أحمد ماجد يكتب: طبقة الأحصنة العجوز

منذ أيام قليلة وأنا ابحث عن قصة حكاها لي أحد الاصدقاء وكان كاتبها تولستوي، صاحب ملحمة الحرب والسلام الروائية.

هذه القصة –أو الرواية القصيرة كما يُطلق عليها- هي \”الذراع\” أو \”حكاية حصان\” والتي تحكي لنا قصة حياة حصان مسن في أحد الإسطبلات والذي يضايقه شباب جنسه، حتى تتعرف عليه فرس عجوز لها شأنها بالمزرعة ليلتف حوله من كانوا يضايقونه إبتغاء لمعرفة قصة حياته.

ليحكي لهم عن ماضيه وكيف عاش حياته تنقلا من مالك لمالك، أنا حقا لا اتذكر كيف انتهت القصة نفسها كما كتبها الكاتب وحكاها لي صديقي المذكور لتداخل الأحداث، لكن ما أتذكره أن من ضمن مُلاكِه شخص يهوى السباقات والرهان على الأحصنة الفائزة، وكان يعلم أن حصانه –بطل الرواية- من أسرع الأحصنة الموجودة، بل يعتبر الأفضل في روسيا! لذلك ربطه بعربة مُحملة بالأغراض الثقيلة ليسابق بها وليفُز على باقي الأحصنة الحرة وهو مُحمّل حتى!

مما أدى لتعرض الحصان لإصابات برجليه، ليبيعه صاحبه بعدما استنفذ قوته كاملة، وليمُت في النهاية بعد الخصيّ وتدهور سنه برصاصة الرحمة.

أم أن النهاية كانت تنقله من مالك لمالك حتى تم بيعه لصاحب تلك المزرعة والتي لم يجد له مشتر، فبعد فترة قرر أن يرحمه من بؤسه بنفس الرصاصة.

أيا كانت النهاية التي ذكرها تولستوي، فهي نهاية لا تعبر عن معاناة الحيوان فقط، بل معاناة طبقة كاملة تحاول أن تبذل قصارى جهدها لتستحق لقب الطبقة التي تعلوها، فينتهي أفرادها مستنزفين ممن يعلونهم.

وهذا ما كنت أتناقش فيه مع صديق آخر، كيف أن هذه الطبقة التي حُشرت في منتصف الهرم هي الطبقة المظلومة في الهرم كله، فلا منها تأقلمت مع فتات الخبز التي يلقيها من هم بأعلى الهرم، ولا هم يلقون الخبز لأنهم لا يجدونه أغلب الوقت!

كواحد من أبناء هذه الطبقة يمكنني القول بإن الهدف الأسمى الذي يعيش من أجله اخوتي من نفس السلم الهرمي، هو أن يجدوا نفسهم بعد سنوات عدة ممن يرمون فتات الخبز لمن هم أقل منهم، أو أن يحافظوا على مستواهم هذا دون السقوط في قاع الهرم على الاقل حتى يسلموا الراية لأبنائهم الذين يأملون أن يرتفعوا باسم العائلة.

لذلك تجد العديد ممن يلجأ للاغتراب ليصبح ضيف شرف بالنسبة لعائلته وزوجته، أو من يربي أطفاله منذ الصغر ليرتادوا إحدى الكليات العسكرية، لا لشيء إلا ليجدوا وظيفة بعد التخرج يستطيعون من خلالها تحقيق الطموح السيزيفي الأعظم، أي امتلاك الشقة والزواج والمنصب الإجتماعي الذي يضمن انجاز كل المصالح في دقائق.

أما لمن يقرر أن يسبح عكس هذا التيار، يجد نفسه يُرجم بكلام مثل أن هذه الاحلام ليست لنا، أو \”متنساش إنت ابن مين\” أو أنك ستعيش فقيرا حتى الموت، وأن الهدف الرئيسي هنا في الحياة هو العثور على أي وظيفة تضمن لك الزواج لتأتي بأطفال ينضمون فيما بعد لصفوف الأحياء الأموات.

