رامي يحيى يكتب: تاريخ حرية الرأي والتعبير في دولة الإسلام

تنتمي الدولة الإسلامية إلى عصور غابرة، مثلها مثل الكثير من الدول البائدة، كالماغول والفايكنج وعصور أوروبا المظلمة، ولم تعد أفكارها أو آليتها صالحة للتطبيق اليوم، فمثلا مستوى حرية الرأي والتعبير المعمول به في الدولة الإسلامية يتجاوز أسوأ كوابيس العصر الحديث، ولا يقترب منه سوى الدول ذات الأغلبية المسلمة والمتمسكة بالوهم القائل إن الإسلام هو دين الدولة، وحتى لا يتهمني أحدهم بالتجني، فلنقرأ عن حرية الرأي والتعبير في كتب التاريخ الإسلامي المعتمدة عند كافة المؤسسات الإسلامية وعلى رأسها الأزهر، هذه الكتب التي يُصر الأزهر وكل مُنظري التطرف الديني على تقديسها وتقديس كُتَابِها، سنرى في الجزء الأول من هذا المقال كيف تقدم هذه الكتب صورة عن النبي، فيبدو كواحد من أسوأ سفاحي التاريخ!

أولا: حرية الرأي في عهد النبي:

في ذاك العصر، وفي تلك البقعة الخالية من أي حضارة كبيرة ذات موروث ثقافي يعتد به، لم يكن هناك وسيلة للتعبير عن الرأي سوى الشعِر، ولم يكن هناك شكل من أشكال الدولة حتى تظهر المعارضة السياسية، عليه فإن أغلب قضايا حرية الرأي كانت تخص الشِعر والشعراء.

سيكون أعتمادي هنا على واحد من أهم مراجع الجماعات المتشددة، ألا وهو كتاب \”الصارم المسلول على شاتم الرسول\” لأمير الظلام ابن تيمية، أحد الروايات التي يقدمها هذا الكتاب هي قصة عصماء بنت مروان، وهي في ذاك الوقت واحدة ضمن كثير من البشر لم يؤمنوا بالإسلام، ولأنها كانت تكتب الشِعر، استغلت موهبتها في التعبير عن رفضها للإسلام، وطبقا لأساليب الشِعر المتعارف عليها أنذاك، كتبت قصائد تهجو النبي، فماذا كان موقف النبي منها؟

حسب رواية الوقادي، التي أوردها ابن تيمية في كتابه، كما أتى بها ابن الجوزية في كتابه \”المنتظم في التاريخ\”، بعد عودة المسلمين منتصرين من بدر؛ خرج عُمَير بن زيد الخطمي في جنح الظلام وتسلل لبيت الشاعرة فوجدها نائمة وعلى صدرها صغيرها يرضع منها، فأزاحه الصحابي الجليل ودفع سيفه في صدرها حتى نفذ من ظهرها، ثم عاد ليصلي الفجر خلف النبي، وحين أخبر النبي بفعلته وسأله هل أخطأ؟ أجابه النبي: \”لا ينتطح فيها عنزان\”، ثم التفت القائد المؤسس لدولة الإسلام لمن حوله وقال: \”إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب.. فانظروا إلى عُمَير\”.

هل قصة بنت مروان هي الوحيد في عهد النبي؟ آسف لآن الإجابة هي: لا، هناك قصة أخرى وقت فتح مكة، الذي درسنا جميعا في المدارس أنه كان فتحا أبيض بلا نقطة دم واحدة، في الحقيقة، وطبقا لكل الروايات فإن هناك مجموعة من البشر أهدر النبي دمهم قبل دخول مكة، وأمر جيشه بقتلهم حتى ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، يختلف الرواة في عددهم وأسمائهم، لكن يتفق الجميع على وجود تلك القائمة.

يرد ذكر هؤلاء في كتاب ابن تيمية وفي تاريخ الطبري، وكان ضمنهم أحد أوائل المرتدين في الإسلام، عبد الله بن أبي السرح، الذي توسط له أخوه في الرضاعة عثمان بن عفان عند الرسول حتى نال العفو ودخل الإسلام مرة ثانية، ومن ضمنهم أيضا جاريتين لابن الأخطل، كانا يتغنيان بقصائده التي تهجو النبي، قتلت إأحداهن بالفعل، بينما حصلت الأخرى على عفو من النبي.

وطبقا لكتاب \”عيون الأثر\” لأبي الفتح اليعمري، فقد هجا عدد من الشعراء النبي.. فأمر بقتلهم، منهم أبو عفك، رجل مسن أعمى قال النبي لأصحابه \”من لي بهذا الرجل؟\”، فتطوع أحدهم وتسلل إلى فناء دار الرجل ليلا وقتله.

آخر حالة سأشير لها في من عصر النبي، هي الأبشع على الإطلاق، لإنها بمقاييس أي عصر، قد أعتمدت على الغدر والخيانة، فحسب ما جاء في فتح الباري وبالطبع في الصارم المسلول، عندما هجا اليهودي كعب بن الأشرف النبي، غضب النبي وقال: \”من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله؟\” فقتلوا كعب بن الأشرف.

يأتي ذكر العملية بالتفصيل في \”الرحيق المختوم\”، وكيف خرج عدد من الصحابة بينهم صديق مقرب من كعب الأشراف وأخ له في الرضاعة، فذهبوا لبيت الشاعر ليلا ونادوا عليه، فخرج مطمئنا لوجود صديقه وأخيه بالرضاعة، فتبادلوا السلام ودعوه للتنزه؛ فخرج الرجل معهم مطمأنا، ثم خدعه أخوه وأوهمه أنه يريد أن يشم رائحة شعره.. وأمسك برأسه، فانقضت بقية المجموعة عليه.. قتلوه وقطعوا رأسوا وعادوا بها للنبي.

