مضحك الملك أو نديم السلطان، هي وظيفة تطوعية موجودة منذ بداية تأسيس الدول والممالك، يعرض فيها المبدع أو الفنان نفسه مادحاً مسلياً لأولي الأمر كي يضمن لنفسه الأمان تحت جناحهم.. حضرة الملوك القدامى كانت تضم دوما الشعراء والفنانين والمداحين والمهرجين.. نشأت العديد من الفنون في كنف الملوك العواهل وذات يوم كان أحد الولاة منزعجا من غياب الخمر عن مجلسه بسبب رمضان فأنشده أحد الظرفاء: أيامك عيد وصيام العيد حرام.. ومجالس لهوك جنة وفيها الخمر حلال.
ويحكي أحمد شوقي عن شاعر كان في حضرة أحد السلاطين على مائدة الطعام.. أتوا له بالأطايب ولى رأسها الباذنجان، فوقف ينشد في مديح طعمه حتى وجد السلطان يتأفف ويطلب رفعه من المائدة:
فالتفت السلطان فيمن حوله.. وقال كيف تجدون قوله
قال النديم يا مليك الناس.. عذرا فما في فعلتي من باس
جُعلت كي أنادم السلطانا.. ولم أنادم قط باذنجانا
الملك لويس الرابع عشر ومن تلاه من ملوك كانوا ينفقوا ببذخ على الفرق المسرحية و يتحدث المؤرخ ميشيليه أن الملك الشمس كان يتعرف عن أحوال العامة وحياتهم من خلال كوميديا موليير التي تنقل له ما يدور في الأوساط الشعبية والأسواق والبرجوازية الفرنسية وطبقة رجال الدين والفلاحين والتجار والمرابيين… الخ فقد كان أبطال موليير من البسطاء والطبقة الوسطى.
هناك دوما في معية الملك: وعاظ, ناصحون, مستشارون، منافقون أو \”بلاطيون\”.. هؤلاء البلاطيون يبيعون بضاعتهم تقربا أو تزلفا من رأس الهرم رغبة في الولوج لدائرة الأمان.. هم ناقلو أخبار أحيانا أو قد يكونوا ناصحين مفيدين بعيدا عن دائرة المستشارين الرسمية.
المشهد الأول في القرن السابع عشر ذورة الفترة الكلاسيكية في فرنسا: جون باتسيت بوكولان المسمي بموليير يحاول عبثا أن يعرض مسرحيته الشهيرة \”طرطوف\” التي تتناول نفاق وفساد رجال الدين.. تقف له المؤسسة الدينية بكل أذرعها الكهنوتية والأكاديمية بالمرصاد وتحول دون عرض المسرحية.. لا ينسى موليير أنه يعيش في كنف الملك لويس الـ 14 \”الملك الشمس\” راعي الفنون والأداب، فيتفتق ذهنه عن حيلة ذكية وهي أن يقوم بتغيير نهاية المسرحية، فيأتي حل العقدة على يد الملك ذاته وكأنها يد إلهية تتدخل في الفصل الأخير لتعيد كل الأمور إلى نصابها، فيتم القبض على طرطوف المنافق والعفو عن أورجون الطيب، ويسدل الستار عن نهاية سعيدة برعاية لويس الـ 14 وذلك ليتم تمرير المسرحية ويشاهدها الملك ويصفق للنص ولنفسه.
المشهد الثاني بعد مرور عدة قرون وفي عام 1969.. الرقابة رفضت عرض فيلم \”شيء من الخوف\” وكتب في تقريرها أن شخصية عتريس الطاغية التي جسدها محمود مرسي بها إسقاط واضح على جمال عبد الناصر.. القصة كانت لثروت أباظة والحوار للشاعر عبد الرحمن الأبنودي.. أقام عبد الناصر عرضا خاصا للفيلم بعد أن وصله تظلم صناع الفيلم, يذكر الأبنودي أن ثروت أباظة ظل يضغط بقوة على ذراعيه حتى ترك علامة لن تنمحي بسهولة بعد أن شاهد الفيلم وما فعله الأبنودي بقصته وهمس في أذنه: \”رحنا في داهية\”.
