ماجدة خيرالله تكتب: فيلم "السويس" وحكاية ديليسيبس المفترى عليه

 

ديليسيبس كان رجلا طموحا.. وماكانش ابن كلب زي ما فهمونا

قناة السويس.. قناة السويس حفرها أجدادي زكي وعويس.

جه ديليبس قالنا هس.. إنتوا النص وإحنا النص.

كانت أغنيه حفظناها لما كنا صغارا، ضمن أشياء ومعلومات كثيرة ملؤوا بها عقولنا، وأصبحت من المسلمات التي لا تقبل النقاش والجدل، وترسب في عقولنا وضميرنا، أن ديلييسيبس هذا رجل \”ابن كلب\” أفّاق ومغامر، وضحك على الخديوي سعيد، الذي كان حاكما على مصر في عام 1859، وأغراه بكام طبق مكرونة إسباجيتي! وحصل منه على موافقة، لحفر قناة تربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، سوف تصبح بعد ذلك أهم معبر مائي يربط بين الشرق والغرب، ويحقق عائدات جهنمية!

طيب واضح إن المشروع مهم، وسوف يضع مصر ضمن أهم البلاد في منطقة الشرق الأوسط، وحايدخل خير كتير، والبلد حا تعيش عليه وتعتبره من أهم مصادر الدخل القومي، طيب يبقى ليه ديليسيبس راجل ابن كلب وأفّاق؟! قالك عشان هو استغل العمال المصريين، في حفر القناة، وكان الاتفاق،على أن تحصل فرنسا، التي قامت بالانفاق على المشروع، على امتياز بالانتفاع لمدة 99 سنة!

طيب ما هو ده كلام منطقي، لأن الجهة اللي حاتصرف ع المشروع من حقها أن تحقق مكاسب، ولا يعني حتعمل كده عشان خاطر عيون المصريين؟ وكرامة للنبي؟ فين الخطأ التراجيدي اللي عمله ديليسيبس وهو رجل -في المقام الأول- يخدم بلاده، وفي نفس الوقت فإن خدمة بلاده، سوف تأتي بالنفع الكبير لبلد تانية هي مصر، إيه المنطق الغائب هنا؟ فين الجريمة، اللي عملها الراجل، قالك أصله استغل الفلاحيين المصريين، وشغلهم في السخرة، ومات منهم كتير أثناء الحفر؟ طيب يا سيدي حفر القناة استمر قرابة عشرة سنوات، مش عايز ناس تموت طوال هذه المدة؟! ثم إن حكاية السخرة شغالة الله ينور لحد دلوقتي، من غير استعمار فرنسي ولا انجليزي.

أومال أنت فاكر المشاريع اللي بتقوم بها القوات المسلحة من  طرق وسكة حديد، أو أعمال بناء وحفر، مين اللي بيقوم بيها، ما هم المجندين الغلابة، ولا يتقاضوا عليها أي مقابل مادي، وتقدر تقول بقلب جامد، إنها عمل بالسخرة، وأكيد بيموت ناس كتير \”في صمت\” وبلا ضجيج إعلامي، لكن أيام حفر القناة الأولى أيام الخديوي سعيد، كان الناس بيعرفوا عدد الموتى، ولم تكن المسأله عذابا وتعذيبا، لكن ظروف العمل في الصحراء، ومع توالي الشتاء والصيف، أكيد فيه ناس صحتها ما تستحملش، مع الوضع في الاعتبار أن الفلاح المصري عادة ما يعاني من البلهارسيا وأمراض الكبد، وكثير من الأوبئة، يعني كان حايموت حايموت، بقناة السويس أو من غيرها!

خلاصة الكلام.. أنا شايفة إن ديليسيبس هذا رجل طموح، وعبقري، وقدم لمصر أكبر خدمة، سواء كان يقصدها أو لا يقصدها، ولا يهم النوايا التي تعتمل في صدره، لما فكر في مشروع لربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض، بعد أن كانت تلك المنطقة عبارة عن تلال رملية، تحدث بين الحين والآخر عواصف رهيبة، تدمر خيام البدو من ساكني الصحراء، وتتسبب في خسائر في أرواح البشر والحيوان! وأرى أن صاحب كل اختراع أو مشروع لابد وأن يستفيد من نتاج فكره، هذا أمر عادي جدا، ومنطقى، يعني الشركات الأجنبية اللي شغالة في سينا، وبتستخرج الذهب من منجم السكري، مش بتاخد النسبة الأكبر، ويقال إنها بتلتهم الكميه كلها! وإحنا مش قادرين نفتح بقنا، رغم إن مفيش ديليسيبس ولا الخديوي سعيد، ومحدش عارف الاتفاق المبرم بين حكومتنا الوطنية والشركة الأجنبية، حاينتهي امتى!

