يكتسب القرار المصيري مصيريته بعد مرور ردح من الزمان، ساعتها يبدو الإنسان وكأنه كان ملهما وحكيما وقادرا على الرؤية المستقبلية في ذلك الماضي البعيد، بينما لم تكن أي من تلك الظروف الراهنة واضحة. لكن الحقيقة أن الإنسان إنما يتخذ قراره المصيري بشكل أقرب للعشوائية ورد الفعل اللحظي وبسبب ظروف قد تكون في أحيان كثيرة ساذجة مضحكة. ما يكسب القرار قيمته ووجاهته فيما بعد هو الطريق وقدرة الإنسان على الحركة، وعلى التعامل مع المتغيرات المختلفة، ويبدو الزمن في تعامله مع القرارات “السليمة” أو “المناسبة” وكأنه يصقلها ويزيدها قيمة ورسوخا، بينما يبدو شديد القسوة مع القرارات “الرديئة” و”غير المناسبة”، فتصبح تلك القرارات دافعا للندم والحسرة التي لا تجدي مع الزمن شيئا، فقسوة الزمن إنما تأتي من حركته الأبدية في اتجاه واحد فقط. أكتب تلك الكلمات، وقد امتلأت مواقع التواصل وقنوات الإعلام بأخبار الفنان القدير عمر الشريف الذي تبدو حياته مرتعا خصبا للتكهنات والتأويلات والتنظيرات التي لا تنتهي عند حدود قدراته التمثيلية، ووزنه العالمي بل تتخطاها إلى حياته الشخصية، التي يرسمها البعض برومانسية شديدة تحيد بها عن الحقيقة ويشوهها البعض الآخر بواقعية تفقدها قيمتها الإنسانية.
إن ما يميّز حضاراتنا الزراعية ارتباطنا بالأرض، بالجذور، بالجغرافيا والتاريخ، فالجذور هنا ضاربة في العمق مما يقلص قدرتنا على الحركة الأفقية في المكان، ودائما ما يمكنك أن تبحث عن شخص ما من عائلة ما بعد مرور عقد من الزمان في نفس المكان الذي تركته فيه، وحتى لو كان ذلك الشخص قد رحل عن المكان، فإن أحدا سوف يدلك على مكانه من أقربائه أو جيرانه أو من عرفوه أو يعرفونه، بينما في حضارة جديدة مثل الحضارة الأمريكية قد تعجز عن ذلك بالكامل، فالجذور هناك ليست ضاربة في العمق كي تمنع الحركة الأفقية، ومع أن الاستقرار والارتباط بالتقاليد والموروث الثقافي في الحضارات الزراعية يمثّل الأساس لتكوين الإنسان، إلا أنه يمنعه في الوقت نفسه من الحركة بحرية، وخوض آفاق جديدة بسرعة، وسبر أغوار عوالم وحضارات وثقافات أخرى. في حين أن الحركة الحرة في الحضارات الجديدة تمنع عن الإنسان ذلك البعد الثقافي العميق الذي يجعل لكل إنسان، ولكل مجتمع، ولكل شارع وكل حارة نكهة مختلفة عن غيرها. فعلى سبيل المثال تبدو الشوارع الأمريكية في مدينة نيويورك جامدة جافة بأرقامها التي تتدرج عدديا، بينما تكفي الإشارة إلى ميدان طلعت حرب، أو قهوة الجمالية لتستدعي زخما هائلا من العواطف والذكريات، يعجز عن حمله رقم الشارع ٤٢ في نيويورك. لكن شارع ٤٢ في نيويورك يلي شارع ٤١ وقبله شارع ٤٠ مما يسهّل عملية البحث وأغراض التنسيق والتخطيط.
حينما اتخذ ميشيل ديمتري شلهوب (عمر الشريف) قراره بالتخلي عن ديانته من أجل الحب، كانت تلك أولى علامات الكوزموبوليتانية (الكوكبية) وعدم ارتباطه الشديد بالجذور مقابل بحثه عن قيم أعمق ودائرة أوسع من التجارب الإنسانية، كان ذلك أيضا ما فعله في انفصاله عن عائلته حينما أصبح الخروج من مصر صعبا في الستينيات، حسم عمر الشريف الخيار بين البقاء في مصر والرحيل إلى المجهول بالانحياز إلى المجهول، يبدو هذا القرار مصيريا صعبا، لكنه فيما أظن لم يكن يحمل في وقتها سوى الانتظار لظروف أفضل، تحسن للأوضاع، مواقف مختلفة من زوايا مختلفة لقضايا القومية العربية، الصراع العربي الإسرائيلي، التقارب المصري السوڤييتي، الحرب، شخصية عبد الناصر.. كان الهم العام يتقاطع مع مصير الفنان الذي يتمتع بذاتية ضرورية ونرجسية طبيعية هما مقومات عمله. تحدث عمر الشريف اللغات الفرنسية واليونانية والإيطالية والإسبانية إلى جانب العربية، وكان لاعبا محترفا للبريدچ ليصبح في وقت من الأوقات أحد أهم خمسين لاعبا في اللعبة، يكتب مقالا في “تشيكاغو تريبيون” لعدد من السنوات، كانت تلك حركته الأفقية التي تركت جذورها منذ زمن بعيد. كانت النداهة المصيرية في حياة عمر الشريف هي البريدچ، غريزة المقامرة، ذلك الشيطان الممتع المرعب في آن واحد، تلك الرغبة “شبه الجنسية” التي تسيطر على الإنسان فتشل عقله، ذلك الأمل المتحرك دائما نحو الفرصة الضخمة البديعة الهائلة التي سوف تأتي في الثانية القادمة.. في الدقيقة القادمة.. غدا أو بعد غد.. من منا لا يقامر؟
إنها صراع الزمن، صراع المجهول، صراع الفضول أمام ورقة اللعب القادمة، ربما صراع الطاقة والتأثير على المستقبل، وربما الإيمان الشديد بالحظ الذي سوف يأتي حتما، عالم مدهش من المشاعر استقطب عمر الشريف، فجعل العالم يبدو بالنسبة له موازيا، أصبح سحر الجنس والنساء ذات قيمة متواضعة أمام ذلك الوحش البديع، وأصبحت الحياة مرتبطة بطاولات القمار، أصبح سحر الخمر متواضعا أمام سحر القاعة التي ينتشي المقامر بمجرد أن يشتم رائحتها، بل أصبحت الحياة برمتها مقامرة، وأصبح القمار حياة.. لكن فلنفكر قليلا! أليست تلك هي الحياة، وهذه هي حقيقة الوجود بأكمله؟
قامر عمر الشريف بحياته كاملة، انتزع عمر الشريف جذوره ليتحرك أفقيا، وتحرك في دائرة قطرها العالم بأكمله، ونطاقها الثقافة الإنسانية العامة وحينما عاد للبحث عن تلك الجذور فاجأته الحقيقة القاسية أنك لا تتمكن من زرع الجذور سوى مرة واحدة فقط، لكن يظل ما رآه عمر الشريف في حياته، ودفع حياته بأكملها ثمنا له لا يقدر بثمن.. لقد نال عمر الشريف كل الأشياء: نال الشهرة والمجد والمال والتقدير الفني الرصين.. نال الفن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفقد مقابله الحياة بمعناها التقليدي، أحرق كافة سفنه من أجل سبر أغوار المجهول، فأصبحت تجربته الغنية تجربة إنسانية واسعة شاملة عامة ملكا لكل البشر في كل الأماكن، ولم يعد من المهم أن نسأل: من عمر الشريف؟ أين جذوره؟ عمر الشريف إنسان.. إنسان وكفى.