وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (9)

هل تعرفون ما هي البارانويا؟ يمكننا أن نلخصها في ثلاث عبارات:

1- أنا بخير وأنت لست كذلك.

2- أنا رائع وعظيم ومتميز وأنت تضطهدني لأنني كذلك.

3- أنت تؤذيني فقط لأنني أنا.

عندما تجتمع هذه العبارات الثلاث في تفسير علاقة عدائية أو فعل عدواني من طرف \”أجنبي\” ضد طرف \”عربي/إسلامي/مصري\” فإعلموا أننا أمام حالة بارانويا تاريخية!

……….

القارئون باستفاضة في التاريخ السياسي، والمتابعون لعالم السياسة، والدارسون للعلوم السياسية، كل هؤلاء يدركون بسهولة أن سياسات وسلوك ومواقف الدول والأنظمة إنما تحركها في الأساس المصالح.. سواء كانت مصالح شخصية للأفراد الذين يترأسون النظام الحاكم أو المؤثرون في سياساته أو كانت المصالح العامة لهذا النظام ودولته.

أما فكرة أن يقرر هذا النظام أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك مناصبة دولة/نظام العداء فقط لأنها \”شكلها مش عاجبه\” فهي فكرة شديدة السذاجة والسطحية.. نحن هنا نتحدث عن سياسات توضع وحشد شعبي وتحركات دبلوماسية أو عسكرية ومخابراتية وحرب إعلامية ومليارات تُدفَع هنا وهناك، واتفاقات تُبرَم وضغوط تُمارَس.. يصعب أن أتقبل أن يكون المحرك لكل ذلك مجرد بعض العواطف والمشاعر و\”النفسنة\”.. هو أمر يليق بمشاجرات الحواري أو جرائم الثأر لكنه لا يناسب السياسات الدولة لا قديما ولا حديثًا.

صحيح أن المعنويات والعواطف قد تُستَخدَم كذرائع ظاهرية أو كأدوات لحشد الجماهير وتحريكها، لكن تبقى المصلحة هي المحرك الرئيسي.

……….

فلنأخذ نموذجا للحالة موضوع هذا المقال تفسيرات البعض -البعض الكثير للأسف- لمختلف الاعتداءات على المشرق الإسلامي منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم.. مبدئيا فإن هذا البعض العبقري قد قرر أن يلقي جانبا كل كتب التاريخ وتحليلات المؤرخين وتتبعاتهم للأحداث والمعطيات، واتخذ صنمه تفسيرا حصريا يرضي غروره \”إنهم يعادوننا لأنهم يكرهون الإسلام والمسلمين ولا يريدون للإسلام أن ينتشر\”!

دعونا نحسبها.. 8 حملات صليبية.. هجمات متفرقة للفرنجة من قواعدهم في قبرص ورودس ضد سواحل بيروت وعكا ويافا ودمياط والإسكندرية.. الحملة الفرنسية على مصر والشام.. حملة فريزر 1807م.. احتلال فرنسا للمغرب العربي والشام وإنجلترا لمصر والسودان.. سايكس بيكو.. العدوان الثلاثي.. دعم إسرائيل.. غزو العراق.. حسنا.. الآن يمكننا أن نقوم بإحراق كل الكتابات التي تناولت هذه الأحداث الضخمة باعتبار أنها مجرد هراء طالما أن لدينا التفسير الجاهز: إنهم يكرهوننا فقط لأننا نحن!

بحق الله.. إن القاريء المتمعن في كل هذه الموضوعات السابقة يمكنه بمجهود بسيط أن يدرك الدور الضخم لـ \”المصالح\” في الأمر، فالحملات المسماة بـ \”الصليبية\” قامت أساسا طمعا من الأمراء في خيرات الشرق، ومن البابا في السيطرة على الكنيسة الأرثوذكسية والتخلص من الأمراء المحاربين المشاغبين بنقل \”قلقهم\” لأرض أخرى، ومن التجار في فتح أسواق جديدة، ومن العوام في البحث عن حظهم في الرزق في مكان آخر والتخلص من العبودية للسادة الإقطاعيين..  وهجمات الفرنجة كانت مجرد حركات قرصنة لم يميزوا فيها بين مسلم ومسيحي ويهودي.. الحملة الفرنسية كانت حلقة في سلسلة الصراع البريطاني الفرنسي على طريق الهند.. الاستعمار الغربي للشرق لم تكن له أية صبغات دينية بل كان بأهداف اقتصادية في المقام الأول.. ماذا عن إسرائيل؟ هو مجرد دعم لدولة وظيفية خادمة مصالح ولا علاقة له بالدين.. وضرب العراق؟ ألم تسمع عن اختراع اسمه البترول؟ هذا السائل الأسود له قيمة تجعل الدول الكبرى تتصارع على السيطرة على مناطق انتاجه.

