كانت جلسة فريدة لا تتكرر معي كثيرا.. كنت جالسا وسط ثلاثة من ضباط الشرطة نتحدث في بعض مما يحدث تلك الأيام، لم يكن هذا هو الفريد في تلك الجلسة، لكنه كان موضوع الحوار نفسة، فقد طُرح على الطاولة موضوع التعذيب في أقسام الشرطة، فبدأ أحدهم يحكي أحد مواقفه، حينما كان يعمل بوحدة المباحث في أحد المدن القريبة من القاهرة.
قال لي إنه وجد أحد المسجلين الذين يعرفهم جيدا ذات يوم أمامه وهو ذاهب إلى العمل، فقرر أخذه قليلا إلى غرفة المباحث بالدور الثاني في القسم، خاصة أنه يعتقد أن هو من قام بعدة سرقات تم التبليغ عنها مؤخرا.
فسألته: هل اخذته لتعذبه؟
قال لي: لا.. لم نبدأ على الفور، تركناه أولا أربعة ايام حتى يفيق من المخدر. تعجبت وسألته: لا يوجد مخدر يظل تأثيره أربعة أيام!
نظر الضباط إلى بعضهم البعض مبتسمين في سخرية من فرط جهلي، ثم قال لي: إن المسجلين أمثاله، يضعون كبسولات مليئة بالمخدر في مؤخراتهم، كلما احتاجها، انزل واحدة منها، وأخذها لكي يظل مخدرا، فلا يشعر بالضرب -إن تم ضربه في القسم- وكان لابد أن ينتظر حتى ينتهي ما يخبأه من مخدر.
ولما ابديت اشمئزازا، قال أحدهم مشيرا إليّ: \”مايعرفوش هم الكلام ده يا عم، وبيتكلموا على الفاضي.. فاكرينا بنتعامل مع بني آدمين\”!
ابتسمت ووجهت نظري إلى الشرطي الآخر وسألته: وبعد الأربعة أيام.. ماذا حدث؟
قال لي: كنت اشك في أنه ارتكب بعض الجرائم، فهو \”هجام\”، والهجام هو أسوأ أنواع المجرمين، فهو يدخل الشقة المستهدفة، وإن وجد فيها أحدا، ربما يقتله، وإن وجد فيها امرأة، أحيانا يغتصبها قبل أن يقتلها أيضا.
لذلك ضغطت عليه كثيرا، لاخرج منه باعتراف ما.
قلت له وقد استشعرت أملا في أنه قد استخدم –أخيرا- أساليب استجواب غير التعذيب: كيف ضغطت عليه؟
قال لي ببساطة وكأنه يحكي على شيء عادي: ضربناه كثيرا جدا، وعلقناه، ثم كهربناه.
قلت وقد خاب أملي: وهل اعترف؟
رد عليّ قائلا: كان عنيدا ويحاول أن يعترف بجرائم بسيطة، ليهرب من أي جريمة كبيرة ارتكبها، لكنني كنت جاهزا لكل ذلك.
ظهر على وجهي التساؤل، فقال لي وقد اعتراه الفخر: عائلة ذلك المسجل كلها بلطجية، حتى أمه نفسها، ماعدا أخت له، هي الوحيدة المحترمة في تلك العائلة، وكانت هي الوحيدة التي تعطف على أخيها من وراء زوجها، لذلك انتهزت فرصه غياب زوجها وأرسلت، واحضرتها إلى القسم، ووضعتها أمام أخيها، وبدأت اضغط عليه نفسيا!
تراجعت قليلا غير مصدق وخائف مما سيعترف أنه – ربما فعله- فقال وقد أحس بما اشعر به: طبعا لم افعل بها شيئا، لكنني جعلته يعتقد أنني سأفعل، لذلك بدأت في الحديث أمامه عن رغبتنا في التسلية قليلا طالما هناك أنثى معنا الآن، وجلست اتكلم مع المخبرين حول الملابس التي سنلبسها لاخته كي تثيرنا بها قبل أن نضاجعها أمامه!
وهنا بدأ هذا الشخص ينهار، وبدأ في الاعتراف لدرجة أنه احضر إلى القسم عربة كامله مليئة بمسروقات 9 شقق سرقها مؤخرا!
هنا تراجعت ولم اعرف كيف ارد على ما قاله، سرحت قليلا في الجزء الذي لم يذكره، وهو كيف كانت تشعر أو تفعل اخته في تلك اللحظة، حينما كانوا يتكلمون عليها، وهي التي أشار إليها بأنها \”المحترمة الوحيدة اللي في العيلة\”!
لكنني توقفت أمام جزء محير حقا.. إنه اعترف فعلا بسرقة الكثير من الشقق، وأن الشرطة بعدها ارجعت المسروقات إلى أصحابها!
بحثت قليلا في أساليب الاستجواب، فوقعت على دراسة بقلم عالم في الطب النفسي اسمه دكتور جون جروهول يتكلم عن شيء مثير حقا، فقد ذكر أن 20-25% ممن يعترفون بارتكاب الجريمة أثناء التحقيق معهم أبرياء لم يرتكبوا حقا تلك الجريمة!
لكن بسبب الأساليب النفسية القاسية التي يتبعها المحققون، يعتقد بعضهم أنه ارتكب تلك الجريمة حقا، فيعترف أو ينهار نفسيا، ويتجه إلى الاعتراف طلبا لأن ينتهي الضغط عليه فقط .
حسنا.. قد ذكر الدكتور جون جروهول بعض تلك الأساليب، فوجد كلها أساليب مثل أن يكذب عليه المحققون مثلا، ويقولون له إن لدينا شاهد عيان شاهدك في مسرح الجريمة، وإن اعترف، سيعتبرونه اعترف من تلقاء نفسه ليخفف عنه الحكم.
وعدة طرق نفسية أخرى، المهم أنه لا يوجد من ضمن تلك الأساليب ما سمعته من صديقنا الشرطي إطلاقا.
وإذا كان باستخدام تلك الأساليب 25% ممن يعترفون بارتكاب الجريمة، أبرياء، فكم نسبة الأبرياء ممن يعترفون بارتكابهم للجرائم في أقسام الشرطة لدينا؟!
صديقنا الشرطي هذا يعتبر نفسه من الشرفاء أيضا، وهو فعلا لا يتعمد ظلم أحدهم، أو تلفيق قضية لأحد -على حسب ما اعرف عنه- ومع ذلك كان فخورا بنفسه بشدة، وهو يحكي لي ما حدث، وكان يشعر أنه تفوق على شيرلوك هولمز في حل تلك الجريمة.
هنا كان عقلي يعمل في اتجاه آخر تماما، فقد كنت اتساءل: هل هو يعرف مدى بشاعه ما فعله؟ هل يعتبر ذلك عملا يستحق عليه الثناء؟
هل جرب أحدهم أن يتعلم أساليب التحقيق الحديثة، التي لمن لا يعلم تناسب أسوأ أنواع النفوس البشرية، حتى لا يقول أحدهم إن البلطجية عندنا لا ينفع معهم هذا!
هل أصلا يدرسونها في كلية الشرطة؟
تذكرت كلمة أحدهم ذات يوم وهو يقول: تلات أربع أيام، أخليه يعترف، أحسن ما اقعد احقق معاه شهر.. إحنا مش فاضيين للكلام ده.