Des hommes et des dieux.
2010
(Of Gods and Men)
Xavier Beauvois
\”رجال وآلهة\” فيلم للمخرج الفرنسي، المقل في أعماله ذات النكهة والهويّة المتميّزة، كزافييه بوفييه.. فاز الفيلم بالجائزة الكبرى لمهرجان كان عام 2010.
كنت قد شاهدته من أعوام في باريس، إلا أن الأجواء التي نعيشها الآن في مصر، وبلاد جارة عديدة، استدعته بشدة على أبواب ذاكرتي، لأعيد مشاهدته، خصوصا أننى في هذه الأثناء قد قرأت بعضا من يوميات أحد ابطال القصة التي ساهمت في تغير إحساسي بموضوع الفيلم إلى اتجاه لم يدر ببالي قبلا.
يحكى الفيلم –اإلى حد كبير – قصة حقيقية لثمانية رهبان يعيشون في دير منزو قرب قرية صغيرة على جبال الأطلس في الجزائر في الفترة بين 1993 و1996، حيث قتلوا جميعا عدا اثنين، أحدهما من قرأت خواطره مؤخرا.. تردد أنهم قتلوا على أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة بالجزائر وقتها، وقيل إنهم قتلوا خطأ – أو غير خطأ – على أيدي قوات الجيش الجزائري آنذاك، لذا أخذ الفيلم مرارا على أنه رسالة ضد التطرف والعنف وما إلى آخره من الأحاديث المثارة على أنها مقربة للشعوب والثقافات، بل وأحيانا الديانات، مع كل ما صحبها من نقد سينمائي وغير سينمائي، أمعن في رسم الصورة النمطية للمسلم الإرهابي في الغرب مع تسطيح ما لا يمكن تسطيحه باستفاضة وثقة غير مبررة.
بدأ فضولي من اسم الفيلم: فقد ترجم بالعربية إلى \”رجال وآلهة\”، بينما تغير تركيب الجملة في الإنجليزية \”Of Gods and Men”و معناها \”عن الآلهة والبشر\” وقد فضلت الترجمة الإنجليزية لأسباب سأشرحها لاحقا.
دارت حيرتي اللاحقة حول استخدام كلمة \”الآلهة\” بصيغة الجمع، في حين أن الأديان المتناولة في الفيلم هي أديان موحدة سواء المسيحية أو الإسلام.. دعوني ابدأ بحكي الفيلم – على طريقتي – أولا.
صور الفيلم في دير كاثوليكي مهجور منذ أربعين عاما يقع قرب قرية صغيرة بين فاس ومكناس في المغرب، وقد استعان المخرج -إضافة إلى فريق الممثلين المنتقى بمنتهى الدقة والعناية – بأهل القرية التي صوّر بها الفيلم، للقيام بأدوار الرهبان متفاوتي السن والخبرة والشخصية، فيما عدا القليل من الشخصيات. الدير بسيط متقشف لكن يوحى بالسكينة. الرهبان، وعددهم ثمانية، مندمجون تماما في الحياة اليومية للقرية الجارة سواء في زراعة الأرض وحرثها والعمل في المنحل أو توفير الخدمة الطبية وأحيانا الاستشارات العاطفية وكتابة المراسلات الرسمية لمن يحتاجها من الأهالي. بعيدا عن الصلوات يصعب تمييز الرهبان عن الأهالي من حيث الملبس، فجميعهم يحتمون من البرد بنفس الطواقي الصوفية ونفس الصدريات المنسوجة من صوف الخراف غير المصبوغ.
القرية مبانيها تتسلق الجبل المحيط بالدي، مبنيّة بالطوب الأحمر غير المغطى. للوهلة الأولى قد تظن انها مباني الدويقة في القاهرة بخرساناتها المشرشرة وغسيلها الملون وعيالها المنطلقين في الأزقة.
إيقاع الفيلم بطيء لكن ثاقب، تحدده صلوات وترانيم وطقوس داخل وخارج الدير، كطهور الأطفال والتحضير للسوق والتجمع حول صينية الشاي بالنعناع الجبلي. كل مقطوعة في الفيلم لها عازفوها من الأهالي وأكثرهم من النساء والأطفال المتواجدين في الدير سواء للعلاج أو قضاء احتياجات يومية عادية فيما عدا المقاطع التي يظهر فيها الجيش أو أفراد الجماعات، وهي كلها من الرجال بينما النساء إن ظهرن فمختبئات خائفات: فهن الهدف الأول حين يأتي الموت.. بدأ التوتر عند ذبح مجموعة من البنائين الكروات على الطريق المؤدي إلى القرية على يد أفراد الجماعات الإسلامية. تهلع الجهات الحكومية وتسعى إلى ابعاد كل أجنبي لتفادى الأزمات الديبلوماسية مع عدم التغاضي عن اتهام المستعمر الفرنسي في خلق الأزمة الحالية من فقر واستنزاف للموارد، مما تسبب في قيام هذه الجماعات الإسلامية الخارجة عن السيطرة.
