آلاء الكسباني تكتب: "بتوقيت القاهرة"

هل شاهدتم يوما فيلما يرسم الابتسامة على شفاهكم لمدة ساعة و55 دقيقة كاملة؟ إذا كانت الإجابة نعم، فأنصحكم بقراءة المقال لإن هذا الفيلم مختلف عن أي فيلم آخر شاهدتموه من قبل، وإذا كانت الإجابة لا.. فقراءة هذا المقال فرض واجب لأنفسكم عليكم.

عثرت على الفيلم بالصدفة على التلفزيون في قناة لا أذكر اسمها ولا حتى شكل علامتها التجارية, جُل ما اذكره هو أنني وجدت نفسي انخرط فيه بكل قلبي, وأحسست بروحي تطفو فوق جسدي وتهيم به, فلأول مرة منذ فترة طويلة ابتسم بسبب فيلم ابتسامة صادقة, ولأول مرة منذ فترة اتنفس براحة دونما ثقل, ولأول مرة منذ فترة يهدأ قلبي ويصفو!

يبدأ الفيلم بمشهد للأستاذ يحيى, رجل عجوز يجلس في عيادة طبيب, ويخبره الطبيب بكل أسف إصابته بمرض الزهايمر, يخرج أستاذ يحيى حزينا ويركب \”تاكسي\” عائدا إلى منزله, لنكتشف أنه يعيش في الأسكندرية, بلدي الحبيب ومعشوقتي.

يحدثنا يحيى عن إصابته بالزهايمر وكيف يشعر أنه ينظر للناس من خلف ألواح زجاجية مليئة بالغبار, هو ينسى الكثير من الأشياء والأشخاص، لكنه لا ينسى قط كيف يشعر حيالهم, من الممكن أن ينسى صديقا له منذ الطفولة أو ينسى ابنه، أو حتى عدو له، لكنه لا ينسى قط ما هو إحساسه تجاههم سواء بغضا أو حبا.

يحمل أستاذ يحيى معه دائما صورة قديمة ممزقة, أكل عليها الدهر وشرب, لامرأة حسناء, لا يعرف من هي, لا يذكر حتى اسمها, جُل ما يذكره أنها تعيش في القاهرة وأنه يحس بالشوق تجاهها, وبحاجته للقائها, لربما, لربما حين يلقاها يتذكر كل ذكرى اغتالها مرض الزهايمر من عقله.

يعيش يحيى مع ابنه مراد وزوجته وابنته أميرة, نفهم من خلال حديثه مع ابنه وعنه أن علاقته به متوترة للغاية, كما نفهم أن مراد يكره أمه بشدة لسبب لا نعمله، إلا في نهاية الفيلم، لكن أستاذ يحيى حقا لا يذكر هذا السبب.

يقرر يحيى أن يقوم برحلة إلى القاهرة ليعثر على الفاتنة صاحبة الصورة، تاركا لابنته خطاب يمنعها فيه من محاولة اللحاق به، ويحكي لها عن حاجته الشديدة لهذه الرحلة.

ثم نرى السيدة صاحبة الصورة ونكتشف أنها تدعى ليلى, ممثلة قديرة اعتزلت الفن منذ وقت طويل لظنها أنه حرام, تريد أن تتزوج بشخص متدين متعصب, تدينه قائم على فتاوى الشيوخ الجهلاء أمثال محمد حسّان وحسين يعقوب, أمرها بالذهاب إلى زميل قديم لها لتطلب منه الطلاق لأنها -على حد قوله – متزوجة ممن تزوجتهم في أفلامها وأعمالها الفنية!

ينتقل بنا الفيلم إلى سامح, الممثل القدير زميل ليلى, رجل مُتصابي لازال يرى الجمال في الحياة رغم وحدته وزوال مجده الفني, سافر ابنه منذ وقت طويل إلى الخارج واختفى المعجبون والفن والشهرة , لم يبق له سوى حائط مليء بالصور وأفلامه القديمة التي لا يمل من مشاهدتها ليل نهار.

ثم نرى وائل وسلمى, عاشقان تربطهما علاقة حب قوية منذ ثلاثة أعوام كاملة, يتواعدان للذهاب إلى شقة أحد أصدقائهما ليختليا ببعضهما البعض لأول مرة.

