آدم يس مكيوي يكتب: المبدع والسلطان.. أدونيس نموذجا

يهرم الجسد ويشتعل الرأس شيبا ويوهن العظم، لكن يبقى العقل متقدا قادرا على المزاحمة وإثارة دوائر جديدة من الجدل وتصدر المشهد والوقوف وحيدا في مرمى السهام.. هذا هو ملخص حال الشاعر الكبير أدونيس الذي تماهى مع رمزيته الأثيرة الفينق، وبعث من رماده من جديد بحوار أجرته معه جريدة السفير منذ حوالي شهر، وصفه أغلب المتابعين بأنه حوار تمجيدي تبجيلي انتصارا لديكتاتور كلاسيكي عتيق هو بشار الأسد، وانهالت السهام بعده من كل حدب وصوب من الأصدقاء القدامى (وليد جنبلاط) أحيانا قبل الأعداء، تتهم الرجل تارة بالطائفية والباطنية وممارسة التقية السياسية لعقود، وتارة أخرى بممالأة نظام قمعي يرتكب المذابح، وأخيرا بالقدح في الإسلام ذاته رافعا شعار لا إمام غير العقل، رغم أن الرجل نفسه في أزمنة سابقة قد عاني من قمع لصالح بعض الأنظمة الخليجية، حينما تم طرده من ما يسمى بالاتحاد العام للكتاب العرب، والمؤكد أن المثقف ليس في مأمن تام وهو مرتميا في حضن السلاطين، لكن الظاهر والجلي لأي متابع أن غبار المعركة لن ينقشع بسهولة، فقد نجح الختيار في رمي عدة أحجار في مياه راكدة مخلفا وراءه اللعنات رغم أن ما أتى به الشاعر والمفكر ليس جديدا عليه، فقد قاله في حوارات ماضية، وذكره في رسالته لبشار في بدايات الأحداث، والتي أحبطت جميع أنصار الحريات و رافعي لواء التغيير والثورات، وظني أنه سيظل يقوله ما ظلت بين صدوره أنفاسا، فموقف الرجل واضح وإنحيازاته صريحة، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن تعقد الأمر في ميدان المعركة بالشام أورث كل الأطراف ضراوة وشراسة في النقد، وربما أيضا يمكن أن نضيف هذه المرة جرأة أدونيس في تناول ونقد الدين الإسلامي، جرأة غابت عنه طويلا، حين التزم الصمت طويلا ولعقود حيال أي نقد يوجه لديكتاتورية البعث وتوريث السلطة الفاضح، حتى ظن الناس أن الرجل اختار ألا يتعاطى مع الشأن السياسي، وأن يمارس دور المثقف العاجي المنعزل بامتياز، نائيا بنفسه عن الدخول في أي صراعات مذهبية وطائفية، مكتفيا بشعره الحداثي وتنظيره الذي وضعه في مكان الشاعر النخبوي صعب الهضم من جماهير القراء المعتادة على أن تلوك قصائد مدارس الشعر الكلاسيكية أو الرومانتيكية بشقيها العاطفي والسياسي، في مشهد أدبي انحسر فيه الشعر بشكل عام وأفسح المجال إما للرواية أو للقصائد العامية المرتبطة بالحدث الآني.
ظلت كتابات أدونيس للخاصة، صعب استدعائها في أي سياق طبيعي، وأدينت طويلا بالتعالي على الجماهير والإغراق في الغموض أو الاستعراض، وقد شبه البعض كتاباته بكتابات الأديب المصري الكبير إدوارد الخراط والتي إن ولج أحد عالمه فكأنه ولج قصر التيه Labyrinth.
كان أدونيس يأتي لمصر في أزمنة سابقة يحتفي به أيما احتفاء في الوسط الثقافي، حتى إن أحد الكتاب المولعين به -من فرط حماسته- في أحد الندوات قال إن شعر الرجل يعرفه ويردده كل طفل متعلم في قرى مصر! بينما الواقع مغاير تماما لجمهور القراء الواسع بأطيافه، الذين نادرا ما تجد أحدا منهم يقبل على أعمال الرجل.. ليس هذا انتقاصا من قدره، بقدر ما هو تراجع لبضاعته أو للجنس الأدبيgenre  بشكل عام حتى لو ارتدى ثوب الحداثة وتحرر من القوالب والبحور والأغلال الكلاسيكية، بل ولوى عنق البلاغة وكسرها كما قال بول فرلين، يظل الشعر غريبا ومحدود التأثير وسط الصخب اللاهث الدائر في مجتمعاتنا.