ما علينا.. سيبك مما يحدث على أرض مصر، ونروح الخليج في دول البترول، مش شركات أجنبيه هي التي تقوم بالتنقيب واستخراج البترول والتحكم في سعره وبيعه؟ وطبعا هذا يعود بالخير على شعوب الخليج المأنتخة، والتي كان من الممكن أن تظل قابعة في خيامها، وتكتفي بنشاطها في رعي الغنم والمعيز وتسكن الخيام، قبل أن يكتشف الخواجات أن تلك الأراضي تسبح على أنهار من البترول!

محدش بيقول على الكلام ده استغلال ليه؟ ما هو لو إنت مش حاسس بالنعمة اللي ربنا إدهالك، يبقى تتنيل على عينك، وتترك من يقدر هذه النعمة، أن يعمل على استخراجها والاستفاده منها، وإنت حاتاخد ما تستحقه، وإنت نايم على بطنك!

تلك مقدمة حتمية للحديث في موضوع متكرر، نعيد ونزيد فيه بلا طائل، وكأنه حوار طرشان، ماذا قدمت السينما المصرية، أو حتى الدراما التليفزيونية، لواحد من أهم الأحداث التاريخية التي مرت على مصر؟ السينما العاليمة تقدم بين الحين والآخر أفلاما عن الثورة الفرنسية أو الحرب الأهلية الأمريكية، أو أحداث أكثر قدما وعمقا في تاريخ الإنسانية، وإحنا ولا هنا، لا عندنا أفلام عن تاريخنا الفرعوني، وبناء الأهرامات، ولا عندنا أفلام عن حفر قناة السويس، يا دوبك جاءت سيرة القناة على خلفية حكاية \”شفيقة ومتولي\” في الفيلم الجميل الذي أخرجه علي بدرخان وكتبه صلاح جاهين ولعبت بطولته سعاد حسني وأحمد زكي، وهو يعتمد على الرواية التي حفظناها في كتبنا المدرسية، على موضوع حفر القناة بالسخرة، وجمع الفلاحين بالقوة، ولم استوعب منطق المؤامرة، في هذا الموضوع، ولا طبيعة الشخصية التي يقدمها جميل راتب، فلم يكن أمر جمع العمالة المصرية سرا، حتى يخشى الرجل ومن معه الفضيحة، لدرجة أنهم يخططون لقتل شفيقة \”سعاد حسني\”!

أحيانا، يدخلك الفيلم في حالة تعاطف مع الأبطال، لدرجة تنسى معها المنطق، ما علينا من فيلم \”شفيقة ومتولي\”، فالحديث عنه قد يطول ويخرجنا من السياق، غير \”شفيقة ومتولي\”، مش حتلاقي فيلم فيه سيرة قناة السويس سوى \”ناصر 56\”، وهو فيلم آخر يحمل قدرا هائلا من اللعب على المشاعر، واستخدام الخيال المفرط، اللي بلعناه بسذاجة، لعشقنا لبطل الفيلم أحمد زكي.. \”ناصر 56\” من تأليف محفوظ عبد الرحمن، وإخراج محمد فاضل، ويقدم ما حدث في الفترة التي سبقت قرار تأميم القناة في عام 1956، حاول تفصل بين الحقائق التاريخيه وبين خيال المؤلف، الذي رسم حكاية ولا في الخيال يا عنيا، عبد الناصر\”أحمد زكي\” سهران في غرفة مكتبه في منزله، يفكر ويفكر، في قرار التأميم وتبعاته، ثم يرن التليفون الأسود بتاع زمان، ونسمع صوت سيدة مسنة \”أمينة رزق\” بتسأل عبد الموجود.. موجود؟! أي حد يعني، يقوم عبد الناصر يقولها: لأ يا حاجة أنا جمال عبد الناصر! طب ليه بالذمة، ما يقولها النمرة غلط وخلاص، تقوم الست ترد عليه وقد عرفت أنه الزعيم الملهم: ربنا معاك يا ابنى! ومش كده وبس، لأ، ده مخرج الفيلم شاف إن مفيش في مصر ممثلة مسنه غير أمينة رزق، لتقدم هذا المشهد الخيالي اللي الناس في صالة السينما صفقت له بشدة، رغم عدم منطقيته، أنا شخصيا متغاظة منه حتى الآن، قال إيه، سيدة عجوز، تطلب بإلحاح مقابلة عبد الناصر \”أحمد زكى\”، وعندما تقابله تخبره أنها جاءت له من الصعيد، وتحمل جلبابا ملطخا بالدماء، بتاع جدها اللي كان من عمال الحفر في قناة السويس، ومات أثناء ذلك، خد بالك إن الموضوع يعود إلى مية وخمسين سنة مضت، ولايزال الجلباب في جيبي، وتطالبه بوصفه صعيدي مثلها أن يأخذ بثأر جدها، من الأوغاد الذين تسببوا في مقتله، وهم طبعا الفرنسيين والإنجليز، يقوم إيه، عبد الناصر، يزداد إصرارا، على تنفيذ قرار تأميم القناة، وهات يا زغاريد!