لكن حينما يصل فرد الطبقة المتوسطة للطبقة التي تعلوها هنا –في رأيي- سيواجه مشكلة أخرى، وهي مشكلة \”الأصل\”، فلن يكفيه أن يشقى طوال عمره ليصل لمرحلة من الثراء حتى وإن كانت تضمن له أنه سيموت قبل أن يعدّ أولاده المال الذي جناه، بل عليه أن يختلق أصلا له حتى يلقى قبول هو وأسرته وسط الطبقة الضيقة التي تقع في رأس الهرم.

وهذا يذكرني بكتاب “The Great Gatsby” الذي حُوِّل لفيلمين إن لم تخني الذاكرة، آخرهما كان إنتاج 2013 بطولة ديكابريو، والذي يجسد فيه شخصية جيتسبي الفتى الفقير الذي يختفي لسنوات ليعود غنيا، فيبحث عن الفتاة التي عشقها ليجدها متزوجة، فيحاول استعادة قلبها، ليقابله فشله بسبب أنه لا أصل له، حتى وإن كان أغنى من الجميع الآن وهذا يُترجم بكل معانيه في جملة قيلت له \”إن هذا شيء في الدماء، فدمائنا غير دمائك، حتى وإن حاولت أن تصبح واحدا منا\”.

لذلك أظن أنه بعد الوصول لرأس الهرم ستحتاج لعملية نقل دم أو شراء أصل جديد لك أو تزويج أحد ابنائك أو بناتك لأحد سكان هذه المنطقة من الهرم القدامى.

وهذا ما يأخذنا لمنظومة الزواج، وهي أكثر تعقيدا في هذه الطبقة إن لم تكن تعرف، هذا لأنك إن كنت من سكان الطبقة العليا لن تعرف معنى الجمعيات والضائقة المالية و\”لازمة النيش إيه\” وأن تدان من أجل حجز قاعة الأفراح، أما إن كنت ممن ألقى بهم القدر في القاع، ستجد أن الزواج مقتصر على الحماية والعِشة أو الشقة الصغيرة التي ستقضي بها المتبقي من عمرك أو تلك الغرفة في شقة أحد الأهالي لتنتهي المشكلة على ذلك.

حسنا، إن كنت تريد أن تعرف ما هو أكبر عيب في الطبقة المتوسطة، تخيلها مثل الغراب الذي لا تعجبه مشيته، فحينما قرر أن يقلد مشية العصفور فشل، وحينما قرر تقليد مشية الطاووس لم يحالفه الحظ، وعندما قرر أن يمشي بطبيعته لم يعد قادرا بسبب تشوّه مشيته التي قد نساها.

فالزواج هنا لا يعني الرباط المقدس بين اثنين يحبون بعضهما البعض، أو اتماما لصفقة مهمة بين أحد أكبر الشركات، أو حتى منعا من أن يحيا كلا الطرفين \”في الحرام\”، بل للصعود أعلى الدرج أكثر ومحاولة التشبه بأحد المعارف، وحتى لا يقول عم العروسة إن العريس بخيل أو خالة العريس تدعي باستخسار والد العروسة فستان الفرح الفلاني وغيرها، حتى الأفراح تصبح مثل حفلات التنكر ومحاولات للارتقاء على حساب تصرفات وطبيعة الآخرين!

لكن المشكلة ليست في حفلات التنكر تلك، ولا حتى الجمعيات التي يدخلها العريس لسداد مصاريف زواجه، الذي سيفشل بعد حين في الإتفاق على مكان شراء الستائر، والتي ستصر حماته على المكان الأغلى من الذي ذهبت له اختها في زواجها لابنتها.