بعد أن شاهد عبد الناصر الفيلم سمح بعرضه قائلا: لو كنا كده يبقى نستاهل اللي يجرالنا.. في عصر السادات تم منع فيلم \”المذنبون\” لسعيد مرزوق، و كان فيلما يحلم نقدا قاسيا وجريئا لعصر عبد الناصر وأجازه السادات ضمن هوجة تصفية الحساب مع الفرعون السابق له.. هذا المشهد أصبح يتكرر كثيرا.. الرقابة تتعنت وتمنع وتأتي اليد الإلهية لتجيز وتحظى بحفاوة المبدعين.
السادات نفسه كان يحب التمثيل وله سابقة في كاستنج أقامته الفنانة أمينة محمد لفيلمها \”تيتاونج\”، بل وكان يقوم بأداء أدوار مسرحية لزملائه في السجن عندما أعتقل بتهمة التخطيط لاغتيال أمين عثمان قبل ثورة 52.. الرئيس المصري الراحل كان يحب أن يجتمع بالفنانين، بل أقام لهم عيدا للفن تم إلغائه فيما بعد.
إذا إنتقلنا لعصر مبارك، فسنجد هناك مشهدا شبيها بما حدث في مسرحية \”طرطوف\” لموليير في مشهد النهاية لفيلم \”كراكون في الشارع\” الذي عرض عام 1985 من بطولة عادل إمام، حيث يتطوع صناع الفيلم بتقديم تحية للرئيس.. تتعقد كل الأمور أمام البطل المهندس شريف ولا يجد مأوى بعد سقوط العقار الذي كان يقيم به، فيقود مجموعة من الشباب ليقوموا ببناء كرفانات في العراء يقيمون فيها.. تأتي السلطات لتزيل الكرافانات المخالفة، لكن مكالمة من الرئيس مبارك تأتي في آخر أحداث الفيلم مثل اليد الإلهية لتحل الأزمة والعقدة وتترك الشباب يبنون في العراء مع أن في الواقع لم يحدث ذلك.
مشاهد عديدة لعروض مسرحية وأفلام تواجه مشاكل رقابية ويأتي تدخل الرئيس مبارك ليحل الأزمة ولا يفوت أصحاب العمل أن يشيدوا بحكمته وتدخله في الوقت المناسب ليسمح باستمرار العرض.
أحمد بدير في مسرحية \”دستور يا أسيادنا\” – عرضت عام 99 – يقوم بدور محمود عتريس مواطن بسيط يترشح أمام مبارك، وواجه العرض الذي أخرجه جلال الشرقاوي مصاعب رقابية وتم إيقافه، لكنه عاد بسبب تدخل مؤسسة الرئاسة.. عادل إمام بنفسه في حوار شهير مع هالة سرحان كان يقول إن الرقابة ووزارة الداخلية كانا يتعنتا معه في الموافقة على أعمال كثيرة وآخرها فيلم \”السفارة في العمارة\” الأمر الذي كان يدفع مبارك شخصيا للتدخل بقوله: \”خلوا عادل إمام يشتغل\”. على حسب قول عادل إمام نفسه!
العلاقة كانت وثيقة في مصر دوما بين من يسكن قصر الحكم ومن يمتهن الفن، إلا إستثناءات معدودة لفنانين كانوا خارج السياق العام أو اتخذوا موقفا معاديا صريحا من السلطة سواء كان الذي على رأس السلطة ملكا أو جنرالا، فمن ينسى أغنية عبد الوهاب \”الفن\” في مديح الملك فاروق والأغاني الكثيرة التي دبجت ولحنت وتم غناؤها في مديح عبد الناصر وأوبريت \”إخترناك\”، الذي أعلنت فيه جوقة من الفنانين والمغنين عن اختيارها لمبارك \”إلى ماشاء الله\”
علاقة الفنانين بمبارك كانت علاقة ملتبسة على المشاهد العادي.. المشاهد المتابع لأفلام ومسرحيات فنانين مثل عادل إمام, محمد صبحي, نبيلة عبيد, نادية الجندي, نور الشريف أحمد بدير وآخرين، يجدها حافلة بانتقادات لاذعة للوضع الاجتماعي المصري والفساد وتجاوزات الشرطة وفساد المسئولين، وبلغ النقد ذروته مع أفلام عادل إمام التي كتبها له السينارست وحيد حامد، ومع كل هذا النقد القاسي اللاذع الذي تحفل به مثل هذه الأعمال الفنية، كان هؤلاء الفنانون يتسابقون في كيل المديح لشخص الرئيس علنا في المحافل العامة والبرامج، وطبعا في الجلسات الخاصة كان المديح أعظم.