وكانت كلمة السر \”ديليسيبس\” الراجل الغلبان اللي مالقاش حد يدافع عنه، فهو بالنسبه لنا، حسب ما لقنونا في كتب التاريخ بتاعة المدراس، راجل ابن كلب ، أيوه هو كده، بالعافية، لما نقولك إنه كان ابن كلب يبقى لازم تصدق، لأنه خواجة، ولأنه فرنساوي، طيب عمل إيه الراجل ده عشان تشتم أبوه، قالك لأنه فكر في مشروع شق قناة، تربط بين البحر الأبيض والبحر الأحمر! ويترتب على هذا وجود مواني جديدة مثل منطقة السويس، وبورسعيد، وبور توفيق، وبور فؤاد!

طيب إيه اللي يزعل في كده، قالك أصل الشركات الفرنسية والإنجليزية اللي صرفت على المشروع، حاتستفيد وتاخد حق امتياز إدارة القناة لمدة 99 سنة، يبقى الراجل ابن كلب ولا لأ؟ ما هو كان لازم يعمل المشروع وبلاده تصرف عليه، وإحنا ناخد المكاسب ع الجاهز وإحنا قاعدين بنهرش في مؤخراتنا!

أما فيلم السويس، الذي انتجته هوليوود في عام 1938 وقام ببطولته واحد من أهم نجوم سنوات الأربعينيات \”تايرون باور\” اللي كانت أمي  الله يرحمها مغرمه بيه جدا، ومعه لوريتا يونج، وانابيللا، فهو يقدم شخصية ديليسيبس بوصفه عاشق رومانسي، طموح، وقع في حب أوجيني دي فرانس، لكنها فضلت عليه نابليون، ففكر أن يبهرها بنجاحه، وعمل زي عبد الحليم حافظ في فيلم \”الوسادة الخالية\”، لما اقسم أن يجعل سميحة \”لبنى عبد العزيز\” تندم على عدم الزواج منه، عندما يحقق نجاحا ويصبح رجلا يشار له بالبنان.

عمل إيه ديليسيبس، تم تعيينه دبلوماسيا في مصر، وهناك فكر في تحقيق حلم عجز نابليون عن تحقيقه أيام حملته علي مصر، وهو شق قناه تربط بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، وتحمل ديليسيبس الكثير من المصاعب لإقناع بلاده بالصرف على تكاليف الحفر، وبالتالي اقنع الخديوي سعيد بأهمية القناة، دون أن يضطر لإغرائه بأي أطباق مكرونة، الرجل فقط شعر بأهمية المشروع، وأنه سوف يحقق لمصر خيرا كبيرا، وينقلها إلى العصر الحديث، وتحدى الباب العالي، حيث كانت مصر خاضعة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية، التي لم ترحب بالمشروع، وعندما حرنت حكومة فرنسا على الاستمرار في الصرف على مشروع القناة الذي استغرق عشر سنوات، اضطر ديليبسيبس للاتفاق مع رئيس وزراء بريطانيا للمشاركة في التكاليف على أساس أنها سوف تستفيد من القناة، لسهولة نقل بضائعها وتجارتها مع الهند، يعني الراجل داخ السبع دوخات لإكمال المشروع، اللي إحنا عايشين من خيره، وبنتطط على العالم على حسه، ولأن فيلم \”السويس\” ليس فيلما تاريخيا، فهو مثل \”شفيقه ومتولي\” و\”ناصر 56\”، يترك مساحه لخيال المؤلف، إشمعنا هو يعني، فقد افترض أن العمال الذي ماتوا أثناء الحفر، ماتوا نتيجة لعاصفة ضخمة جدا، اقتلعت أدوات الحفر وصهاريج المياه، والخيام، وأدت إلى موت الآلاف من الأجانب والمصريين والخيول ومئات الدواب، في مشهد من أهم ما قدمه الفيلم مع ملاحظة أن في تاريخ انتاجه، لم تكن السينما قد عرفت، خدع الجرافيك والمؤثرات البصرية والسمعية كما تعرفها الآن، وفي مشهد فخيم يتم افتاح القناة وقد أصبحت أوجيني حبيبة ديليسيبس السابقة، زوجة لنابليون وحاملة لقب إمبراطورة، تستقبل حبيبها السابق وتقدم له درعا يليق بإنجازه، ويقبل يدها وينزل بظهره على سلالم طويلة لأن البروتوكول يمنع أن يدير لها ظهره، وينزل كما بقيه خلق الله، المهم أن الفيلم فاخر بمقاييس سنوات إنتاجه، وهو يؤرخ لفترى شديدة الأهمية ولحدث فاصل في تاريخنا لم نفكر في تسجيله سينمائيا، وربما تجاهلنا سابقا الحديث عنه، لأنه يقدم صورة مختلفه وربما منصفة للرجل الذي نصر حتى الآن أنه كان ابن كلب وأفّاق!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top