معتز حجاج يكتب: ميدو الذي اعتاد القهر

منذ أشهر مضت اعتدنا الجلوس على هذا المقهى، كل مساء نجتمع عليها، تدور بيننا النقاشات، وأكواب الشاي والقهوة، وما تيسر من النرجيلة. مقهى عادية، لا يوجد بها أي شيء مميز باستثناء أسعارها الزهيدة و\”ميدو\”.

شاب على أعتاب الثلاثين من عمره، حولت الشمس جلده بسمرة باهته، فارع الطول، نحيل الجسد، وسيم الطلة إلا من ندوب تناثرت على وجهه ويده اليسرى، لديه قدرة حاسب آلي في حفظ أسماء الزبائن وطلباتهم المعتادة، يقول دائما: \”حفظك لاسم الزبون وطلبه مفتاح قلبه وجيبه\”.
لم نهتم بسؤال: هل ميدو يرفع من مكانة مجموعتنا في المقهى عن مودة صادقة أم بحكم عمله؟ فقد سحرتنا مداعباته اللطيفة التي لا تتعدى اللياقة، وقدرته على مقارعة المزحة بعشرة أمثالها، وحكاياته المسلية، فقد أكسبه البحث عن لقمة العيش في مشارق الأرض ومغاربها طلاقة لسان وحكايات لا تنتهي.
قصص ميدو واعتياد الحزن
عندما فرغ ميدو من خدمته العسكرية، وضع كل ما يملك بين يدي جار له وعده بعمل في الخارج، بالفعل صدق الرجل وعده، وجد ميدو نفسه في السعودية أمام الكفيل، كما هو متبع سلمه جواز سفره، وانتظر العمل في شقة مزدحمة بمواطنين من مصر وإفريقيا والهند وشرق آسيا، مرت أيام عديدة بلا عمل، وجد ميدو نفسه ينفق من ماله الذي جلبه معه من مصر، حتى اكتشف عن طريق صديق يعمل في نفس البلد، أن الكفيل أسس شركة عمالة وهمية يسحب من خلالها قروض من البنوك.
\”ابن الكلب طلع نصاب وما سلمناش الباسبور غير لما سيبنا له كل حاجة ورجعنا بالهدوم اللي علينا\”، قالها وهوه يسوي حجر المعسل، ثم انتقل بعد ذلك انتقالا يسيرا، إلى عذاب العمل في مصر، وحكايات عن القهر والمرارة.
بعد عودتي حدثني صديق عن وظيفة في فندق بشرم الشيخ، انتهيت من تصاريح العمل، وذهبت هرولة إلى هناك، راتب جيد، وبقشيش يغنيني عن العمل في دول الخليج، \”لكن الحلو دايما ما يكملش\”، قال جملته المشوقة فاعتدلنا في جلستنا، وأرهفنا السمع منتظرين العقدة الدرامية.

\”كل ما تحصل مشكلة في الفندق، ولا عمل إرهابي، يلمونا كلنا ويرمونا في القسم باليومين والتلاتة، ضرب وإهانة وقلة قيمة، لقيت نفسي هتبهدل، رجعت على بلدي، وبالفلوس اللي لميتها شاركت اتنين قرايبي في القهوة دي، والحمد لله مكسبها كويس، وكفاية إنها عرفتنا بالناس الحلوة اللي زيكم\”.

لم نحفل كثيرا بجملته الأخيرة، فكل الناس لدى ميدو حلوة إلى أن يشككوا في حسابهم. في الوقت الذي قام فيه ليعد طلبات الزبائن، شرد كلٌ منا في كيفية تحمل هذا الجسم العليل لكل هذه المتاعب، وتقبلها بالسخرية، دون أن يشكو أو يتألم من نوازل الدهر، حتى إنه يقص علينا مصائبه بكل إعتيادية.
مصر لاتزال تخبيء لميدو مزيدا من المهانة
في وقت متأخر من ليل إحدى الأيام، استقليت مع صديق من مجموعة المقهى حافلة، قاصدين منازلنا. في مقدمة الحافلة وجدناه بملابس عمله، استلقى على الكرسي متعبا من جراء يوم شاق، شعر بوجودنا فأصر على دفع الأجرة رغم إصرارنا نحن أيضا.

لم يمض وقت كبير حتى استوقفنا كمين شرطة، أنزلونا جميعا، حينها بد الفرز الطبقي.

مهذبو الهندام في صف يقوم أمين الشرطة بتفتيشهم باحترام، والآخرون في صف الدرجة الثانية، يكيل لهم الأمناء عددا لا يحصى من اللكمات والصفعات.
اعترضت على وضع يد الأمين داخل جيبي، وقمت بإخراج متعلقاتي منها بنفسي، مع مخزون معرفتي بالقوانين، أطلق سراحنا بعد التفتيش مباشرة، لكن صف ميدو تم اقتياده إلى عربة الشرطة، حتى من لم يجدوا معهم شيئا يعاقب عليه القانون! نظر نحوي وصديقي مستنجدا، فحاولت إخبار الضابط المسؤول بأننا نعرفه جيدا، ولا يوجد قانون يسمح بمعاملة مواطن هكذا ولو كان مجرما، فأخبرنا بأن هذا إجراء روتيني، فالإرهاب يعصف بأوطاننا، وطلب منا أن نتبعه إلى قسم الشرطة.
العدالة الناجزة تطحن ميدو وأقرانه
داخل قسم الشرطة وجدنا الكثير من ميدو، في قفص حديدي بجوار غرفة النوباتجي جلسوا جميعا، أجساد هزمتها الأنيميا، وعيون زائغة، رغم ذلك لا تفارق الابتسامات والنكات فاههم.. تعرفنا سريعا عليه وسط هذه الجموع المتشابهة في البؤس، وبعد تجاذبات وحوارات عديدة، ورشاوي كثيرة، واتصالات أكثر، استطعنا إخراجه من القسم قبيل الفجر، خرج كعادته مضحاكا، حامدا الله لأنه أوقف له ولاد الحلال، لم نلحظ عليه أي شعور بالضيق، تجاوز الموقف في ثوان، وكأن شيئا لم يكن.

في مساء ذلك اليوم وجدناه كعادته في المقهى، لم يقل نشاطه عن اليوم السابق، لم يفت من عزيمته تلك الليلة التي قضاها في الحجز، بل ازداد نشاطا ومرحا عن ذي قبل.. جاء لمجالستنا مجددا، وألقى نكاته وحكاياته في صحبتنا، ثم انتقل لأخرى، يضحك مع هذا، ويحاسب ذاك، دونما توقف.. راقبته من بعيد منبهرا بهذه القدرة على إحتمال القهر، على اعتياده، على الحياة معه جنبا إلى جنب.. وتساءلت: ترى هل نسي الصفعة حقا؟ كيف؟ ومتى؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top