(1)
وجدت أختي الصغيرة جالسة تحدق في شاشة هاتفها النقال, ويبدو عليها الحزن الشديد، سألتها: \”مالك يا سوسو\”، قالت: \” البنات مش راضيين يخرجوا في العيد, بيقولولي هايبقى زحمة أوي وخايفين من التحرش, وأنتي عندك امتحانات, يعني زي كل سنة هاتحبس في البيت في العيد\”.
لم أعرف بما أجيبها, فأنا أيضا أكره بشدة زحمة الأعياد, وإذا كان لا مفر من الخروج, أذهب دائما للجلوس بأي مقهي برجوازي مُتعفن عملا بالمثل الشعبي \”هين قرشك ولا تهين نفسك\”, مُبررة لنفسي خطيئة دفع عشرين جنيها كاملة في كوب من الكابيتشينو غير اللذيذ, مُقنعة قلبي أن لدي في هذا عذرا قويا, فأنا لا أستطيع أن أتحمل المواصلات بضوضائها ومتحرشيها في الأيام العادية, أُحس دائما بأنني مُطالبة ببذل جهد عصبي وعضلي وعقلي ونفسي كبير، فقط لكي أسير في الطريق, فما بالكم بالأعياد؟!
تشبه الأعياد في مصر إلى حد كبير موسم التزواج عند الكلاب, ففي الوقت الذي يخرج الكلب الذكر بحثا عن أنثى للتزواج, يخرج الشباب المصري بحثا عن أنثى للتحرش بها.
وفي حقيقة الأمر، لقد بحثت كثيرا عن سبب ارتباط الأعياد في مصر بالتحرش, لكني لم أجد سببا محددا, وأعتقد أنني لن أجد بالطبع! فكيف يمكنك أن تقف على أسباب علمية وواقعية لظاهرة يعتبرها البعض نوع من أنواع الترفيه عن النفس رغم سلبيتها!
لا تستغرب عزيزي القارئ, ففي مصر يُعد الخروج للتحرش بالفتيات في العيد نزهة في حد ذاته, نعم .. فقد سمعت هذا بأذناي في الترام من مجموعة من الشباب حديثي السن أكبرهم 17 عاما! كان هو العقل المدبر, يُحلق حوله أصدقائه الصغار الذين لم تغزو الشوارب وجوههم بعد, وهو يشرح لهم الخطة ويخاطبهم بحماس وحذر نبيل الحلفاوي أثناء تفكيكه للعسلية في فيلم \”الطريق إلى إيلات\”، قائلا: \”إحنا هاننزل محطة سان ستيفانو.. وهناك هنلاقي بنات مزز فشخ.. مش هانعرف ندخل عشان الأمن.. هانوقف برة واللي تعجبنا نستلمها\”.
فغرت فاهي وأتسعت مقلتاي عن آخرهما, عقدت المفاجأة لساني عن الكلام, نظرت إليه شذرا في محاولة لإخافته، فنظر إلي استخفافا, ومن يومها و أنا الجأ إلى المكوث في بيتي في العيد عزيزة مُكرمة وأحمد الله كلما استطعت إلى ذلك سبيلا!
(2)
قرأت منذ بضع أيام خبرا في الجرائد الرسمية عن تفعيل جهاز للشرطة النسائية وتسليحه بأسلحة خفيفة تُمكنه من أداء مهمته التي تكون من أجلها.. ألا وهي ردع المتحرشين.
صرحت العقيد منال عاطف مسؤولة قسم العنف ضد المرأة بوزارة الداخلية ورئيس جهاز الشرطة النسائية أنهم يستعدون بقوة لـ \”موسم التحرش\” هذا العيد وأن \”اللي هايقول لبنت \”يا مزة\” في العيد، هياخد سنة سجن\” وبأن الجهاز سيقوم بـ \”الانتشار المُكثف لمواجهة العنف ضد المرأة\”.