ولنعرف ردود الأفعال على تلك الواقعة نعود للصارم المسلول فيقول: (عندما جاء اليهود إلى النبي يشكون قتل كعب قال لهم: \”إنه لَو قَرَّ كما قَرَّ غَيرُهُ ممَنْ هُوَ عَلى مِثْل رَأْيِه مَا اغْتِيَل، لَكنهُ نَال مِنَّا الأذى، وَهَجَانَا بالشِّعر، ولَم يَفْعَل هذَا أحدٌ منكُمْ إلاَّ كانَ السّيف\”).

وهذا الموروث التراثي المنسوب للنبي هو ما يبرر فرح الكثيرين أو على الأقل تبريرهم لمذبحة \”تشارلي إبدو\”، لذلك سأقدم مثالا مختلفا حول الخلاف في الرأي، وهنا الأمر سياسي تماما وبلا أي خلفيات دينية، لكنه من عصر دولة الخلافة.

ثانيا: حرية الرأي في عهد الخلفاء:

سنتحدث عن زعيم الخزرج وأول معارض سياسي في الإسلام سعد بن عبادة، يجمع الرواة أنه بعد وفاة النبي اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وكانوا يستعدون لتسمية بن عبادة خليفة للرسول، إلا أن أبو بكر وبن الخطاب سارعا للسقيفة، فكانت المفاوضات والمجادلات، والتي انتهت برفض خلافة بن عبادة أو أي شخص من الأنصار، أول من أحتضن الإسلام واقتسم -مع المهاجرين الفارين من عذاب قريش- البيت والمال، بل والزوجات، والإبقاء على الخلافة حِكرا على القريشيين، صحابة من أوائل المسلمين كانوا كأبي بكر الخليفة الأول أو حتى طلقاء حاربوا الإسلام لآخر فرصة ممكنة مثل معاوية الخليفة السادس.

إستنادا لابن سعد في \”الطبقات الكبرى\” حُسِمَ الصراع السياسي في السقيفة باختيار أبي بكر ومبايعته كخليفة، فبايعه كل أهل المدينة واعترض البعض لفترة، ثم بايعوا في النهاية، إلا سعد بن عبادة رفض المبايعة، فلم يبايع حتى مات الصديق، رغم ذلك كان ضمن جيش المدينة حين خاضت \”دولة الخلافة\” حروبها ضد الإنفصاليين من مانعي الزكاة والمتنبيين، والمعروفة إعلاميا بحروب الردة.

أوصى أبو بكر بالخلافة من بعده لصديقه وشريكه في نسب النبي، عمر بن الخطاب، فبايعه كل المسلمين وصار خليفة، إلا أن بن عبادة ظل على موقفه ولم يبايع، وفي أحد الأيام وداخل المدينة، قابل عمر بن الخطاب -المهاجر من مكة واستقر في المدينة، وهو في الطريق- سعد بن عبادة كبير الخزرج ومن أوائل وكبار الأنصار، وحين التقى الرجلان -وبحسب \”صاحب الطبقات\”- جاء ما يلي:

قال له عمر: إيه سعد، إيه سعد! فقال سعد: إيه عمر، فقال عُمر: أأنت صاحب ما أنت عليه؟ فقال سعد: نعم، أنا ذلك، وقد أفضى الله عليك هذا الأمر، وكان واليه صاحبك أحب إلينا منك وقد والله أصبحت كارها لجوارك، فقال عمر: إن من كره جارا جاوره تحول عنه، فقال سعد: أما إني غير مستسر بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير من جوارك.
فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج بن عبادة مهاجرا إلى الشام في أول خلافة عمر.

كان النفي مصير أول معارض عرفته \”دولة الخلافة\” وفي عهد أعدل أهل الأرض، الفاروق عمر، وفي الشام كتبت نهاية حياة بن عبادة.. حيث مات مقتولا، بسهم غادر في صدره، وذهب العديد من الرواة \”ابن جرير وابن الأثير ابن سيرين وغيرهم\” أن الجن المؤمن هو من قتل الرجل، لأنه كان يبول وهو واقف! كما أوردوا بيت من الشِعر قالوا إن الجن ردده بعد قتلهم له:        \”قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

ميناه بسهمٍ فلم يخطئ فؤاده\”.
إلا أن الذهبي وغيره من المحدثين ضعفوا هذه الرواية، لكن دون تقديم أي رواية بديلة، وذهبوا لتسجيل القضية ضد مجهول، أو كما انتشر السنوات السابقة أعازوها للطرف الثالث.

لا أعتقد أن هناك داع لسرد المزيد من الروايات عن قمع كل مختلف في تاريخ \”دولة الخلافة\”، فإذا ما سبق ينسبه التاريخ الإسلامي للنبي وللفاروق، فكيف هو الحال مع بني أمية مثلا أو أي قبيلة أو عائلة سيطرت على تلك الدولة، فمن تم نفيهم أو سجنهم أو قتلهم أو حرق مؤلفاتهم أو بعض ما سبق مُجتمِعا أو كله، إن من عانوا ذلك أسماؤهم تملأ تاريخ \”دولة الخلافة\”، وأغلبهم يتفاخر بهم المسلمون اليوم بوصفهم علماء وفلاسفة وأدباء قدمتهم الثقافة الإسلامية للبشرية، مثل ابن رشد، الفرابي، الكندي، الجاحظ، وغيرهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top