لم يفهم المشاهد العادي أو لم يستوعب لماذا تسابق هؤلاء في تأييد مبارك وقت احتدام الثورة.. لماذا يسخر عادل إمام من الزعماء الديكتاتوريين ومكوثهم في الحكم لما شاء الله في مسرحيته \”الزعيم\”، ثم يهب للدفاع عنه في كل منبر إعلامي؟! لماذا سخر محمد صبحي من الديكتاتور في مسرحية \”تخاريف\”، ثم منذ أن هبت رياح ثورة 25 يناير وفي أوجها قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود فيها، وبكل دأب وحماس، كان محمد صبحي دونما يدعوه أحد يتصل بكل البرامج ليحض فيها الشباب على ترك الميدان ويصفهم بالاندفاع، وربما كان أول من استخدم مصطلحات مبعثها خلفيته القومية عن المؤامرة الكونية التي تحاك ضد مصر من جهات أجنبية واستخدم صبحي قدراته وطاقته المسرحية في تضخيم التغرير الذي تعرض له هذا الشباب النقي.
هذه الإزوداجية لا يمكن أن تفسر إلا في سياق أن نظام مبارك كان يسمح لهؤلاء بمساحة من النقد في أعمالهم كنوع من التنفيس عن المشاهد، لكن يبدو أن السلاح قد ارتد إلى صدر السلطة في النهاية، فبعض هذه الأعمال قد ألهمت الثائرين في هتافاتهم، ربما لهذة المساحة وجدنا دفاعا محموما من إلهام شاهين وغادة عبد الرازق وأحمد بدير وطلعت زكريا وآخرين عن مبارك وهو يتصدع، ثم تحويلهم البوصلة للمجلس العسكري في فترة حكمه كنوع من البحث عن الأمان في الاحتماء بالسلطة الكلاسيكية التقليدية.
عندما أتى مرسى إلى سدة الحكم من داخل جماعة الإخوان المسلمين وضع الفنانون أيديهم على قلوبهم، فهذه جماعة تعادي الفن شكلا ومضمونا، حتى مسرحياتهم التي كانوا يقيموها على استحياء، كانت تحمل طابعا تعبويا محشوة بهتافات تتوارى فيها المرأة في حضور هامشي خافت.
مرسي لم يذكر الفنانين في خطابه الأول الذي حيا فيه قطاعات كبيرة من الشعب، لكنه استدرك الأمر أو أحد مستشاريه نصحه بتدبير لقاء مع الفنانين ليثبت حسن النية رغم أن القنوات الدينية الداعمة له كانت تسلخ فروتهم في هجوم شبه يومي وتصب عليهم صواعق التكفير اليومية والكل يتذكر المعركة الشهيرة بين الشيخ عبد الله بدر وإلهام شاهين، وجملته الشهيرة لها التي كلفته عاما خلف القضبان: \”كم واحد اعتلاكي باسم الفن يا إلهام\”
التقى مرسي بوفد يتزعمه عادل إمام، وخرجت تصريحات الفنانين بعد هذا اللقاء ديبلوماسية، وإن كانت الصدور لا تزال تحمل ما تحمله من توجس وريبة، لكن رسم صبحي كعادته صورة وردية، عندما خرج بعدها بتصريح: \”لم أشاهد اليوم الهوية الحزبية للرئيس مرسي وإنما رأيت رجلا مصريا محبا لوطنه، وهو ما كنت اتمنى أن اشعر به قبل دخولي للقاعة التي شهدت اجتماعنا به\”.
