كان نهارا قائظا من رمضان، وكانت زوجتي في الإسكندرية في زيارة خاطفة وأنا رهين عملي حتى موعد الإفطار.. لابد من التنطع على محلات التيك أواي محاولا الرضا بما يقدمونه من طعام سيء دون أن أفرغ معدتي، لا مفر!
لا يسع هذا المحل للزبائن الجالسين وأصحاب الطلبات الخارجية أيضا, يهتم بمن يجلس على مائدته أولا ثم يكون أي شئ, لا يهم, سأطلب نصف دجاجة مشوية وأقضم أظافري واقفا على الرصيف الأسمنتي اللزج, هي دقائق لن تزيد ثم أمضي لسيارتي وبيتي المريح, اعتقدت هذا.
طال الوقت قليلا, فتشاغلت بالنظر لسيارتي, ومن يستند عليها بأريحية مزعجة ويعتلي مؤخرتها بحب زائد, هذا الحب الذي يترك آثارا انبعاجية تلازمني فترة طويلة.. ابتسمت ابتسامة صفراء منتشية, وقررت الذهاب لموضع سيارتي وممارسة القليل من الهراء من عينة \”يا كابتن عيب كده يعني! لو دي عربيتك ترضى حد يعملك كده؟\”, ثم أصمتُ, وأنظر إليه بقسوة متعمدة, لأجمع نصيبي المستحق من عبارات الأسف المطاطة, التي لا يعنيها ولا يقصد بها شيئا إلا أن يملأ فراغ رحيله مسرعا عن صاحب السيارة، ويبدو أن استغراقي في هذا الخاطر الشرير قد طال, فأعدت النظر ولم أجد أحدا بالقرب منها, وأحسست أن القدر يبخل علي بالتافه اليسير من الملذات الإنسانية: الصراخ في وجه إنسان آخر يعلم أنك عليى حق، وراقبت سيارتي متوعدا من يقترب منها.. لن تفلت مني هذه المتعة الصغيرة, أنا أستحقها.
دقيقتان أخريتان مضتا, وانطلق الآذان، ولم يجهز طلبي البائس من أروقة المطعم الشهير, ولم يقترب أحد من سيارتي, وفكرت مليا أن أذهب لأحضر طباخا من داخل المطعم لأجلسه عنوة على صفيح سيارتي حتى ينثني تحت وطأ مؤخرته السمينة, ثم أكيل له اللكمات والسباب كيفما اتفق.
فتاة بسيطة هي, قدرت أنها رقيقة كزهرة رغم المسافة.. اقتربت من سيارتي بهدوء ثم وضعت حقيبتها عليها برفق بالغ, كأنما تستأذنها قبل أن تطبع على جبينها قبلة حياة, ثم ثنت طرف فستانها الشمعي ووقفت تتناول بسكويتا هشا كيديها، وقدرت أيضا أنها لم تفارق سنواتها الجامعية بعد, وأنها متوسطة الحال من بيت طيب.. لم تمض دقيقة أخرى من عمرها, حتى اقترب هو.. لا يختلف عنها كثيرا, سوى أنه لا يلف إيشاربا حريريا حول رأسه, ولا تفوح منه رائحة الزهور تلك.. لا أدر لما لم تتصافح أياديهما عند اللقاء؟! لكن بدا أنها خجلى أو أن القدر لم ينسج في هذه القصة الكثير, لكن عينيها صافحته, ثم صافحت قميصه وشعره الخشن وعطره الرخيص, فابتسم وجاورها على ظهر سيارتي التعسة.
عندما نظرت لساعتي, وجدت عقربها قد التهم نصف وجبته الدائرية, وفتاتي تحدث فتاها بلعثمة محببة متطلعة إلى أرض الشارع الواسعة.. لم أكن لأتمكن من سماع ما قالت, لكن عوالم \”معلش أنا اتأخرت لازم أمشي\” لم تكن بعيدة بحال عن مشهد كهذا.
ومضت هي, وطالعها بعينيه حتى توارت, ثم عبر هو الشارع قفزا كسنجاب سعيد إلى الرصيف المقابل, فقررت المضي إلى سيارتي والذهاب، وجمعت ما تبقى من وجبتي بيد ملوثة لألقيها في أقرب سلة قمامة!
وجبة شهية كانت أو هكذا أحسست, رغم أنني قضيتها فوق رصيف شارعٍ مزدحم مراقبا سيارتي, معتليا سطح سيارة أخرى، لم يأت صاحبها بعد للصراخ في وجهي.