د. ألفت علام تكتب: ذكاؤنا في الوجدان

\”فما نحتاجه ليس هو طرح الانفعالات بعيدا ليحل محلها الفكر, لكن التوصل إلى توازن حكيم بين الاثنين, فالتصور القديم يهدف إلى تحرر العقل من أسر الانفعال, أما تصورنا الجديد، فيلح على الانسجام بين الرأس والعقل.\”

دانيال جولمان

لا أحد يستطيع أن ينكر وجود المشاعر والأحاسيس, لكن مازال الكثير منا يتعالى عليها ويعتبرها نقطة ضعف الإنسان، فالشخص الذي يستطيع أن يحكم عقله في حكمه على الأمور ويجنب مشاعره، هو الذي يلاقي ترحيبا وتقديرا من المحيطيين.

ولقد أكد على ذلك الفلاسفة مثل أرسطو وآخرون, حين أقروا أن الشخص الذي يمتلك الحكمة والفضيلة لا يترك مشاعره تتحكم فيه.

لكن حدثت المفارقة عندما لاحظ علماء النفس والاجتماع أن كثيرا من الأفراد  يتمتعون بذكاء عقلي مرتفع، لكنهم يفشلون في تيسير أمور حياتهم, ويفتقرون القدرة على التأثير والإلهام وتحريك عقول ومشاعر من حولهم.

في حين وجد آخرون يمتلكون ذكاء عقليا متوسطا أو عادي ويتمتعون بقدرة كبيرة على النجاح المهني والإنساني.

من هنا ظهر المفهوم الثوري الجديد لعلم النفس بالتعاون مع علم الأعصاب لضرورة الانتباه إلى وجود نوع آخر للذكاء مهم ومؤثر وهو:(الذكاء الوجداني أو الذكاء العاطفي).

في بداية التسعينيات بدأ علماء النفس والاجتماع التركيز على طاقة الحركة والتفكير وأهميتها ومدى تأثيرها في مسار حياة الفرد, وتسمى هذه الطاقة بـ \”المشاعر والأحاسيس\”، وارتباط هذه الطاقة بالإبداع والخلق والتغيير والنمو والتحضر.

فكان لابد من الإجابة علي السؤال القديم الأزلي: لماذا نخشى التعامل مع أنفسنا من خلال مشاعرنا؟!

– هل لأننا لانعرفها؟

– هل لأننا لا نستطيع التعبير عنها؟

– لا نمتلك القدرة على فهمها وإدارتها؟

– كل ما سبق.

ولهذا جاء دانييال جولمان عام 1995 مقدما التكوين النظري للمفهوم الغامض الحديث, والذي يسعى لخلق توازن بين المنظومة المعرفية والمنظومة الوجدانية وعرف \”بالذكاء الوجداني\”:

(مجموعة من المهارات الوجدانية والاجتماعية التي يمكن أن يكتسبها الفرد بالتدريب والتعلم, فتتحول هذه المهارة إلى قدرة لازمة للنجاح المهني وشؤون الحياة الأخرى)

ثم جاء كل من ماير وسولوفي عام 1997 بتطوير هذا المفهوم وإضافة أهمية إدراك وفهم وتنظيم طاقة المشاعر والأفكار يؤدي إلى رقي الوجدان والعقل.

وقد قام دانيال جولمان بتحديد إطار للذكاء الوجداني في نقاط ومراحل تتابعية:

الكفاءة الشخصية:

هذه الكفاءة تحدد كيف نقوم بإدارة أنفسنا من خلال:

الوعي بالذات: وهي بداية الاتصال بين المخ الوجداني والمخ العقلي, ويحدث هذا الاتصال عندما يقوم الإنسان بقراءة مشاعره الخاصة به أثناء حدوثها وإدراكه لها, وبالتالي إعطاءها الاسم المناسب لها.. (متوتر, حزين, متحمس, فرحان,…) ولا يحدث ذلك من أول محاولة, لكن التدريب على ذلك يمّكن الفرد من التمييز الدقيق بين مشاعره  وأسبابها وعدم الخلط بينها, والدوافع الحقيقية لهذه المشاعر، وبناء على ذلك نستطيع أن نعبر عن أحتياجاتنا بدقة وراحة.

إدارة الذات:

ينبع خوفنا من مشاعرنا لأننا نخشى عدم التحكم فيها, وخبرتنا السابقة عن أنفسننا, بأننا عندما نستخدم مشاعرنا تكون النتيجة في الأغلب خسائر فادحة.

تأتي المرحلة التالية, إدارة الذات تؤدي إلى التحكم الذاتي والوجداني, وهو وضع المشاعر والعواطف تحت التفهم والسيطرة، فمزيد من الوعي يؤدي إلى مزيد من القدرة على التعبير والتمايز بين المشاعر, وهذا يؤدي إلى مزيد من إدارة لهذه المشاعر, وإدارة المشاعر تزيد من الوعي والتعبير, هكذا ندخل في حلزون من النمو والتطور لذكائنا الوجداني.

الكفاءة الاجتماعية:

تحدد هذه الكفاءة القدرة على إدارة العلاقات, كثيرا ما نقابل:

– شخص مبدع لكن يخاف من إعلان إبداعه ويفضل أن يعلنه في أضيق الحدود.

– موظف شديد الكفاءة، لكن كثير المشاكل في العمل وبين زملائه بسبب عدم تحكمه في غضبه أو قلة ثقته بنفسه.

– والدان يهتمان بأبنائهما اهتماما شديدا, لكن لا يستطيعان التعبير عن حبهما غير المشروط، ومقابلة أخطائهم بغضب ورفض شديد.

وتحتاج هذه القدرة التدريب على:

– الاستماع المتمعن.

– عدم وضع إجابات جاهزة للأسئلة, فالحيرة تخلق حلولا جديدة بعيدة عن النمطية والقولبة.

– المواجدة, الإحساس بمشاعر الآخرين, والاهتمام الحقيقي بهمومهم واحتياجاتهم.

– التعبير بدقة ووضوح عن التفكير.

– القدرة على الفكاهة والمرح.

– الحماس للحياة.

– القدرة على الحب المتجدد.

– المرونة في التكيف مع الظروف المتغيرة أو التغلب على العوائق.

لا يحتاج ذكاؤنا الوجداني إلى إرث جيني أو تكنولوجيا حديثة أو إمكانيات علمية أو شهادات أكاديمية من أشهر الجامعات.

فأذكى الأشخاص من حولنا هم الذين يملكون القدرة على فهم إنفعالاتهم وأفكارهم، والوصول بذلك الفهم إلى الراحة والرضا عن النفس، والنجاح في الأدوار الاجتماعية المختلفة التي نقوم بها.

كلما ارتفع ذكاؤنا الوجداني، أتسعت الرؤية وعمق الإحساس.

في السنوات القليلة السابقة كثرت الأبحاث والدراسات حول أهمية مفهوم الذكاء الوجداني ودوره المؤثر والفعال في التجاوب مع العديد من الصعوبات والأزمات التي يتعرض لها الأفراد, واستعماله كوسيلة مفيدة للنمو الإنساني والاجتماعى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top