المصريون ما هم إلا جمعٌ من العبيد، لهم أخلاقهم، وطباعهم، يُساقون بالسياط، يقدسون جلادهم، حتى وإن سبَّته ألسنتنهم أحيانا\”.
هكذا ختم الأستاذ اليساري المرموق حديثه، بصوت غاضب يشوبه المرار، في ختام ندوته التي حضرناها، في ذلك المركز الثقافي الصغير في الإسكندرية، بعد أن رفضت المراكز الثقافية الكبرى في المدينة استضافة ندوته؛ خوفا ودرءا للمتاعب التي حتما ستواجههم؛ نظرا لميول الضيف المعارضة للنظام القائم في مصر.
خرجتُ من الندوة أفكر فيما قاله الرجل، ومعظمه غضب منصب على المصريين، بوصفهم جمعٌ من العبيد، رافضين للحرية بطبعهم، أوصلونا جميعا لحكم عسكري قاتم، نعانيه الآن، امتلأت سجونه بالمعارضين على اختلاف انتمائاتهم، بعد أن أذاع الخوف والخرس.
لم يكن اندهاشي الأعظم منبعه أن يأتي هذا الحديث من رجل يساري الهوى، يعتنق إيديولوجية منبعها وزادها ومردها هو الشعب، وهو الذي صبَّ عليه الأستاذ جام غضبه واحتقاره.. كان السؤال الأكثر إلحاحا على ذهني: أليس هذا هو نفس الشعب الذي انتفض جزءٌ منه في يناير2011؛ فكانت \”ثورة يناير\”، التي قضى الأستاذ اليساري شطر ندوته الأول يُمجِّد فيها، وينعتها بكل وصف جميل؟
ليس هذا الأستاذ اليساري هو الوحيد المُردد لهذا الحديث؛ فالواقع يقول إن عددا كبيرا من المنتمين لحلم الثورة، انجرفوا لفكرة تحقير الشعب وإلصاق كل نقيصة به، بعد الانقلاب على الرئيس الإخواني محمد مرسي في الثالث من يوليو 2013، وما لاقاه هذا من تأييد شعبي ضخم؛ ليجد الثوريون أنفسهم حينئذ في مواجهة واقع صادم؛ ملخصه أن الشعب مؤيد للحكم العسكري مرة أخرى، وما يستتبعه هذا من صور مختلفة للقمع، يكون الاعتقال أبسطها في أحيان كثيرة.
هل تغيَّر الشعب بين عشيّة وضحاها؟ وهل المصريون أساسا هم شعب من العبيد، محبي الاستبداد؟
تاريخٌ ممتد من الثورات
التاريخ المصري، على امتداده الطويل، يبدو لناظره كمائدة محتشدة بالثورات والانتفاضات والهبات الشعبية، بمختلف أنواعها، لدرجة يندر أن يجدها الباحث في تاريخ أي حضارة إنسانية أخرى.
ثار المصريون ضد المحتل الأجنبي، بعد أن أدركوا بفعل الأمر الواقع أن أرضهم، لعوامل طبيعية وجغرافية تضيق هذه المساحة بتعدادها، مطمع لكل قوة عظمى تظهر على خريطة العالم، على مر العصور واختلافها.. وثاروا ضد المستبد المحلي، سواء ارتدى الزي العسكري أو عمامة الشيوخ، فالمصريون الذين كسروا الهكسوس، وطاردوهم حتى حدود الشام، هم من قذفوا بيت الوالي العثماني بالحجارة؛ رافضين حكمه ومن يمثله، وهم من وقفوا خلف \”أحمد عرابي\” في \”ميدان عابدين\”؛ متحديين سلطان \”الخديوي توفيق\” ومن خلفه الاحتلال البريطاني.
بفعل الغضب من التأييد الشعبي الذي يلقاه السيسي وحكمه الاستبدادي، وتأثُّرا بالحزن على الانكسار الوقتي لثورة يناير، ينتزع بعض المحللين مشهد ثورة يناير 2011 من سياقه التاريخي؛ فيجعلونه كأنه استثناء، وليس تجليا وامتدادا لتراكم طويل من النضال الشعبي، الممتد بامتداد حضارة المصريين ووجودهم، ضد الاستبداد بمختلف أنواعه.
