تنص المادة 236 من الدستور المصري على:\”…… وتعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون\”.
لكن بالرغم من الإنجاز الكبير الذي حققه النشطاء النوبيين وعلى رأسهم الكاتب النوبي حجاج أدول، في الوصول لصياغة مثل هذه المادة الدستورية والتأكد من تضمين مبدأ حق العودة صراحة, إلا أن وبعد مرور عام ونصف من تمرير الدستور، لازال أهل النوبة يعانون نفس المشاكل.
لم يكتف النظام الحالي من مجرد فقط تجاهل المادة الدستورية, بل إنه سارع بإصدار قوانين وقرارات جعلت الوضع أكثر سوء على ما كان عليه.. لا يزال قيادات ونشطاء النوبة يصرخون من الظلم والقهر بالرغم من أن طلبهم واضح وصريح وشرعي ومنصوص عليه في الدستور.
بعد أن ظن النوبيين أن هناك أمل في العودة بعد النص الدستوري, فاجأتهم الحكومة بطعنة في الصميم قضت على هذا الأمل، وهي إصدار القانون 444 لعام 2014 بشأن تحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية والقواعد المنظمة، والذي ينص على حظر27 قرية نوبية ومعاملتها كمناطق عسكرية في النوبة القديمة مع توزيع 17 ألف فدان و1000 مسكن في توشكى للمغتربين. شكّل هذا القانون صدمة كبيرة للقيادات والنشطاء النوبيين, ليس فقط لأنه يحظر 27 قرية نوبية بعد أن كان متوقع أن تتم إجراءات العودة لها, لكن لأنه صادر عن نفس النظام الذي أصدر الدستور الذي ينص على حق العودة. وأيضا كان من المؤلم جدا دخول القوات المسلحة المصرية طرفا في الصراع وتحويل هذه القرى لمناطق عسكرية, مما زاد الإحساس بالطابع العسكري للدولة، والذي لا يعد بأي حقوق ويقطع الأمل في العودة.
وعندما حاول النشطاء تنظيم اعتصام في حديقة درة أمام مبنى محافظة أسوان في أبريل 2015, تم منعهم من قبل الأمن. ومن وقتها يتم رفض أي طلب لتصريح مظاهرة لهم. وحتى عندما حاولوا التجمع في إحدى القرى النوبية \”غرب أسوان\”, ذهبوا ليجدوا الأمن محاصرا القرية ومانعا دخول أي شخص, بحسب ما أخبرني الناشط النوبي يحيى عبد الخالق، وأيضا قام الاتحاد النوبي والجمعية المصرية للمحاميين النوبيين برفع دعوة قضائية بالطعن على القانون 444 أمام القضاء الإداري, لكن حتى الآن لم يتم الحكم فيها ويتم تأجيلها من جلسة لأخرى.
قال لي صديقي الناشط النوبي مجدي الدابودي أن القضية النوبية هي واحدة من قضايا حقوق الإنسان المزمنة التي تواجه الحكومة المصرية وأن الوضع ازداد سوءا بعد أن ظنوا أنهم وصلوا لحل.
أما عن تاريخ القضية, فقد كان الشعب النوبي ضحية نزوح قسري من أراضيه الأصلية. وجاء الفصل الأخير من نزوحهم في عام 1964 عندما تم الانتهاء من بناء السد العالي، فأجبرتهم الحكومة المصرية على الإخلاء والانتقال إلى المناطق الريفية. كما أن بناء خزان أسوان الذي أعقب مشروع السد العالي قد أجبر الشعب النوبي أيضا على الانتقال في 1902 و 1912 و 1933 قبل ذلك النزوح النهائي في عام 1964.
خمسون عاما، والنوبيون ينادون بحقهم في العودة إلى أراضيهم. مع مرور الوقت، عاد النازحون إلى السويس وسيناء إلى مواطنهم، لكن ظل النوبيون مشردين، على الرغم من وعود الحكومة المتكررة بإعادتهم إلى ديارهم.
بعد ثورة 25 يناير، أمر رئيس الوزراء السابق عصام شرف بإنشاء المعهد العالي للتعمير جنوبي السد العالي. ومع ذلك، لازال مشروع المعهد حبر على ورق. على مر السنين، كانت المحاولات الخارجية للاستثمار في النوبة غير ناجحة عموما.
