حسام الخولي يكتب: Mad Max Fury Road .. نقدم لكم مستقبلكم السعيد

أحب الأفلام التي يمكن لكل من يشاهدها أن يجد فيها شيئا يخصه وحده, أو بكلمات أخرى لن يعدم كل منا أن يرى فيها جانبا يروق له حتى وإن لم يهتم كثيرا بالجوانب الأخرى.

لا يعني هذا أن  الجميع سيقعون في غرام Fury Road  Mad Max وفي الواقع، فإن التيمة العامة لأفلام ما بعد المحرقة والأجواء المفرطة في التشاؤمية التي تصبغ الفيلم قد لا تروق للبعض، ومن البديهي أيضا أن جرعة العنف الدموية وأن لم تكن خارقة للعادة لن تروق للبعض الأخر ( رغم أن العنف و الدماء في حياتنا قد صارا عنصرا عاديا لا يثير اهتماما كبيرا ).. رغم هذا كله إلا أن البراعة واتزان الرؤية لدى مخرجه المخضرم \”جورج ميلر\” مع عدد آخر من العناصر ساهما في تحقيق عمل لا نجد مثيلا له كل يوم.

الفيلم ليس جزء لاحقا Sequel  لسلسلة الأفلام الشهيرة Mad Max   والتي كان أولها فيلم أسترالي منخفض التكاليف نسبيا (لم تتعد ميزانيته 400 ألف دولار أسترالي) عام 1979 حقق نجاحا ساحقا وأطلق المستقبل المهني لكل من مخرجه الدكتور \”جورج ميلر\” الطبيب السابق والمخرج الذي سيذهب بعد ذلك للولايات المتحدة مدفوعا بهذه الطاقة التي زوده بها فيلمه الأول وينتج منه جزئين آخرين عام 1981 و 1985 هما The Road Warrior  و Beyond the Thunderdome  .. ولبطل السلسة بالطبع \”ميل جيبسون\”، الذي سيتقدم ليصبح واحدا من السلالة الملكية في هوليوود، نجما ممثلا ومخرجا في السنين التالية.. الفيلم أقرب إذن لمفهوم الـ Reboot  الذي صار موضة رائجة في السنوات العشرة الأخيرة ، وهي فكرة وجيهة جدا تجمع ما بين استخدام الشخصيات الناجحة والقصص التي حققت رواجا في الماضي بدون الحاجة إلى خوض متاهة البحث عن امتدادات جديدة لقصص قديمة أو تخريجات ملتوية لنهايات كانت مغلقة أو شبه مغلقة، حتى تستمر القصة في العرض وإدرار الأرباح.. بدلا من ذلك نعود بالقصة لبدايتها الأولى وننشيء العلاقة ما بين المشاهد وأبطاله المفضلين، ليتعرف عليهم من جديد بشكل مختلف أو أكثر اتقانا وابهارا، ومنذ البدايات المبكرة  لهذه الفكرة في الثمانينيات، وهي تثبت أنها تمثل بديلا جيدا وناجحا لمفهوم الأجزاء اللاحقة، حينما يبدو أن القصة الأساسية قد استنفدت جدتها واستمراريتها الطبيعية.

Mad Max  يدور في مجتمع مستقبلي كابوسي، يصارع أفراده بعضهم بعضا كالحيوانات على بقايا الموارد التي لم تهلك، بينما انهارت  الحضارة في العالم أجمع بسبب الحروب والتلوث والنهم الاستهلاكي, ويعود إلى عصر قبلي متوحش أشبه بالعصر الحجري.. الاختلاف هنا أن العصر الحجري لم يستخدم فيه البشر سيارات وأسلحة نارية .. السيارات ومطارداتها هنا  تبقى العنصر الأكثر تميزا في هذه المجموعة، الأمر الذي صنفها أيضا تحت قائمة أفلام الطريق Road Movies  وأفلام الأكشن أيضا.. بالذات بالطابع الذي يجمع بين الصدأ والتهالك، وفي نفس الوقت المحركات القوية والإكسسوارات القبلية المتوحشة التي ميزت تصميماتها، وقد نجحت هذه التيمة واستلهم منها صناع أفلام كثيرون في تجارب مستقلة.. وأعطاها جاذبيتها الخاصة لمحبي هذا النوع من الأفلام.

