة)، حينها كانت القاهرة من أجمل مدن العالم وكان الجنيه المصرى بحوالى 765446700700 إسترلينى، كنا دولة غنية ومتقدمة فعلا تعانى فقط من هجرة العيال \”اليونانيين\” و\”الإيطاليين\” (الصيع) للعمل جارسونات بمطاعم القاهرة، فى الوقت نفسه كانت \”اليابان\” تلمم جراحها بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية بقنبلتين نوويتين، أما \”ألمانيا\” فكانت شبة الخرابة التى كان يسكنها عشري فى فيلم \”إبراهيم الأبيض\”،
و بعد طرد الملك وجلاء الإنجليز، وعلى القهوة المجاورة قال له صديقه المثقف الأستاذ أنور (الله يرحمه) بحماس شديد: المشكلة الآن ليست عويصة، فقط نحتاج الى عدالة فى توزيع الثروة على المصريين، لقد سمعت أن القصور والذهب والأموال المنهوبة قد تعدت سبعة آلاف جنيه يا معلم، (آه والله زيمبؤلك كده).
قال الجد العجوز لنفسه: 63 سنة من ثورة 52 و( #مصر_بتفرح )،
صحيح كانت أسباب الفرحة حقيقية فى أوقات كثيرة، تأميم القناة وكلمة السر (فرديناند ديليسبس)، السد العالى، مصانع القطاع العام، إنتصار أكتوبر 73 ، المترو، كوبرى أكتوبر، الطريق الدائرى، ورغم كرهه لمبارك، إلا أنه ضحك وتخيل حجم المصيبة السوداء التى ستصيب الدولة لو إاختفى المترو أو كوبرى أكتوبر أو حتى نزلة المحور من على الدائرى، فى حين لو اختفى الهرم (ولا هيحصل أى حاجة، هيلزقوها فى إخوان العمرانية ويغيروا اسم شارع الهرم إلى شارع فيصل الجديد وخلاص).
إزدادت ضحكته الساخرة دهشة، حينما تذكر فرحته بين أهالى الحى و(فرحة مصر) يوم 5 يونيو 67، حينما أعلنت الإذاعة المصرية عن إسقاط 76544329000056 طائرة للعدو، كما كانت (مصر بتفرح) أيضا عندما أذاع التلفزيون مشاهد هدم السادات للمعتقلات، وفرحت أكثر بالانفتاح والمليارات التى ستتدفق نتيجة رؤية سيادة الرئيس الاقتصادية، و(فرحت) بمدينة السادات (العاصمة الإدارية الجديدة)، (مصر فرحت) كثيرا جدا أيام توشكى، (مصر فرحت) وغنت إخترناه (تلاتين سنة)، (مصر فرحت \”أوى أوى أوى\”) بأول رئيس منتخب فى تاريخها (خصوصا إنه كان بدقن وفى نفس الوقت كان خاربها فى ناسا)، ولم تسعها الدنيا من الفرح بمشروع النهضة، (مصر فرحت بهبل وريلت) لما اللواء عبد العاطى اخترع علاج لفيروس سى.
للجد الحكيم وجهة نظر فى تحليل تلك الظاهرة، دائما كان يقول (إن \”أم الدنيا\” مثل أى (أم)، طيبه وبتتخن من كتر القعدة فى البيت، وفاكرة التخن عز، ما بتصدق تفرح بأى خبر حلو، و لما بتزعل من عيالها مابتحاسبش حد، بتشيل فى نفسها ومابتقولش، لحد ما جالها الضغط والسكر والروماتيزم والقلب والكبد والكلى والسرطان و…….
عاش الجد حياته فى هدوء، لكنه زار المعتقل شهرا حينما قال عبثا على المقهى المجاور يوما: \”إن (مصر بتفرح) فقط إن أراد النظام ذلك وأدار الماكينة الإعلامية، لتضئ (اللمض) الملونه ولتعلو المزيكا الصاخبة، وتهتز الأجزاء الممتلئه من الجسم سعادة من فرط الوطنية فى الميادين، ثم نغرق بعدها فى شرح تفاصيل الحدث و(نطرمخ على النتايج لو الموضوع قلش)\”.