لا يدرك من يتهم المصريين بالعبودية وحب الاستبداد، أنه بهذا الطرح يقف في مواجهة حقيقة أن المصريين هم أصحاب أقدم ثورة اجتماعية في التاريخ الإنساني، وهي الثورة التي قامت في نهاية فترة حكم \”الأسرة السادسة\”، في عصر الفراعنة، بعد أن انهار نظام الحكم المركزي الذي أسسه \”مينا\”؛ فانتشرت الفوضى، وتولى الحكم ملوك ضعفاء، تركوا البلاد نهبا للمحتل الأجنبي، وفريسة لانهيار النظام، وتفكك الإدارة، وتفشّي البطالة والفقر.. وكان نتيجة ذلك أن ثار المصريون ثورة هائلة، أساسها هو المطالبة بحقوقهم الاجتماعية، وأهمها حقهم في العمل وحمايتهم من بطش الفقر.
لم يكن لتلك الانتفاضة أيديولوجية معينة توجه بوصلتها، لكن الصبغة الاجتماعية لها بادية دون تمحيص؛ وأثرها على أرض الواقع كان جليا؛ فمع بدء حكم الأسرة الحادية عشرة، وتماسك الحكم الداخلي للبلاد مرة أخرى، ظهر أثر ثورة المصريين جليا في تعاليم الحكماء المصريين للملوك؛ فبعد أن كان حيازة رضا الإله على الملك هو كل ما يشغله، صارت تعاليم الحكماء للملوك المصريين تذكِّرهم بأهمية أن يحوزوا رضا الشعب، ويحققوا في حكمهم العدل والرخاء لشعبهم.
فهل استطاع السيسي أن يمحو آلاف الأعوام من الثورات المتعاقبة، في قرابة العامين؟
كيف استطاع السيسي تطويع المصريين؟
لم يبتكر السيسي جديدا، بل على العكس، بدا منذ الوهلة الأولى أنه ينقل من كتالوج الاستبداد، دون أي تجديد.
أتى السيسي بانقلابه على نظام الإخوان ورئيسهم محمد مرسي، منذ قرابة العامين، في لحظة كان المصريون خلالها قد وصلوا إلى قمة الإنهاك، والنفور من كل القوى السياسية، بعد أن ساءت أحوالهم، وتخبطوا لما يزيد على العامين، بعد رحيل مبارك عن السلطة تحت ضغط الجماهير، وقاسوا الفوضى والفشل على يد المجلس العسكري، الذي تسلَّم السلطة من مبارك، ومن بعده خلال السنة التي حكم خلالها الإخوان، وأبدوا خلالها فشلا في الإدارة، فاقمه عدم تعاون أجهزة الدولة معهم، ورغبة القوى التقليدية، المتحكمة في أوصال الدولة المصرية، في إفشال أول تجربة ديمقراطية تمر بها مصر منذ ما يزيد على الستين عاما.. وبالفعل، استغل السيسي الظرف بالشكل الأمثل، وأتى ليطيح بالتجربة الديمقراطية ويسحقها تحت جنازير الدبابات.. وفي أول انتخابات رئاسية تُجرى بعد الانقلاب، ترشَّح السيسي لمنصب الرئيس، واختاره المصريون، في مشهد بدا عبثيا للغاية؛ فكأنهم ذهبوا لانتخاب السيسي؛ لكي يرتاحوا من هَمّ الاختيار والانتخاب للأبد! أتى السيسي من باب السياسة؛ ليغلقه من بعده على الجميع دونه.
لم يصطف المصريون خلف السيسي مؤيدين؛ لنزعتهم الفطرية نحو الاستبداد؛ فالنزوع للاستبداد أو التحرُّر ليس من الصفات الوراثية التي يتوارثها البشر بالوراثة، بل هي نتاج لامتداد تاريخي طويل، وتاريخ المصريين يقول إنهم أهل ثورات لا يتوقف تدفقها.