\”ماكس\” بطل القصة هو مغامر مستقل بلا مستقر , يعيش على الطريق متمردا على التراتبية الاجتماعية القاسية التي أنشأتها ظروف انهيار العالم في هذا المستقبل المظلم، حيث لا ينتمي لأي من العصابات والجماعات التي تكونت بناء على قوانين القوة، وصار تبعا لها الأكثر جنونا ودموية فقط هو من يمكنه أن ينضم إلى طبقاتها الحاكمة، بينما لا يملك الضعفاء إلا الانصياع تحت مظلة أي منها في خضوع ومذلة أملا في الحصول على الحماية والقليل من الفتات الذي يسد به رمقه لكي يتمكن من النجاة، وكونه على هذه الحالة جعله عدوا للجميع، إما بسبب رفضه لقواعد  تقسيم الموارد التي يفرضونها بقوة السلاح والرعب، أو بسبب خوف الجميع من تحوله إلى نموذج يحتذى ويؤدي إلى المزيد من التمرد والرغبة في الاستقلالية لدى تابعيهم، وفي هذه الظروف، ينضم \”ماكس\” إلى مجموعة من النساء اللاتي تقودهن \”شارليز ثيرون\” في دور \”فيريوزا\”، حيث تقوم بمساعدة زوجات \”جو الخالد\” على الهرب.. \”جو\” زعيم أكبر قبائل المنطقة المشوه خلقا وخلقة، والذي يحكم قبيلته بالحديد والنار والعطش، حيث يتحكم في مورد المياه الوحيد بالمنطقة.

ويدور الفيلم بالكامل تقريبا في أجواء المطاردة بين ذلك الرجل الذي لا نرى وجهه أبدا وهو يقود جماعته من المهاويس المرضى   بأجسادهم وعقولهم، والذين يرونه كنبي أو نصف إله في تبعية دينية عمياء, يفتدونه بحياتهم ويرون فيه مخلصهم الذي سيقودهم إلى الجنة (فالهالا في القصة وهي أيضا الجنة في التراث النورماني بشمال أوروبا)، وبين تلك المجموعة البائسة من الهاربين الذين يأملون في الوصول إلى الأرض الخضراء.. أرض الأمهات الكثيرات، حيث يعشن بلا رجال ولا عنف في أرض خصبة تكفي الجميع.

إذن.. نرى أن الفيلم به شيء لكل مشاهد.. هناك الأداء الواثق الرجولي نادر الكلام للعظيم \”توم هاردي\” في دور \”ماكس\”، وهناك ذلك التمرد الأنثوي كامن القوة لـ \”شارليز ثيرون\” التي لم يفلح كونها مبتورة الذراع وملطخة الوجه بالشحم في تخفيض إشعاع جاذبيتها الآسرة.. هناك فكرة الحضارة البشرية كما نعرفها، ونرى في عالمنا مظاهر كثيرة لعلامات اتجاهها نحو ذلك المصير المظلم، وكيف تتحول الدوجما شبه الدينية أو القومية إلى آلة جهنمية تدور في النهاية لخدمة أغراض ورغبات فرد امتلك كفاية من الكاريزما والدهاء والوحشية أيضا، ما مكنه من اقناع من حوله بأنه مخلصهم واستخدامهم لإجبار الباقي على الانصياع لسلطته مع إضافة نغمة نسوية ليست خافتة، وليست مصطنعة في الوقت نفسه.. كل ذلك في إطار متتابع خاطف لا يترك للمشاهد إلا فرصا نادرة لالتقاط الأنفاس.. ويقوم \”ميلر\” في هذه التجربة بصناعة واحد من أنجح أفلام هذا العام وأكثرها استحقاقا للمشاهدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top