أحسست بسعادة غامرة, ليس فقط لأنه إذا تم تفعيل هذا الجهاز بطريقة صحيحة، ستكون هذه أول خطوة للوقوف على طريق محاربة التحرش, لكن لأن العقيد منال أضافت أن \”ملابس الفتيات ليس لها علاقة بالتحرش\”, وهذا يُثبت نمو وعي الجهاز وإيمانه بأن الفتاة ليست سببا في التحرش وأن الملابس ليست إلا مبررا خسيسا له.
كما أن في تصريحها دلالة على اعتبار كلمة \”مزة\” تحرش لفظي, ليست كما تُجملها ثقافة الشارع المصري – إذا افترضنا أن له ثقافة- وتُضفي عليها صفة \”المعاكسة\” أو \”المجاملة\”, والتي تجعل المتحرش الذي يستخدم هذا النوع من التحرش اللفظي على شاكلة \”اللهم صلي عالنبى\” \”وتكة\” \”بطل\” \”وحش\” \”بكابوزة\” \”اللهم إني صائم\”, يؤمن بأنه لا يتحرش من الأساس, وأن من حقه أن يُعلق على جسد أي امرأة تسير أمامه ويبدي رأيه غير المرغوب فيه فيها, سواء سلبا أو إيجابا!
كما زادت سعادتي لأن هذا يعد أول تحرُك جدي من الحكومة في مواجهة التحرش بعد أن كانت مكافحته مقصورة على الحركات التطوعية والمنظمات المدنية والنشاطات النسوية مثل حركة \”شوفت تحرش\” و\”لا للتحرش\”, وهذا يعني بدء إحساس الدولة بأهمية المواجهة وبخطر الظاهرة وتفاقمها في شوارع مصر, وبالرغم من أن تصرف الدولة جاء مُتأخرا تأخر هجوم الشرطة على وكر المجرمين في الأفلام المصرية القديمة, بعد أن يكون البطل قد تلقى وابلا من الضربات, إلا أنه لا يمكننا أن نغفل أن مشوار الألف ميل قد بدأ.
(3)
تخيل معي عزيزي القارئ لو أن كل فتيات ونساء مصر امتنعن عن الخروج في العيد خوفا من التحرش, فلا يوجد بالشارع ولا سيدة واحدة, هل تظن أن التحرش سيختفى؟ هل تظن الشارع سيصبح أكثر هدوءً وأقل شغبا؟
لا أظن هذا مطلقا, بل سيزداد معدل الشغب والصخب, ستصبح لغة الشارع الأولى السُباب, وستزداد الدموية وتتفاقم مظاهر العنف, سُيظلم الشارع المصري ويصبح أكثر سوداوية وكآبة, أتدري لماذا؟
لأن المرأة ليست سببا في كل العنف المتواجد في الشارع المصرى, بل ثقافة الشارع نفسها هي السبب, فهو ذو ثقافة غوغائية تقوم على عدم احترام الغير والرغبة في الإيذاء بكل السبل الممكنة لمجرد الإيذاء! وإلا ما سبب عنف الأطفال مع حيوانات الشوارع؟ وما سر تحرش الناس بأطفال الشوارع؟َ بل وتحرش أطفال الشوارع ببعضهم البعض؟َ! ما سر رغبة الرجل المصري المُلحة في الانخراط في أي عراك يراه سواء طرفا أو مشاهدا مهللا؟! إن العنف متأصل بنا وفينا, نحن شعب اخترع السُباب بالكلاكس يا جماعة!
لم أؤمن قط أن التحرش سببه في المقام الأول الجوع الجنسي رغم تيقني بأن هذا الجوع قد نال منا رجالا ونساء, وذلك بسبب رصدي لبعض أنواع التحرش غير الجنسى, نعم, فقد ظهرت أنواع جمة من التحرش التي لا تحقق أي إشباع جنسى, وإلا أخبرني عزيزي القارئ ما سر الاستمتاع الجنسي في أن يشوه رجل مؤخرة امرأة بـ \”مية نار\” ؟ وما الغرض من التحرش إذا كان قائما على السباب أو الانتقاص من شكل أو ملبس أو وزن امرأة؟ وما الممتع في ركوب عربة السيدات في المترو أو الترام؟! ما هو السبب وراء كل هذه السلوكيات إن لم تكن الرغبة في الإيذاء وتعويض الإحساس بالنقص وممارسة الرجولة الضائعة على كائن آخر يتوسم فيه المُتحرش كائنا ضعيفا، هي الأسباب الحقيقية؟!