ثم أشعل سيجارته ورشف قليلا من قهوته المرة، ونظر إلى الأستاذ أنور، وقال: أنا لا أبخس دورأحد قدم للدولة عملا مهما، لكنى لا أنسى من أعطى للناس أملا ثم (فكس)، وسكت قليلا والتقط نفسه وقال بصوت منخفض ونبراته تتعثر خوفا: \”لكن المشكلة الحقيقيه تكمن فى طريقة إدارة الدولة من أيام ثورة 52\” لكن العجوز ندم كثيرا حينما نفث قليلا وأقسم لزوجته بعدها أنه لن يتحدث أبدا على القهوة، (هيلعب دومينو بس).
يظن الجد العجوز أن لنا طريقة فريدة فى الإدارة من يوليو 52 إلى يناير 2011 هى التى أخرتنا (شوية صغيرين يعنى) عن الدول التى بدأت عصر التغيير معنا (مثل اليابان وألمانيا مثلا).. المشكلة أن (المؤسسة الوحيدة المستقرة التى لها انتصاراتها وإنجازاتها الحقيقية \”وكمان إلى جانب واجبها الوطنى فى حماية أمن واستقرار البلاد، بتوجب مع الشعب وبتعمل له طرق وكبارى، ده غير قاعات الأفراح وتجديد المستشفيات\”) لذلك دائما هى التى تنجب الرئيس الذى يعشقه الملايين، فيتحول إلى زعيم، ومن ثم الزعيم يحارب أعداء الداخل والخارج ويعقد الصفقات ويأتى بالطائرات، فى الوقت نفسة الزعيم يصدر القوانين، الزعيم يجتمع بالإعلاميين، الزعيم يكرم الفنانين، والزعيم يعين الوزراء والمحافظين والقضاة والمفتى والبياعين، الزعيم يقرر المشاريع العبقرية، الزعيم يجرب مشاريع غير المشاريع الأولانية، الزعيم يقيل المسؤولين والوزرا الأغبياء، إلخ إلخ إلخ\”.. وإحنا بنتساق وملناش دعوة.
فتح الجد عينيه وانتبه لأحد الأحفاد يقول بصوت عال: لو سمحت (ماتدخلنيش فى تفاصيل يا مدحت) وتقول لى قناة جديدة ولا تفريعة! العيب فى \”السيستيم\” العيب فى \”السيستيم\” زى ما قال برايز.
إن شاء الله ، فى يوم ما، هانفرح لما نبقى دولة مؤسسات، هنفرح لما تبقى متأكد من إن المشروع اللى بدأ مرتبط بدراسة مش بشخص، ولما المسؤول عنه يبقى متأكد إنه لو (فكس) هايتجاب من قفاه وهيقلع قدام الناس فى البرلمان، هنفرح لما الإعلام يهتم بالمعلمين والعلماء أكتر من السياسيين والعوالم، هنفرح لما يبقى فيه حد أقصى للاستهبال وحد أدنى للعيشة الكريمة، هنفرح لما ندرك إن الوطنية مالهاش أى علاقة بالرقص فى الشوارع.. هنفرح حينما ندرك أن الله لا يقيم دولة الظلم حتى لو كان قضاؤها شامخا، ولا يقيم دولة الجهل وإنعدام الخبرة حتى لو كان الريس محافظ على صلاة الفجر جماعة.
صاح الجد العجوز، فأسكت كل من حوله، وكشف عما كان يكتمه وقال: يا ولاد الهبلة افرحوا.. إحنا بقى عندنا قناة هتجيب لمصر مليارات، وضحك كثيرا حتى سعل ودمعت عيناه، ثم سألهم: \”حد بيعرف يلعب دومينو؟!\”، همس الأب فى أذن ابنه وقال له: شفت يا محبط #جدو_بيفرح.