واقع الأمر يقول إن السيسي استغل اللحظة التاريخية، حين أدار انقلابه، أحسن استغلال.. استغل أخطاء خصومه، أكثر مما استفاد من مواطن قوته:
استغل السيسي تخبُّط القوى الشبابية، التي كانت وقود الثورة ضد مبارك، وعدم قدرتهم على بلورة خيار سياسي واضح، يمكنهم طرحه على المصريين، وتسويقه في الداخل والخارج، كنموذج ممكن للحكم، بعيدا عن الشعارات البرّاقة والعبارات الثورية الفضفاضة.. كما استغل الخيارات السياسية الضحلة التي تبناها الإخوان المسلمين، بعد الإطاحة بمبارك، والصورة الذهنية شديدة السوء التي صدروها للمصريين، وخاصة جنوحهم للعنف في مواجهة معارضيهم، كما فعلوا عند فضهم لاعتصام \”الاتحادية\” ضد الرئيس الإخواني في ديسمبر 2012؛ فأصبح المصريون على استعداد لتأييد أي قوة تستطيع دحر حكم الإخوان، وإبعادهم عن السلطة، بعد أن زادوا الطين بلة بفشل الإدارة، وتراجُّع الخدمات العامة، وفشل الرئيس الإخواني في تحقيق جُلَّ وعوده الانتخابية.. ومع صعود نجم \”داعش\”، وتصاعد خطرها المحسوس على المستوى الدولي، استطاع السيسي الضغط على المجتمع الدولي، واستمالة الرضا الصهيوني، بورقة التخويف من حكم التيار الديني لمصر، متمثلًا في حكم الإخوان المسلمين، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تعاظم الخطر الداعشي. وفي تلك اللحظة، قدَّم السيسي نفسه للمصريين، وللمجتمع الخارجي، على أنه الطرف الوحيد المؤهل لتحمُّل مسئولية حكم مصر، بعد أن أخفق الجميع وراكموا الفشل.
وحرص السيسي على إخضاع من لم يقتنعوا بأنه الحل والملاذ، في مقابل حكم الإخوان، عن طريق الخوف؛ فمنذ الوهلة الأولى حرص على تصدير صورة شديدة العنف عن نظامه في مواجهة المعارضين، بعد أن قاد مذبحة فض اعتصام ميداني \”رابعة العدوية\” و\”النهضة\”، والتي صنَّفها الخبراء على أنه أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث، ليتبع النظام ذلك بسلسلة طويلة من القمع الممنهج، كانت نتيجته قرابة الثلاثين ألف معتقل، يقبعون الآن في سجون النظام، الذي جرَّم التظاهر السلمي بقانون يكبل حرية التظاهر ولا ينظمها، تحت إشراف جوقة إعلامية، تصفق لكل قرار استبدادي جديد.. عندها، من لم ينصع لتأييد السيسي اقتناعا، سيرضخ خوفا من المصير الذي سيلاقيه إذا جهر بمعارضته.. والقبور والسجون تشهد على مصير الآلاف ممن قرروا الخروج على عصا الطاعة السلطوية.
ما البديل؟
هذا هو السؤال المشكلة! إن جربتَ طرحه على أحد الثوريين في مصر، ستجده، غالبا وللأسف الشديد، في حالة ثورة عارمة، غضبٌ مندفع، وسيبدأ في سب الجميع، وعلى رأسه الشعب الخانع الراضي بالاستبداد.
يبدو حينها هذا الثوري النبيل غير مدرك للحقائق الأوليَّة البسيطة، التي يدركها خصوم الثورة، وعلى رأسها أن الشعوب لا تحيا بالشعارات النبيلة.. لابد من برنامج محدد متماسك، يتبناه طرف سياسي محدد متماسك، يطرح برنامجه على الناس؛ فيرتضوه وينتخبوه، ويرفعونه إلى كراسي السُلطة؛ لتنتقل الثورة عندها من خانة هتافات الشوارع، إلى كونها قرارات وقوانين تُفعَّل على أرض الواقع.
وإن لم يبحث الثوريون في مصر عن إجابة جدية متماسكة لهذا السؤال، الذي يواجهونه بصمت وعجز منذ سقوط مبارك في 2011؛ فعليهم أن يدركوا أن المصريين سييبقون أسرى للمعادلة الجهنمية، التي تقول بإن مصر رهينة بين اختيارين: الحكم العسكري، أو حكم التيارات الدينية.. وعندئذ، ستظل الثورة أسيرة لهتافات الحناجر.