فادي رمزي يكتب: خدلك صورة في ستوديو أنديرا؟

 

 

كان يا مكان، في دولة الهند البعيدة، جلس شباب إدارة التسويق في فرع شركة إتش بي العالمية، يحاولون إيجاد أفكار خارج الصندوق لزيادة مبيعاتهم في تلك الفترة.

تناقشوا لساعات طويلة، وطلبوا دليفري من ماك نيودلهى، حبسوا بشاي هندي وحلوا بمنجه هندي ومفيش فايدة، كل الأفكار تقليدية.. لحد ما فجأة واحد منهم بص على خريطة الهند، ذات المليار نسمة، وقال لهم: هو إحنا ليه مركزين التسويق على المدن الكبيرة فقط في الهند؟ تعدادهم بالكتير 200 مليون نسمة.. هل الـ 800 مليون الباقيين مش محتاجين كاميرا؟ طابعة ليزر أو األوان.. ماوس حتى؟

كان يقولها بنبرة حسرة على الفقر المنتشر في القرى الهندية والمدن الصغيرة، ومدى بعدها عن التطور الحضاري والتكنولوجي الذي يتمتع به سكان المدن الكبيرة.. وافقه على حسرته زملاؤه في بادىء الأمر، ثم صمتوا فجأة في وقفة درامية إنسانية، اأضيئت خلالها لمبات التفكير في عقولهم الواعدة، ثم صاحوا جميعا في نفس واحد: \”وجدتها\”.

بدأت الأفكار تنهال تباعا، يكتبون ويشطبون ويعيدون كتابة الأفكار مرة أخرى.. وصلوا للتصور المطلوب، وعرضوه على قسم الأبحاث والتطوير في الشركة، وبدأ العمل لتنفيذ الفكرة التي تبدو مجنونة من الوهلة الأولى. وفي صباح اليوم التالي ذهب كل شاب منهم إلى قرية من القرى المختارة لبدء التجربة، وتواصل هناك مع مؤسسة مجتمع مدني عاملة في تلك المنطقة ولها تواصل مع سكانها.. عرض عليهم الفكرة بأبعادها الاقتصادية والتنموية، نعم فالفكرة تقدم خدمة للمجتمع وفي نفس الوقت فائدة للشركة.

الجمعيات والمؤسسات الأهلية رحبت بالفكرة وبالمشاركة في تنفيذها، واضافوا لها ابعادا أكثر عمقا وفهما لطبيعة المجتمع الذي يتعاملون معه، مما جعل شباب التسويق ينبهر بكرة الثلج المبدعة التي بدأت تكبر تدرجيا وأصبحت شبه جاهزة لسحق الفقر والجهل بالتكنولوجيا الحديثة، عند العينة المختارة من سيدات القرى المختلفة.

نعم.. لقد تقرر أن السيدات هن الأصلح لتفعيل تلك الفكرة الواعدة، فهن قاطرات التنمية في اأي مجتمع ولديهن القدرة على تقبل أي فكرة، والعزيمة الكافية للمواصلة.. تلك كانت \”التتش\” المهمة والمحورية التي أضافها التواصل الفعال مع المجتمع المدني بمؤسساته الأهلية.

وفي اليوم المتفق عليه، قدم قسم الأبحاث والتطوير أولى الوحدات الانتاجية التي تتطلبها الفكرة، وهي وحدة بها كاميرا تصوير ديجيتال وطابعة صور ألوان وماكينة قص للورق وكل هذه الأشياء تعمل بالطاقة الشمسية، طبقا لتوصيات فريق التسويق بعد جلسات النقاش على أرض الواقع معدوم الكهربا هناك، وحتى تقل تكلفة التشغيل إلى أقصى درجة.

بسرعة تولت الجمعيات الأهلية ومدربين شركة إتش بي عملية تنظيم ورش العمل للسيدات اللاتي تم اقناعهن بالفكرة، وهي تتلخص في أن كل منهن ستصبح صاحبة ستوديو تصوير متنقل، تقوم من خلاله بتصوير كل راغب في صور شخصية لاستخراج رخصة، بطاقة أو لأي معاملات رسمية، فقبل ذلك كان يضطر أهل القرية إلى النزول \”للبندر\” لمجرد التصوير في إحدى الاستوديهات هناك، وبالطبع يتكبد الكثير من المال والعناء ويضيع وقته لمجرد استخراج صورة شخصية.