تتوالى المفاوضات بين الرهبان لاتخاذ قرار البقاء أو الفرار: البعض يريد الحياة والنجاة برجوعه إلى بلاده، والآخر يريدها أيضا لكن في بقائه مع أهل القرية التي لا يعرف له أهل سواهم. تتأزم الأمور ويعرض الجيش حماية القرية والدير، فيدب الرعب في نفس الجميع. عندها يقرر الرهبان البقاء أيا كانت الظروف.. يطرق باب الدير عشية التحضير لعيد الميلاد أحد أفراد الجماعات طالبا إنقاذ زميل له، فيتم الاتفاق على نقله للدير ويحكم نهاية هذا المشهد مصافحة قوية بين كبير الرهبان واعتذار المقاتل بأدب جم عن الازعاج أثناء الاحتفال.
يصل الجيش القرية في طائرات هليكوبتر تنقض على الدير في لقطة بعين الطائر أثناء صلاة الفجر، حيث يسمع من بعيد الآذان مع الترانيم الجريجورية في غبش الصباح.. تتصارع الأصوات في تحفز صوتي ومرئي.
تدنو الطائرة وتعلو الترانيم، تمعن في الاقتراب من الدير والرهبان يمسكون ببعضهم البعض وترتفع الأصوات.. يتلاصق الرهبان مكونين فيما بينهم حائط أبيض لا قوة له إلا صلاته التي تتخلى عن وداعتها دفاعا عن كيانها وحياتها في القرية.
يدرك الرهبان مصيرهم بعد هذه المواجهة، فيعدّون عشاءهم الأخير عشية عيد الميلاد.. تعد السفرة في احتفاليه وتفتح زجاجات النبيذ المميّزة ويطلق الطبيب لوك مقطعا من باليه بحيرة البجع، أعتقد انه مشهد مواجهة البجعة البيضاء للبجعة السوداء -إن لم تخنى ذاكرتي، وكثيرا ما تخونني- تحتل الموسيقى المتصاعدة المشهد تماما، وهو المشهد الوحيد في الفيلم ذو الخلفية الموسيقية، بينما تدور كاميرا المصوّرة بلقطات قريبة لأوجه الرهبان مسجّله أدق تموجّات إحساسهم من الرضا بقرارهم إلى طفرات دموعهم واختلاج شفاههم.. المشهد مكثّف المشاعر لدرجة أنه لا يعنينا آخرا كيف ماتوا ولا من قتلهم، فالمهم ليس القاتل، لكن من يُقتل في هذه الحرب.
منذ اقتراب الجيش، يسري سؤال بين أهل القرية ورهبان الدير \”من يقتل من؟\”، فلا الحواجز على الطريق معروفة الهوية ولا انتقام ضابط الجيش الذي يمثل بجثث أفراد الجماعات مبرّر ولا تقزّزه من صلاة الراهب على أحد القتلى مقبول ولا احتماء أهل القرية واختبائهم مما لا يعرفون مفهوم. في اللحظة التي تكثّف فيها التوّجس والرعب مما نجهله جميعا سواء في الفيلم أو على مقاعدنا، رأيت فجأة \”الآلهة\”: تلك اللحظة التي يقرر فيها البشر قلب الأدوار، ويصبحون آلهة يثيبون ويعاقبون، يمنحون ويمنعون ويفرضون دياناتهم وعوالمهم.. دياناتهم التي نفحتهم الألوهية، والتي نفسها تحيل الإله بشرا ضعيفا يكره ويقسو وينتقم.. تجعل من كائن خسيس الروح مقيتا. تلك اللحظة التي يؤلّه كل منّا نفسه ويجرّد إلهه من ألوهيّته، يسخطه بشرا وضيعا كما عاش.. آلهة تدافع عن دين وضعته لمجدها وسطوتها، وتقدمنا جميعا قرابين له.
فليتقاتل الآلهة على سلطات تاقوا إليها وديانات تستّروا بها، أما البشر، فعليهم السلام إن تركوا أنفسهم سلاحا للآلهة.