في الواقع, هما أكثر من أثر بي في الفيلم, وفي رأيي الشخصي اعتبرهما عصب الفيلم وأهم حكاية به, فقد رأيت في سلمي مثالا للفتاة المصرية الأصيلة التي عقّدها المجتمع وأرهبها من الجنس الآخر والعلاقات الحميمة, وأفهمها أن أي رجل يريد الاقتراب منها ما هو إلا ذئبا بشريا يسعي للنيل من جسدها, وسيرفض أن يتزوجها بعد أن يقع المحظور.

هي فتاة مصرية أخرى من ضمن الآلاف, تعيش برغبة مكبوتة في الحب والحياة,  و رغم اعترافها برغبتها في ممارسة الحب مع حبيبها، إلا أنها تتنصل من أحاسيسها من شدة خوفها من رد فعل المجتمع إذا لم تتم زيجتهما, فالكل سيحملها وحدها خطأ الحب, ففي المجتمع المصرى, الرجل وحده هو من يحب ويشعر بالرغبة, الرجل وحده هو من يخطيء ويسامحه المجتمع على أخطائه, أما الفتاة, فغير مسموح لها أن تحب وأن تعبر عن رغباتها الجنسية, غير مسموح بأن يكون لها رغبات جنسية من الأساس, مع إن الله قد خلق الرغبة وفطرة الجنس فينا ذكرا وأنثى.

أما وائل فهو يحبها بحق, لكن مثله مثل آلاف الشباب المصري, لا يملك المال الكافي للزواج ويحاول بقدر المستطاع أن يحتوي حبيبته ويؤكد لها أنه يحبها لذاتها وليس لجسدها.

وضعتني علاقة سلمي ووائل أمام الواقع المصري القبيح, وجعلتني أرى محاولات هذا المجتمع لتشوييهنا بقبحه!

يرفض المجتمع أي علاقة خارج إطار الزواج، لكنه من ناحية أخرى بعقد الزواج,   يشترط شقة بآلاف الجنيهات ومهر وشبكة ويسمح للأهل بالتدخل في قرار مصيري لن يمسهم, وإنما يخص شخصين اثنين فحسب! يُسهل حرمان العشاق من بعضهم ويُشجع الدعارة المُقننة تحت شعار الزواج من ابن الحلال, ويبذل جهودا مستميتة من أجل بيع الفتاة المصرية بسعر مناسب لأول من يشتريها في سوق الزواج, وأهو كله بتمنه.

جعلتني علاقة وائل وسلمى أرى ذلك العجوز المتطفل الذي رمق وائل بنظرات سخرية وازدراء حين سمعه يخاطب سلمى في الهاتف قائلا: \”بحبك أوى\”.. يزدري مجتمعنا كل تصرف يعبر عن الحب, يرفضه ويلفظه ويحاربه بكل طاقته، أذكر منذ بضع أيام, شاهدت إعلان على قناة الأم.بي.سي عبارة عن شاب وفتاة في مركب في النيل يتضاحكان ويلعبان سويا, وكان الشاب بمحض الصدفة اسمه وائل أيضا, جذب وائل حبيبته من يديها وجرى بها إلى مقدمة المركب، حيث وقفا يقلدان مشهد فيلم تايتانيك وسط ذهول وسخرية ونظرات استهجان وازدراء من الجالسين!

ذهب صاحب المركب إليهما وعنفهما ودفعهما في النيل, لينتهي الإعلان بـ \”ام.بى.سى2 شوفها بس ماتعيشهاش\”! لم أضحك !

جُل ما شعرت به هو القهر والحزن والاكتئاب، القهر من هذا المجتمع الذي يصر علي إنهاكنا وإفساد علاقاتنا, هذا المجتمع الذي يمكن أن يتقبل أن يتحرش أحدهم بفتاة فلا يحرك ساكنا, لكنه لا يقبل أن يلمسها آخر بحب وبمحض إرادتها, فينتفض انتفاضا حين يرى عاشقين يضمان بعضهما البعض على الكورنيش, ذلك المجتمع الذي يدفع سلمى لأن تطلب من وائل إنهاء علاقتهما، لأنه لم يعد بها طاقة لأن تحبه عن بعد, دون أن تلمسه, ولأنها تعبت من انتظار الزواج ولا ترغب في الوقوع في الخطأ!