تعهدت شركة إتش بي بتقديم الوحدات كاملة بمستلزماتها من ورق وحبر الطباعة، مقابل نسبة 50% من الدخل، وساعدوا السيدات في تسعير الخدمة بصورة تتناسب مع أهالي كل قرية، وبدأت المتابعة من خلال معايير علمية دقيقة بواسطة الجمعيات والمؤسسات الأهلية، الأقرب للسيدات هناك، وذلك مقابل مبلغ معين خصصته لها شركة إتش بي، مما ساهم في دعم تلك الهيئات الأهلية بطريقة فعالة مكنتها من المساهمة في التمويل اللازم لباقي أنشطتها.

بدأت التجربة وحققت نجاحا كبيرا، فالأهالي وجدوا من يقضي لهم المصلحة بسرعة بدون تكبد عناء السفر، أيضا تواصل المجتمع المدني وشركة إتش بي مع الإدارات الحكومية القريبة من كل منطقة، لاعتماد تلك الخدمة عندها، بأن تخصص مكانا بداخل تلك الإدارات خلال ساعات العمل الرسمية، تمارس من خلاله السيدات بوحداتهن المتنقلة عملهن في خدمة المواطنين القادمين لانجاز مصالحهم، ورحبت الإدارات الحكومية على الفور، وساهم هذا في زيادة دخل السيدات لدرجة وصلت إلى أضعاف دخل أسرهن قبل تفعيل تلك الفكرة.

والمفاجاة كانت أن نصف الصور فقط كان لانجاز الإجراءات الحكومية، بينما النصف الآخر صورا التقطت في مناسبات مختلفة.. ميلاد طفل، زواج ابنة، حصاد حقل، شراء بقرة.. وهكذا، فثقافة الاحتفاظ بذكرى المناسبات الخاصة في أرشيف مصور صار ثقافة عامة، مما ساهم في توثيق المظاهر والأنشطة الاجتماعية، في تلك المناطق الفقيرة النائية عن المدنية.

خلال شهور قليلة زاد دخل السيدات ودخل شركة إتش بي، وتوسع نشاط المؤسسات الأهلية وتوافرت بسهولة خدمة يحتاجها المجتمع، بالإضافة إلى نشر روح ايجابية عالية في كل قرية، بعد أن وجدت أنها ليست أقل من البندر في كل شىء وأي شىء، فلديهم أيضا ستوديو أنديرا أو سونام، لتصوير العائلات بأحدث التكنولوجيا كمان.

وانعكس كل هذا النجاح في كلمات مورين كونواي، مديرة إدارة الحلول التسويقية في الأسواق الناشئة في شركة إتش بي ومديرة المشروع في الهند، حين قالت منبهره: \”كانت المعلومات تنهال علينا بخصوص آداء الكاميرا والطابعة، والأهم حول الثقة المتزايدة لدى السيدات بأنفسهن وبما يحققن في مجتمعاتهن\”.

وبعد أربعة شهور قالت شركة إتش بي للسيدات: \”برافو عليكم، ها.. ناخد بقى الوحدات المتنقلة بتاعتنا.. ولا لسه عايزينها؟\”.. طبعا السيدات بصرخة واحده قالوا: \”نععععم يا اميتاااااب (عمر الهندي) وحدة مين يا أم وحدة اللي هتاخدوها.. ده إحنا ما صدقنا\”.

وبالفعل تم الإتفاق على تأجير الوحدة بـ 9 دولات شهريا، وأيضا الاتفاق على توريد الأوراق والأحبار بأسعار خاصة، واكتفت شركة إتش بي بأداء دورها الأساسي كمورد لمستلزمات طباعة، وواصلت المؤسسات الأهلية عملها في تدريب سيدات أخريات في قرى مختلفة، مع متابعة المشاريع الوليدة الناشئة وتقديم الدعم -عند اللازم- لها.

بعدها وقعت شركة إتش بي عقدا مع الحكومة الهندية لتعميم الفكرة في أقاليم الهند كلها، وأيضا تم الاتفاق بين الحكومة والمجتمع المدني على محاسبة السيدات ضرائبيا بشريحة متدنية، خصصت لمجرد تسجيل العائد الكلي ضمن الاقتصاد الرسمي كأحد الإضافات على الدخل القومي.

عملية نضيفة 100% نموذج لتكامل الحكومة مع القطاع الخاص مع المجتمع المدني وتعاونهم سويا، كل في مجاله، للنهوض بالدولة.. لو قرأتم حضراتكم القصة مرة أخرى لاغين دور أي من الثلاثة، لما انتهت إلى ما انتهت إليه أبدا.. وهذا هو المغزى من قصة \”ستوديو أنديرا\”.. الكائن في بلاد الهند، اللي كانت أحوالها قريبة من أحوالنا منذ سنوات قليلة، والآن طارت بحالها ومحتالها بعيدا.. بعيدا.. بعيدا جدا عنا.

المصدر: كتاب The World is Flat.. لتوماس فريدمان

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top