لا أعرف لماذا لا يفكر مبررو التحرش في كل هذه الأشياء, ولا أعرف سر إصرارهم على ربط ظاهرة التحرش بملابس المرأة, لا أعرف ما الذي ينتظرونه لكي يفيقوا؟ّ! ألم يزلزل كيانهم مصير عروس النيل المُنتحرة هروبا من التحرش؟ ألهذه الدرجة تعمى عيونهم عن رؤية الحقيقة؟!
(4)
\”حياة\”.. امرأة عادية الجمال, مختمرة, متوسطة الحال, متزوجة و لديها طفلان،
تتعرض للتحرش يوميا أثناء عودتها للمنزل ولا تحكي لأحد ولا تحاول حتى الدفاع عن نفسها خوفا من الشارع ومن الناس.
بدأت بوادر المرض النفسي تظهر على \”حياة\” حين كانت تتحدث مع نفسها وتغمغم بكلام غير مفهوم كثيرا, وتحبس أطفالها بالمنزل, لم ينتبه أحد ممن حولها لما تعاني منه, ظنوها مجرد سيدة مصرية نكدية مثلها مثل غيرها.
في يوما من الأيام , عادت حياة من الخارج بعد أن تعرضت لتحرش مقزز في الميكروباص, أعدت طعاما شهيا لها ولعائلتها, طعاما مسمما, وتناولته معهم مبتسمة.
مات أطفالها وزوجها, وظلت هي على قيد الحياة, يدمرها إحساسها بالذنب والوحدة، وتلتهمها الأمراض النفسية والانهيارات العصبية في \”سجن النسا\”.
قصة حياة، هي جزء من مسلسل \”سجن النسا\”.. نموذج حقيقي لما تعيشه المرأة في الشارع المصري, لا تظنوا أنها قصة مبالغ فيها أو غير واقعية, بل حقيقية للغاية, تمتلأ شوارعنا بمثيلاتها, وبتبريركم للتحرش تساعدون على زيادتهن.
اتمنى أن يتعمق دور الشرطة النسائية ويمتد لما بعد العيد, وألا تقتصر مكافحة العنف الجنسي على مواسم الأعياد فقط, أتمنى أن يبدأ الناس في نبذ فكرة أن المرأة هي سبب التحرش بملابسها.. أتمنى أن نبدأ في رؤية الحقيقة بعيون واسعة.. كفانا دفنا لرؤوسنا في الرمال.
(5)
اعترف أنني اخطأت حين ظننت المكوث في المنزل حماية وأمان, حين فكرت في الأمر، وجدت أن هذا ما هو إلا خذلان مني وانتصار لهم , وإذا كانوا يحاولون سلب حقي في الخروج والعمل والتنزه والغناء والرقص والحياة, فالحقوق تُنتزع.
أعدك يا عزيزتي سوسو، ألا نمكث في البيت في العيد بعد اليوم, إلا هذا العيد، لأنه يعقبه امتحانات الدبلوما النهائية, لكن منذ العام المقبل سنخرج سويا ونذهب إلى أي مكان تريدينه , وإذا حاول أي ذكر أن يتحرش بنا، سأسلم عليه بحذائي.
أخرجن يا بنات.. أخرجن وأمرحن وأحببن الحياة, لا تدعوهم يسرقون فرحة أعينكن, أشترين البالونات وغنين وسرن في مجموعات ضاحكات بصوت عال.. أضحكن، فالضحكة تهون أي جراح.