ليست المشكلة هنا تماما، ولا أقصد المبالغة حينما اخبرك أن المشكلة الأولى في الحب، لا تجد عادة علاقة ارتباط تصل لمرحلة الزواج، فإما أن يرفضه الأب لأن هناك عريسا أغنى وأفضل وذا منصب اجتماعي عريق و….إلخ، أو يرفضها أهله لأنها أقل منهم بدرجتين من السلم أو أنها ليست من ستضمن له مستقبلا باهرا ومشرقا، وأنها ليست ابنة مديره في العمل او أي منصب آخر سيساعده في حياته.

بمعنى آخر وأكثر صراحة، إن الزواج هنا هو بوابة للعالم الأفضل والحياة المترفة، وتذكرة الهروب للطبقة الأكثر رفاهية.

عن نفسي، حكى لي احد معارفي عن فتاة أحبها وأحببته، وبعد إنفصاله، اكتشف أنها كانت تحب خمسة أشخاص غيره، وليست المشكلة أنها كانت تحبهم كلهم في آن واحد أو تخدعهم من أجل إشباع احتياج عاطفي أو عقدة تسبب بها أحدهم، بل إنها كانت تبحث من بينهم عن الأكثر استعدادا للزواج وأسرعهم وأعلاهم مكانة، وهذا ما حدث بالفعل ليتفاجأ بزواجها بعد سنتين ضاحكا!

أما المشكلة الثانية هي التقيد بالعادات والتقاليد، والتي في أغلب الوقت ما هي إلا حجة للحفاظ على المظهر أمام الاقارب والمعارف والأصدقاء، فيجب ألا تظهر في مظهر يقلل من شأنك بينهم، أو يعلوك أحدهم.

ليس الحفاظ على العادات والتقاليد هو الحفاظ على هوية المجتمع هنا أو التمسك بالأخلاق، بل لرسم ملامح التقوى والهدى والصلاح أمام من يعرفك ومن لا يعرفك، أما في الخفاء فلا يهمني أن ترتاد البارات متنكرا حتى.

لذلك يجب على الفتاة ألا تدخل في علاقة ارتباط أو حب حتى لا يعرف أحدهم، فيتوقف العرسان لزيارة أبيها والتقدم لخطبتها، ولا يجب على الفتى أن يعرف أحدهم أنه مدخن أو في علاقة حب أو حتى لم يكن الأول في الصف الإبتدائي حتى لا يغير هذا من رأي والد العروسة التي سيتقدم أبيه لخطبتها بالنيابة عنه!

لا ينبغي أن تخرج الفتاة من بيتها حتى لا يقل سعرها في سوق الزواج حتى للعمل، ولا يجب على الفتى أن يدرس ما يحب ليحقق فيه نجاحا باهرا، لأنه لن يجد المرتب الكافي للتقدم لخطبة من يحبها في هذه الحالة.

فنصيحة مني، لا تسأل أحدهم عن مفهوم العشق بالنسبة له، أو تسأله عن تجاربه في الحب، لأن الإجابتين المحتملتين هما: الأولى، أنه سيذكر كل تجاربه منذ الصف الإبتدائي حتى الجامعة ومن المحتمل أن ينسى زوجته.

الثانية، أن يذكر زوجته في النهاية تحت بند \”العِشرة\”.

وكذلك الحال بالنسبة للفتاة أو المرأة.

أتدري ما هو المثير للضحك في الأمر؟ أنني لا اجد كثيرا أفلاما سينمائية تجسد حياة فرد من أفراد الطبقة المتوسطة، فإما هو شاب مستقل بحياته عن أهله يمتلك شقته وسيارته ليحصل على حبيبته في نهاية الفيلم، أو أحد الشباب الذي يحيا شبابه في أحد الأحياء الفقيرة أو العشوائيات ليجد نفسه أمام مطاردات بوليسية وشنط مليئة بالدولارات، فإما يُقتل في نهاية الفيلم أو يصبح من كبار القوم، أما تلك المعاناة التي يعانيها أبناء الطبقة المتوسطة، ليست هي إلا تجسيدا لشخصيات ثانوية في الأفلام السينيمائية، وبطبيعة الحال يتم استنزافها حتى لا يتذكرها المشاهد في نهاية الفيلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top