داليا الحمامصي تكتب: الأم الوحيدة

في كل المجتمعات نجد نماذج لأمهات وحيدات – وهو المصطلح المتعارف عليه. بعضهن اخترن الوحدة كما في اختيار الطلاق أو الانفصال، وبعضهن اضطررن لقبول أمر واقع فرض عليهن، كالمطلقات بغير رغبتهن أو المهجورات، وبعضهن كان قضاء الله هو الغالب كما في حالات الأرامل.

علمتني الملاحظة والخبرة الشخصية الكثير مما كنت أجهله.. كنت أعتقد مثلا أن خوف الأخريات من المطلقة أو الأرملة ما هو إلا كليشيه سينمائي بامتياز، لكن ثبت لي أنه ليس \”كليشيه\” وليس سينمائيا، فهو واقع تواجهه الأمهات الوحيدات، كما تواجهه المطلقات والأرامل بدون أزواج، كما النساء اللاتي اخترن عدم الزواج، أو فرض عليهن أيضا، فجميعهن بالنسبة لبعض الزوجات شرك نصب لاختطاف أزواجهن. كما لو كان شغلهن الشاغل هو الحصول على رجل أو أب لأطفالهن. وينقلنا هذا لنظرة المجمتع بشكل أشمل، والتي تراهن على إنهن نساء يائسات وحيدات، جل ما يأملن فيه هو \”راجل يضلل عليهم\”، وبالتالي فهن يقبلن بأي رجل وإن كان كائنا فضائيا بثلاث عيون، فهي امرأة مضطرة لأن \”ترضى بقليلها\”. ينسى هؤلاء أو يتناسون أن بعض الأمهات الوحيدات اخترن هذه الوحدة كما ذكرت سابقا، ولو كن سيرضين بالقليل كان الأحرى أن يرضين بالزوج السابق \”أبو العيال\”، وأمرهن لله. فالانتصار على الوحدة ليس ملأ للفراغات ولا يأتي على طريقة \”شالوا ألدو جابوا شاهين\”. هي لم تعد تؤمن بمثلكم القائل \”ضل راجل ولا ضل حيطة\”، فقد علمتها التجربة أن \”ضل الحيطة\” يكفي إذا لم يناسبها الرجل بالقدر الكافِ.

فخ آخر ينصب للأم الوحيدة وهو فخ التعاطف المخزي والمخجل.. بالطبع هن يقدرن تعاطف الآخرين واحترام المجتمع وتقديره للدور الذي أخذن على عاتقهن القيام به، أو فرض عليهن، فالمرأة في مجمتعنا تشكو عادة من قلة التقدير لدروها، فما بالك بأم وحيدة، نعم هي تحتاج للتقدير، فهو يدفعها لإنجازات أكبر، ويعطيها القوة لتحمل المسئولية الملقاة على أكتافها، \”بس الصعبانيات لأ\”.. هن لسن بحاجة إلى البكاء على البخت المائل والحظ القليل، ففخ استمراء العيش كضحية للظروف والحظ السئ هو الأسوأ على الإطلاق، هو بمثابة إغراق لكل ما لديها من إمكانيات لم تكن تعرفها، وطمس لقدرتها على مواجهة تحديات ستلقى في طريقها، شاءت أم أبت.

الأم \”الوحيدة\”، خاصة المطلقة، ستواجه مجتمعا يتعامل معها على إنها امرأة سيئة بالضرورة، أو على أقل تقدير امراة أنانية، حرمت ابناءها من العيش في ظل أسرة \”طبيعية\”، لكن ما هي الأسرة الطبيعية؟ هي أسرة قامت على مشاركة أفراد واحترام متبادل وصدق ومحبة.. ليس سراً أن أغلب أسرنا لا يتوافر لها الحد الأدنى من شروط الأسرة \”الطبيعية\”، وبالتالي فهي عرضة لتدمير نفسيات العديد من الأبناء، كان الاختيار الأرحم لهم هو انفصال طرفين، أصبحت علاقتهما تنصب على محاولة كل طرف في تنكيد معنويات الطرف الآخر.

بينما ينشغل المجتمع بتصنيفها، \”طيبة\”، \”شريرة\”، \”كويسة\”، \”بطالة\”، ستنشغل هي بتفاصيل حياة لم تكن مؤهلة لها، ولم تتخيلها، فنحن نميل إلى تخيل حيواتنا وهي تسير في مساراتها \”الطبيعية\”، هادئة، مستقرة، ومستمرة. ستعلم نفسها التعامل مع الوضع الجديد، وضع لا يشملها وحدها، فهناك أطفال في حاجة لها لتمر فترة التغيير والتأقلم على الوضع الجديد بسلام. هي لا تملك رفاهية الاكتئاب أو التأسي على الذات، لابد أن تظل صلبة، قادرة على تقديم الإجابات، لا يضيق صدرها بأسئلة قد تفطر قلبها وتذكرها بكثير من الألم. ستنشغل أيضاً بألا تطال صغارها مشاعرها السلبية تجاه العلاقة. ستواجهها كافة أنواع المشاعر السلبية والقلق والخوف من المستقبل والآتي، فلم يكتمل الحلم كما شاءت، ولن تتوقع الأفضل، ستخطط للحياة على توقع الأسوأ بشكل لا إرادي.

ربما يقتلها الذنب، حيث يدفع آخرون ثمن اختيار خاطئ، كان لابد أن تصححه. ستجهز نفسها لأن تكون المسئولة الأولى والأخيرة في أي لحظة، فالأب قد يتخلى عنها، قد يتزوج، قد يسافر، قد يعاقبها على اختيارها الانفصال، أو في حالة الأرملة سيكون اختيارها الوحيد.

سيضاف الكثيرون لقائمة اهتماماتها، وربما تخلت عن اهتماماتها الأصلية، فربما تتعلم أسماء لاعبي الكرة والمصارعة، إذا كان صغارها من الذكور، أو ربما تعلمت لعب الكرة قدر المستطاع. كما ستتعلم انجاز العديد من المهام في نفس الوقت، فكل المهام لها وحدها.

ستبحث لنفسها عن مساحة ولو صغيرة لتحقيق طموحاتها وأحلامها الخاصة، فهي لا تريد أن ترى نفسها \”أم العيال\” وفقط. لديها طموحات شخصية وأحلام مؤجلة.

ستنشغل بهذا كله، وتتحمله بكل الرضا، والسعادة، والضيق والألم أحيانا، لكنها لن تشكو كثيرا، فكيف تنوء الأم بحمل أبنائها مهما أثقل ظهرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top