\”لما الغيلان صرخت
غارزين في بعض الناب
فجأة اكتشفنا ف صوتنا
ريحة الدم..
وف وشنا أنياب.
وإن الغيلان.. إحنا\”
من قصيدة \”صلاة خوف\” للشاعر \”محمود عزت\”
صبيحة اليوم الذي جرى خلاله فض اعتصام ميداني \”رابعة العدوية\” و\”النهضة\”، جلستُ صامتا، أداري فزعي مما يجري.. كان فزعي من ردود فعل من أعرفهم، وخصوصا أصدقائي في دائرتي المقربة، ممن رحبوا بالمقتلة التي كانت رحاها تدور، يبررون للجرائم والانتهاكات التي كانت تتم في لحظاتها، أضعاف أضعاف فزعي من المجزرة التي جرت خلال ساعات الفض.. أن ترى من تحبهم، ويحبونك، وتظنهم يعتنقون ذات الثوابت التي مازلت تظن أن لا غنى عنها لأي إنسان لا يزال يحترم إنسانيته، يؤيدون القتل، والتعذيب، وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأولية؛ متعللين بحجج متعددة، كان هذا هو كابوسي الأكثر إفزاعا من بحور الدم التي أزكمت الأنوف، ولا تزال تجري تحت أقدامنا حتى الآن.
لم أستطع أن أتحمل صحبة من انخرطوا في هيستيريا تأييد القتل.. تساقطوا من دائرتي واحدا تلو الآخر، ومن لم أبعد عنه متعمدا أبعدته الأيام؛ كأن القدر على علم أن هذا سوف يحدث مهما تأخر أو تم تأجيله.
ظننت بعد ما جرى أيامها، ومع مرور الأيام، أنني لن أتعرض لهذا الإحساس القاتل ثانية: إحساس أنك مُحاط بمن كنت تظنهم بعيدون عنك تماما، في صفوفك من يجدون في تأييد الظلم طريقا لتحقيق العدل في المستقبل.. لكنني، كالعادة، كنت مخطئا وساذجا.
مع أول أيام عيد الفطر، بدأ موسم التحرش الجنسي المعتاد، ينتشر في زحام الشوارع والأماكن العامة كالوباء.. لم يكن الأمر مفاجئا على أي شكل، اعتاد المصريون وجود التحرش في الأعياد أكثر مما اعتادوا أي شيء آخر، لكن هذه المرة كنا على موعد مع ظاهرة جديدة: انتشر فيديو لقوات مكافحة التحرش، بقيادة \”العقيد نشوى\”، التي ظهرت وهي تمسك أحد المتحرشين من ملابسه، وتصفعه بقوة على وجهه.. لقى الفيديو انتشارا كبيرا على الإنترنت، ونالت \”العقيدة نشوى\” مدحا كثيرا.. وبعدئذ، تفرغ من مدحوها للمزايدة على من لم يعجبهم الفيديو، وهاجموا ما ارتكبته خلاله سيادة العقيد، من لم يجدوا صوابا أو بطولة في صفع \”متهم\” محاط برجال الأمن، لا فرصة أمامه للهرب، لا يبدي مقاومة أو محاولة هرب أو بادرة عنف، مستسلم تماما.
معيار تمسكك بمبدأ معين هو لحظة اختبارك فيه، عندما يواجهك القدر بأن يضعك في مواجهة ألد أعدائك، ويكون عليك حينها أن تتمسك بمبادئك، التي طالما ناديت بضرورة احترامها.
بعد انتشار فيديو \”صفع المتحرش\”، وجدت الكثيرين ممن أتابعهم على فيسبوك يرحبون بما في الفيديو، ويتمنون أن يتم تعميمه كسياسة عامة لردع المتحرشين.. لم أستطع أن أستوعب أن من يعارضون نظام عبد الفتاح السيسي؛ لأنه ينتهج انتهاك حقوق الإنسان؛ بدعوى الحرب على الإرهاب، هم من يهللون الآن لفعل ينتهك القانون، دون أي مبرر منطقي، ويرون في صفع المتحرش وسيلة للردع، وكأنهم بشر آخرون غير الذي يصدعون متابعيهم بضرورة التمسك بالدفاع عن حقوق كل إنسان، مهما كانت فداحة الجريمة التي ارتكبها.