لكن.. ينتصر الحب في النهاية

خرج أستاذ يحيى من الحبس الإنفرادي الذي سجنه فيه ابنه لأعوام وسافر إلى القاهرة بحثا عن الفاتنة صاحبة الصورة, فيقابل في طريقه حازم, شاب يتاجر في الحشيش. يتطوع حازم لإيصاله إلى القاهرة للبحث عن صاحبة الصورة وتنشأ بينهما علاقة أبوية حانية للغاية، يحكي يحيى بمقتضاها أحاسيسه ومشاكله مع ابنه, وبالرغم من أن حازم تاجر حشيش, إلا أنه كان أكثر رأفة وأحن قلبا على يحيى من ولده المتدين, وكأن أمير رمسيس –مؤلف الفيلم ومخرجه-  يخبرنا بأن الدين ليس شرطا لوجود الخُلق الحسن وأن المعادلة البشرية في الخير والشر ليست مطلقة وربما ليست صحيحة من الأساس!

وتلحق ابنة يحيى به، لكنه يصدها عن رحلته رغم علمه بحبها له.

يُمثل يحيى رغبة كل إنسان في الركض خلف شغفه, تخبرنا شخصيته أن الرحلة طويلة وشاقة ولا يبقى منها غير بعض الذكريات والشغف والحب, تخبرنا أن الحياة أقصر من أن نعيشها مترددين خائفين مُأجلين مشاعرنا للغد.. فربما غدا هذا لا يأتي مجددا!

تخبرنا أنه –أحيانا- يتوجب علينا أن نُقصي من نحب عن رحلتنا الأخيرة, ليس لعيب فيهم أو فينا, وليس لزهدنا فيهم أو لعدم احتياجنا لهم, وإنما لأنه لم يُكتب لهم أن يكونوا جزء من هذه الرحلة.. هذه الرحلة يخوضها المرء وحده شاء أم أبى.

تخبرنا أن الله خلق الأرض رحبة تتسع لكل الناس، وأنه لكي يستمر العالم، كان لابد أن يخلق الله أنواعا مختلفة من البشر.

وفي مجموعة من الأحداث المتلاحقة -سأترك لك عزيزي القارئ متعة اكتشافها عند مشاهدة الفيلم- يصل يحيى إلى منزل سامح بالقاهرة صدفة, ليجد ليلى عنده ويتعرف عليها, ويدرك أنها الفاتنة صاحبة الصورة ويتذكر معها أنها كانت حب حياته الأول.

ويختتم المؤلف فيلمه بسلمى ووائل يسيران في الشارع ممسكان بيد بعضهما البعض, متحديان نظرات واستهجان الناس, وضحكة سلمى العالية تُسمع الكون الأصم كله وتملأ الأرجاء.

فضلا عن التمثيل الرائع والممثلين الذين اعشقهم مثل نور الشريف والفاتنة ميرفت أمين والرائع سمير صبري وبيومي فؤاد الذي لا يمكننا أن نغفل دوره، رغم أن مشهده صغير للغاية, فإن أهم ما يميز الفيلم هو موسيقاه التصويرية, فأنا لدي قناعة خاصة أن الموسيقي التصويرية دائما ما تكون المرآة التي تعكس العمل الفني, وقد لمست هذا بشدة في الفيلم, موسيقاه خفيفة على الروح, إيقاعها مميز ما بين السريع والبطئ, تشعر أنها تجوب بك ما بين الشخصيات وتساعدك على إدراك الموقف بشكل أقوى في كل مشهد.

وبالطبع هذا ليس بغريب على خالد حماد صاحب موسيقي \”همام في أمستردام\” و\”صعيدي في الجامعة الأمريكية\” و\”أحلى الأوقات\” و\”معالي الوزير\” و\”عمارة يعقوبيان\” و\”فيلم ثقافي\”.

ويمكنك سماع موسيقى الفيلم من خلال هذا الرابط

ختاما.. يمكننا أن نقول إن أمير رمسيس نجح في أن يضعنا في جو إنساني واقعي جميل خلال يوم واحد فقط في حياة ستة أشخاص, بثلاث حكايات مختلفة يترابطون معا ليخرجوا لنا فيلما في قمة الخفة والجمال والصفاء النفسي.

لطالما آمنت أن الأفلام والموسيقى والكتب أعظم هدايا يمكن أن نهادي بها أحباءنا,  ومن ثم, أُحب أن أُهدي هذا الفيلم للشاب الذي أهوى, واقول له جملة أقتبسها على لسان سلمى: \”إننا نفضل مع بعض.. هيا الحاجة الوحيدة الصح في كل الجنان اللي إحنا عايشين فيه ده\”.

سأظل أمسك يديك بقوة وأضحك، مهما رمقتنا عيون الناس بالازدراء حين تمسك بيدي في الشارع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top