الثوار والتواقين للتغيير ينتظرون دوما من المثقف أو المبدع  أن يصوغ أحلامهم ومطالبهم وتطلعاتهم بقلمه أو بلسانه، لذلك بقدر الانتظار يكون النقد قاسيا، وهي أزمة المبدع دوما.. عندما قامت ثورة 1848 في فرنسا، وهي الثورة التي شهدت ما يطلق عليه يوفوريا الحرية، وعلق الكثيرون الآمال عليها، وقف وقتها العديد من المثقفين مع ممثل قوى الرجعية نابليون الثالث وعلى رأسهم فيكتور هوجو، خوفا من شيوع الفوضى، والمفارقة أن نابليون قد أسس حزبا أسماه \”النظام L\’ordre \” جمع فيه كل فلول الملكية والإمبراطورية واليمين الرجعي والبرجوازية الرافضة للإصلاحات اليسارية للجمهورية الثانية، أيد هوجو وحلم بمنصب سياسي، لكن بعد أن أستتب الأمر لنابليون وأعلن نفسه إمبراطورا، أطاح بالجميع ونفى هوجو الذي شد رحاله لأمريكا، ومن منفاه دبج عشرات القصائد يهاجم ويمطر لوي نابليون دو بونابرت باللعنات، وفي موقف مشابه إميل زولا محامي الأقليات والطبقات المعذبة، عندما قامت الكومونة في 1871 هاجمها بعنف وخاف من غياب الدولة وأيد قوات ثيري التي اقتحمت باريس وذبحت الثوار، ربما تعاطف معهم زولا فيما بعد، لكن وقتها خاف وارتعد من رياح التغيير والفوضى، بينما وقف شاعر صغير نزق مثل أرتور رامبو إلى جانب الثوار.
أحيانا يحار المرء حين يجد فنانا أو كاتبا مرهف الحس ينادي بالإنسانية والقيم النبيلة، يصطف بجوار ديكتاتور، لكنه الخوف التقليدي من شيوع ثقافة العوام. ربما يبحث المبدع عن جمهور له بين العوام، يغازلهم أحيانا لترويج بضاعته، يتحدث باسمهم في أحيان أخرى، لكنه يخاف أن يعكروا صفو هدوئه ويجتاحوا برجه العاجي بلغطهم وصراخهم ونقشهم على الحوائط.
خريطة الصراع السياسي مؤخرا في سوريا أجبرت الكثير منا على الجلوس في مقعد المحايد أو العقلاني أو البراجماتي، حيث أصبح الخيار بين ديكتاتور تقليدي قادم من زمن الجنرالات والقوميات العربية، وبين جماعات إسلامية متطرفة مسلحة تقضى على الأخضر واليابس، لكن انحياز أدونيس من بداية الصراع كان إلى جانب الأسد.. انحياز قد تجده طائفيا كما وصمه البعض ويحلو لهم أن يذكروا اسمه \”الشاعر العلوي على إسبر\”، وقد تجده انحياز مثقف نخبوي خائف من طغيان ثقافة الجماهير وذيوع الفوضى وتقوض البناء القديم، وقانع بما يطلق عليه حديثا الـ comfort zone  أو دائرة الأمان، ولا يريد أن يبارحها.
بإمكاني أن أعطي نقطة أو أفضلية credit لـ أدونيس هذه المرة في هذا الحوار الشائك والمفخخ -رغم اختلافي في الطرح- وهي تصريح الرجل برفضه الواضح للمقدس الديني، ليس إنطلاقا من أرضية طائفية كما يلّمح نقاده، لكن من أرضية الرأي الذي لا يجب أن يجابه إلا بالرأي بعيدا عن نفاق الجماهير التقليدي أو الفوبيا منها.. الرجل بصراحة عرض رأيه في الدين وهو ما يجب أن يرد عليه بالرأي المفند، لا بالصياح والزعيق والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ربما أجد الطرح شديد الإنعزالية، خصوصا في عبارة \”إن الديمقراطية لن تتحقق ما دام الدين هو مرجع القيم\”، وهذه العبارة تجسد مأزق العديد ممن يسمون أنفسهم بالعلمانيين أو التنويريين العرب، وهي أنهم يبحثون عن نموذج أتاتورك أو بورقيبة أو فريدرش الأكبر، نموذج لمستبد مستنير يفرض التنوير بالقوة ساحقا المعارضة، وهذا المأزق أنهم يراهنون بكل ما يملكونه على جواد السلطة التي بدورها لن تراهن عليهم، بل تراهن في أحيان كثيرة على النفاق والتزلف لجموع الجماهير المتحفظة التي تهوى سماع الأوراد والأذكار، وليس الشعر الحداثي أو كتب تفيكك النصوص، وإذا نظرنا للوجه الآخر للعملة، فما يشير إليه أدونيس يحمل أيضا إدانة لليسار العربي الذي يؤجل دوما وأبدا معركة نقد الخطاب الديني، ويجدها في وسط صليل صورام الثورة ترفا فكريا، فيخسر الأخضر واليابس.
وإذا استعرنا عنوان كتابه \”الثابت والمتحول\”، فالثابت لنا أن الرجل كان ينأى بنفسه عن الولوج في عالم السياسة بدافع الخوف، فقد انحلت عقدة لسانه وإن لم يفقه قوله في كل ما أتى به، وذلك بعد الموجة الجارفة للثورة التي زعزعت نظام البعث متوطد الأركان، والمتحول أننا لا يجب أن نقف موقفا جامدا تجاهه، لأنه يدعم ديكتاتورية ونتعامل مع بضاعته كأنها قطعة واحدة أو \”شروة\” واحدة كما يقال في مصر، بل يجب أن نجزئها على المنهج الديكارتي، فليس كل ما يباع فاسدا أو باطلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top