للمتحرش حقوق، وللقاتل حقوق، وللسارق حقوق، ولكل متهم حقوق يجب احترامها، حتى اللحظة التي تنتهي عندها محاكمته، يكون عليه حينها أن ينفذ العقوبة التي يقررها القانون.. لو أرادوا أن يعمموا \”صفع المتحرش\” كقاعدة تسري على الجميع؛ لجعلوها قانونا يُطبَق دون تمييز على كل من يرتكب جريمة التحرش، أما أن يحدث هذا خارج إطار القانون، ودون وجود مبرر واقعي لهذا، مثل مقاومة المتهم أو محاولته الهرب أو إيذاء رجال الأمن، فهو جريمة لا تبرير لها.
تمتلئ صفحتي الشخصية على الفيسبوك بمئات المنشورات التي كتبتها عن التحرش الجنسي؛ حتى ظن البعض واتهموني بالفعل أنني أكتب ما أكتب لكي أجتذب المزيد من جمهور النساء، ليتابعوا ما أكتب.. أرشيف مقالاتي يشهد بما أكتبه دفاعا عن حقوق المرأة، بمختلف صورها، ولأنني أكتب دفاعا عن حقوق المرأة انطلاقا من إيماني بضرورة الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته بشكل عام، رأيت في فيديو \”العقيد نشوى\” انتهاكا لحقوق الشاب المتهم بالتحرش.. أتفهم أن تصفع الفتاة من يحاول أن يتحرش بها؛ دفاعا عن نفسها، لكن ما الدافع المنطقي الذي يجعل شرطية تصفع متهما لا يبدي أي نوع من المقاومة، سوى الاستعراض أمام الكاميرات التي وقفت تصور ما يجري، واستكمالا للخط الذهني الذي يسيطر على العقلية الشرطية، ومن خلفها الدولة المصرية بشكل عام، التي لا ترى طريقة أخرى لردع المتهمين سوى الصفع والإهانة وانتهاك القانون؟ لم أندهش أبدا عند انتشار شهادات تتحدث عن الانتهاكات التي ارتكبتها \”العقيد نشوى\” تجاه المتظاهرات أمام مجلس الشورى عام 2010، وعن آرائها فيما يخص دوافع التحرش، حيث ترى أن \”ملابس الفتيات وطريقتهن المائعة في السير\” هي السبب الرئيسي لانتشار التحرش في الشوارع.. هذا هو المتوقع من عقلية ترى في \”الصفع\” ردعا للجناة وحماية للفتيات!
في فيلم \”الجزيرة\”، وفي مشهد يواجه فيه سيادة اللواء المريض ابنه، ضابط الشرطة الشاب، الذي يحدث أبيه عن ضرورة تفعيل القانون، وعدم الالتفاف عليه مهما كان المبرر، يهاجم \”اللواء\” ابنه، موبخا إياه في سخرية: \”متعملش زي اللي بيدافعوا عن حقوق الإنسان والكلام الفاضي ده! ويهاجموا الضرب في أقسام البوليس.. وأول ما الخدامة تسرق منهم حاجة، يدوروا وشهم الناحية التانية ويقولوا: عاوزين حاجتنا.. اعملوا فيها اللي أنتوا عاوزينه، بس حاجتنا ترجعلنا.\”
أولئك، من هم على استعداد لتأييد الظلم، ظنا منهم أن هذا في مصلحتهم الشخصية في الوقت الحالي، وأنهم قادرون على إيقاف هذا في المستقبل، من يظنون أن الانتهاك يمكن أن تتم مواجهته بانتهاك مماثل، دون النظر للقانون، من يعتبرون القانون ترفا، نتبعه في الأوقات العادية فقط، أما التمسك به في كل الأحيان فهو مثالية لا داعي لها، من يقيسون الانتهاكات بالكم لا بالكيف، هم من يمهدون الأرض لكل استبداد، حتى إن لم يدركوا هذا في حينها.
في مثل هذه الأيام الصعبة التي نحياها، قد يكون أهم ما على الإنسان أن يدركه، هو أن يحافظ على روحه وقيمه دون أن تتشوه، دون أن يصيبه داء التبرير.. تذكر أن اللحظات الصعبة فقط، عندما تواجه أكثر من تكره، من ترى فيه الحقارة مجسدة، هي القادرة على اختبار قدرتك على التمسك بما تعتقد أنه الصواب، وما تدافع عنه وتنادي به طيلة الوقت.. وأنه لا يمكنك أن تتركهم يعذبوا الخادمة التي سرقتك؛ حتى لو أقنعوك أن هذا هو سبيل إعادة ما سرقته إليك؛ فقد تتحول هذا الخادمة، بعد تعذيبهم لها، إلى قاتلة أطفالك في المستقبل.