كما هو الحال مع العديد من المجتمعات النازحة، عانى الشعب النوبي سنوات من الإهمال، وعدم الوفاء بالوعود، وفي بعض الأحيان التمييز الصارخ.
جيل الشباب، وعلى نحو متزايد، لم يعد مستعدا للانتظار السلبي لوعود الحكومة بتقديم الحل، لكنهم يطالبون بحقوق شعبهم ويدافعون عنها. في عام 2007 ، شكل مدافعو حقوق الإنسان النوبيين ائتلافا باسم لجنة متابعة الملف النوبي. وبرغم أنها ليست كيانا رسميا إلا أن محافظ أسوان اعترف بنفوذ هذه اللجنة، فأخذت تشارك في المفاوضات مع الحكومة المركزية.
وآخر تطوراتها المتعلقة بالقضية النوبية هو الإشارة في الدستور الجديد إلى حق النوبيين في العودة إلى أراضيهم والتزامات الدولة بتنمية الأرض في غضون عشر سنوات، وكان هذا التطور ثمرة لاجتماعات نسقها المدافع عن حقوق الإنسان النوبي حجاج أدول الذي كان يمثل الشعب النوبي في لجنة صياغة الدستور الجديدة.
يتَعرّضَ النشطاء النوبيون باستمرار للترهيب والاضطهاد منذ أن بدأوا في التعبير العلني عن مطالبهم. وقد شمل هذا القمع التخويف في مصادر الرزق، والعرقلة في تنفيذ الإجراءات القانونية، وحتى الاعتداءات البدنية. وقد استهدفت أجهزة أمن الدولة مدافعي حقوق الإنسان النوبيين متهمة إياهم بأنهم \”انفصاليين\”، على الرغم من أن جميع المدافعين عن حقوق الإنسان ممن قابلتهم أكدوا لي بأنه ليست لديهم أجندة انفصالية، بل إنهم يرون أنفسهم جزء من مصر وملتزمون بالعمل من أجل تحقيق الصالح العام للبلد على أساس احترام حقوق شعبهم النوبي والاعتراف بثقافته الفريدة.
يبدو أن الحكومة لا تدرك مدى خطورة التعامل مع مثل هذه القضايا باستهتار، أو ربما تتعمد إتباع سياسة معينة وتطبيق الحلول الأمنية القمعية التي دائما ما تنتهي إلى تفاقم المشكلة، فمثلا رأينا عندما تخاذل الأمن عن الفصل بين الاشتباكات بين الدابودية والهلايلة في أحداث العنف الشهيرة التي حدثت في أبريل 2014. كنت أزور النوبة في الأسبوع السابق للأحداث وكان من الواضح جدا أن هناك مشكلة على الأبواب, وكانت نبرة الحوار لا تبشر بالخير وتنم عن نفاذ صبر النوبيين، وهي علامة لو تعلمون خطيرة جدا، فما كان من الأمن إلا أن ترك أطراف الصراع يتناحرون إلى أن أصبحت مذبحة.
الآن يتحدث النوبيون عن تدويل القضية النوبية ورفعها للأمم المتحدة, وهو حق لهم بعد أن خذلتهم الحكومة المصرية وأعطتهم وعدا كاذبا، ثم نكلت بهم أكثر من قبل.
يعاني النوبيون حاليا من إحباط شديد.. من خيبة الأمل بعد صدور القانون 444، فقد كانوا يأملون خيرا في النظام الحالي والرئيس السيسي، وفرحوا جدا به، وأيدوه بعد أن تخلص من حكم الإخوان. لكن هل سيستمر هذا الإحساس، خصوصا بعد أن أصبح الجيش طرفا في الصراع؟ أرجو من الحكومة أن تلتفت للقضية النوبية وأن تطبق المادة 236 من الدستور في أسرع وقت، وأن تمنع تدخل الأمن في شؤون النوبيين وأن تلغي القانون 444 وترد القرى للنوبيين، وتسمح لهم بالعودة, فهذا أقل ما يمكن تقديمه لهم.