سنتان بالضبط، دون نقص أو زيادة، الرابع من يوليو 2013; يوم أن كان الناس في غمرتهم سكارى، بين ثورة وانقلاب، كنت أنا في غمرة التيه، تيه بني إسرائيل بدون موطن وبدون نبي، تيه آدم عند نزوله إلى الأرض، يومها مات والدي!
يوم يموت والدك تستشعر الخطر الحقيقي لأول مرة، تعرف أنك أصبحت بدون ظهر يحميك، أنت وحدك دون من تلجأ إليه حين تلتف حول عنقك أفعي الأيام لخنقك وتكدير أيامك.
افتقدت كوني طفلا، وفقدت الهروب! أن تلقي بكل ما يحاصرك بعيدا، أن تترك كل شئ وتختبئ وأنت تعلم أنه مهما تعقدت الأمور أن هناك من سيحمل الثقل عنك، هناك من سيتولى زمام كل أمر، فمادام للطفل أب وللبيت رب لا داعي للقلق.
يومها ترى عجزك بعينيك، عندما ترى أمك الثكلى، الأشقاء اليتامى فتندهش! هل تحزن؟ وكيف؟ وهل يليق حزن الأطفال بمهابة الحدث؟ كيف تنتقل من كونك طفلا إلى أب وأخ كبير؟!
لا يمكن أن تنسى أي من أحداث ذلك اليوم المقيت، تلك القشعريرة أو الرعشة التي تسري بجسدك عند معرفة الخبر، الشعور بالخدر الذي ينتابك، وظهرك الذي ينقصم، أحداث ذلك اليوم وأيام سبقت وأيام تلتها.. لا يمكن أن تسترجعها دون استحضار الأجواء السياسية التي صرت أمقتها، بل واتطير منها وأيضا لا يمكن أن تسترجعها دون أن تغزو أنفك رائحة المسشفى! صلاة الجنازة، قبلة أخيرة على رأس أبيك الراحل، ومشهد اللحد والدفن.
لن ارثيك اليوم شعرا يا أبي، فالشعر أرخص من أن يصفك، أو يصف ما أنا فيه من بعدك، فلطالما تعبت في نظم الشعر وضبط القوافي أكثر مما أرهقتني مشاعري، دائما ما ينظر الناس إلى وقع الكلمات وتوازنها ويستحسنون حتى وإن كانت رتيبة ولا أحد ينظر إلى المضمون! وأحيانا يكون الشعر استعراض عضلات ومهارة وأنا اليوم خاسر بجدارة!
أنا اليوم يتيم بحق، ليس لي الجدار الذي استند إليه، الجبل الذي ظن ابن نوح أنه سيعصمه من الماء، فأنا اليوم في مهب الرياح يا أبي، احتاج إلى حبك، قلقك علي، توبيخك لي حين اترك الصلاة، غضبك مني حين اعصي أمرك، فرحتك وقبلتك لي عند كل نجاح.. افتقدتك تماما يا أبي، هل هناك ما يؤلم أكثر من أن تفتقد احدهم وقد واراه التراب، هو العجز تمثل في أبشع وأعتى صوره، وهي الدنيا كما نعرفها تكشف عن وجهها المسعور.. هي المرة الأولى التي تدرك فيها أنه مهما ذرفت من دمع وافضت ومهما تمتنع عن الأكل ومهما يحزن لحزنك الجميع، لا أحد يمكنه فعل شئ، المعضلة التي ليس لها حل، إنه ببساطة الموت!
إنه المسمار الأول في نعشك، وعندها تعرف أنك التالي بحسابات الدنيا المنطقية، أن تتوقف عن كونك طفلا لتبدأ كونك أبا لطفلك، سيأتي يوما وقد يكتب عنك مثل هذه الكلمات.. المرة الأولى التي تشعر بأنك بدأت تشيب ويبيض رأسك، وينحني ظهرك.. المرة الأولى التي تشعر بأنك صرت عجوزا!