عندما بدأ الإعلام في الهجوم على مرسي وجماعته بإيعاز من أجهزة الدولة، ابتلع الفنانون حبوب الشجاعة، وشاركوا في الحملة ضد مرسي.
في مشهد شهير في أحد احتفالات الجيش الكلاسيكية، التقى السيسي – وكان لايزال وزيرا للدفاع وقتها- بفنانين مثل محمد فؤاد وهاني شاكر ومي كساب.. أمسك فؤاد بيده باكيا داعيا إياه أن ينقذ مصر مما أسماه \”كابوس الإخوان\”، وقد أجابه الجنرال بهدوء وقتها: \”لا تقلق فدورنا قادم\”…. وبدا لحظتها أن السيسي كان يعي جيدا دور الفنانين في التأثير على الشارع ولعب على هذا الوتر.
الفنانون كانوا في مقدمة الحاشدين لمظاهرات 30 يونيو التي أطاحت بالإخوان، وبعدما كان يمارس معظمهم – \”بأستثناءات قليلة مثل خالد الصاوي وخالد أبو النجا وعمرو واكد وبسمة\”- دورا في كبح جماح الشارع مع 25 يناير مع 30 يونيو، كانوا في وسط الحشود -وعلى رأسها أحيانا- في حماية قوات الجيش والشرطة وبعيدا عن خطر ما حدث يوم 28 يناير 2014 أو حتى خطر الموالين لمرسي في ميادين مثل رابعة والنهضة.
بعد إعلان الإطاحة بمرسي أعلن الفنانون تأييدهم الكامل والمطلق للسيسي، وتعددت اللقاءات والأغاني والأوبريتات وجمع السيسي في أحد لقاءاته حشد من كبار الفنانين، ربما لم يجتمع منذ زمن إلا في أعياد ميلاد الراحل فريد شوقي أو حفلات عودة النجم الشعبي عدوية من العلاج في الخارج.. لقاء السيسي جمع أحمد السقا بعادل إمام بنادية لطفي بالراحلة فاتن حمامة بحسين فهمي والقائمة تطول، وقد وقف كل منهم يكيل له جملا طويلة أو قصيرة من المديح.
من الواضح لأي مراقب أن السيسي يضيق بالنقد حتى أكثر من مبارك، وأن حتى الهامش الذي كان مسموحا به في نقد الأوضاع السياسية و الاجتماعية في عصر مبارك، قد يضيق في عصر السيسي معتمدً على ظهيره الشعبي الذي يستمده من صورة قاهر الإخوان والأمريكان، والأكيد أن الفنانين في أغلبهم سيظلوا قريبين من مؤسسة الرئاسة يستظلون بأشجارها الوارفة وهي تستفيد بدورها من هذه العلاقة ثنائية الفائدة. والحتمية التاريخية تقول إننا سنشهد أعمال فنية بالأمر المباشر وتطوعا، تواكب حفل افتتاح تفريعة قناة السويس في مستهل أغسطس القادم.
لا يجوز أن يصف أحد، فنانين لهم ثقلهم وإبداعاتهم المهمة بندماء السلطان، فهم يبحثون عن المرفأ الآمن كي يرسو عليها، خصوصا أن نار العسكر عندهم ولا جنة الإسلاميين، وأنه لم يبدأ الصدام بشكل واضح بعد ما بين رقابة السيسي والفنانين إلا في مسلسل تم وأده في رمضان قبل الماضي وإيداعه الثلاجة، وهو \”أهل إسكندرية\” وإن كان صناعه ليسوا من الفنانين المفضلين للرئاسة ومحسوبين على الثورة والمعارضة من بلال فضل الكاتب، إلى عمر واكد وبسمة كبطلين للعمل، وساعتها سيطمع الفنانين في كرم الرئيس في إن يتدخل في اللحظة الأخيرة ويجيز العمل، مثلما فعل سابقيه.. أم يكون الحب من طرف واحد ويترحم الفنانين على عصور سابقة كانت لهم كلمة مسموعة.