ثم لو أن التحركات العدوانية من \”الغرب\” تقاس بالدين.. فبما تفسر قيام إحدى الحملات الصليبية بترك الشام والتوجه لاحتلال بيزنطة المسيحية وإسقاط نظامها وإقامة نظام لاتيني أوروبي؟ لماذا تبادلت سفن إسبانيا وإنجلترا هجمات القرصنة بعضها على البعض في القرون الوسطى؟ لماذا غزا هنري الثامن فرنسا؟ لماذا أسر ملك النمسا ريتشارد قلب الأسد وهو عائد من الشرق؟ ما سبب محاربة الباباوية في روما لآل هوهنشتاوفن الذين حكموا ألمانيا وصقلية بقيادة فريدريك الثامن؟ ماذا عن العصر الحديث؟ لماذا غزا هتلر نصف أوروبا؟ هل اليابانيون مسلمون؟ لماذا إذن ضربتهم أمريكا بقنبلتين ذريتين؟ ماذا عن الحرب الباردة؟ وماذا عن قصف أمريكا لصربيا في التسعينيات؟ هل تعلم حجم الأعمال \”العدائية\” الاستخباراتية الأمريكية في أمريكا اللاتينية المسماة من صقور الإدارة الأمريكية بـ \”الساحة الخلفية\”؟

ما دور الدين في كل ذلك؟ تقريبا لا شيء.

بل يمكنني أن أقول باطمئنان أن حتى كفار قريش وهم يحاربون الرسول محمد ومن معه لم يكن الدين شاغلهم الأول بقدر ما كانت تجارتهم ونظامهم الطبقي ومكانتهم في السلطة هي الشغل الشاغل!

……….

ما الهدف من نشر حالة البارانويا هذه؟

أقول لكم.. ببساطة فإن من يزرع مثل تلك الأفكار إنما يبث رسالة ضمنية للمتلقي مفادها هو: \”نحن لا نحتاج أن نكون منافسين أقوياء للآخر ليدخل معنا في علاقة خصومة أو عداء، يكفي أن نكون \”نحن\”، فلا داعي إذن لأن نبذل الجهد لنلحق بالركب أو أن نسعى للتطوير من أنفسنا.. ولا تنظر لكم التقدم الذي حققه هؤلاء فهم قوم عجّل الله لهم حسناتهم في الدنيا بينما ادّخر لنا الآخرة\”.

طبعا هذه الرسالة هي جزء من\”برنامج\” كامل غير متفق عليه مثبت ضمنيا في عقلية هؤلاء القوم.. فعندما يشعرون بالعجز عن التعايش مع محيطهم بسبب التقدم والتطور والانفتاح الثقافي والذهني وتعدد المواهب، وإدراكهم في ذات الوقت قصور مواهبهم وتعطلها وانخفاض فرصهم في الصمود أمام منافسة الآخرين، فإن الحل يكون تثبيط عزائم هؤلاء المنافسون من خلال استخدام أسلحة التحريم والتشدد والانغلاق.. وكيلا يشعر المتلقي بمدى تخلفه عن العالم، فإن الحل هو إقناعه أن العالم كله يكرهنا وأننا \”الغرباء\” في هذا العصر وأن كل ما يقدمه غير المسلم من تقدم وتطور وتحضر إنما هو من قبيل \”السعي الضال في الحياة الدنيا\” لأنهم ليسوا مسلمين.

طبعا قِس على ذلك المثال تفسيرات بعض المنتمون لأفكار أخرى لنفس الأفعال من الآخر.. بين قائل بأنها \”نتيجة عداء القوى الرجعية للحركات التقدمية وكفاح الشعوب الكادحة إلخ إلخ..\” ومفسر بأنها \”إنهم يكرهون العرب ويخشون اتحادهم\” أو منادٍ بـ \”إن مصر مستهدفة منذ فجر التاريخ .. لأنها مصرررررررر!\” إلى آخر هذا الهراء المنفصل عن الواقع! وباسم هذا الهراء يمكنك كمتطرف أن تصبح مجاهدا أو كطاغية أن تصبح حاميا للدولة أو كمشروع مثقف وفشل، أن تصبح العلامة الفذ صاحب الرأي.

هل فهمتم لماذا يبذل البعض كل هذا الجهد لأجل بث فكرة البارانويا التاريخية؟

……….

ولأن \”عرض\” البارانويا لا يأتي وحده، فإنه عادة ما يصطحب معه فكرة مريضة أخرى تقول ببساطة: \”نحن مركز الكون.. والأحداث كلها تتمحور حولنا!\”

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top