آلاء الكسباني تكتب: لليوم فقط

كلنا مدمنون.. لا استثني منا أحدا.

نعم.. هذا هو ما علمني إياه مسلسل تحت السيطرة.. لم ارغب في أن اتحدث عن أي عمل فني أو درامي في هذا الشهر الكريم إلا بعد نهايته، كي لا اصدر أحكاما مسبقة كما يفعل النقاد والكُتاب هذه الأيام, لكن بعد وصولي للحلقة السابعة عشر, قررت أن اكتب عن \”تحت السيطرة\” , ربما لأنني لا استطيع كبح جماح نفسي عن الكتابة، حينما يمس الموضوع – الذي سأكتب عنه-  قلبي.

فضلا عن الموسيقي التصويرية العظيمة, والإخراج الرائع, والتمثيل المتقن، فالسيناريو قد نجح وبقوة –بالرغم من بساطته الشديدة- في أن يواجهنا بأنفسنا, بإدماننا للأشياء التي لا نعرف أننا نتعاطها أو ندمنها من الأساس, يضعنا أمام النفس البشرية التي تحسبها بسيطة رغم تعقيدها!

أجمل ما في المسلسل, أن الكاتبة لم تركز على الإدمان وأخطاره فقط, بل أوردت لنا الجانب النفسي والاجتماعي له وذلك بطريقة سلسة للغاية.

تكشف لنا مريم نعوم النفس البشرية بكل جوانبها, بخيرها وشرها, فلا نجد شخصية شريرة شرا مطلقا أو خيرة كل الخير, تضع أمامنا شخصيات مليئة بالضعف والقوة في آن واحد, مجرد بشر, يرتكبون الأخطاء ويحاولون إصلاحها.. يحبون بصدق, ويكرهون أيضا بصدق, وتتفاعل هذه الشخصيات معا في إطار مشوق لتنتج لنا مجموعة من العلاقات البشرية المركبة, فتوصل لنا رسالة, تجعلنا ندرك أن العلاقات الإنسانية أكثر تعقيدا مما نظن!

ابهرتني مريم نعوم بحق, فهي تمتلك موهبة التكثيف, وقادرة أن تصور لك بقلمها في مشهد لا يتعدى الخمسة أسطر مشكلة كبيرة وحيوية, وأكبر مثال علي ذلك هو مشهد الحوار الذي دار في التاكسي بين حاتم والسائق, الذي يوضح الفرق بين عقلية الرجل الشرقي والرجل الأجنبي واضطهاد المرأة في المجتمع المصري, وكيف أن الرجل الأجنبي يمكن أن يغفر لزوجته خطاياها لأنه يعلم أنها بشر وتخطيء مثله, بل وكيف يتحرى الدقة قبل اتهامها بالخيانة جزافا! لكن الرجل الشرقي؟ لا يمكن أن يسامح بالطبع! ليس فقط للانتصار لرجولته الزائفة و\”شرفه\”، بل لأنه إذا سامحها \”سيزفه\” أهالي المنطقة و يعتبرونه \”بأريال\” على حد قول السائق, وهنا يتضح لنا أيضا ما يعانيه الرجل الشرقي من تنميط, يجب أن يكون قاسيا, لا يسامح، وحش كاسر يفتك بعائلته خصوصا الإناث فيها, وإلا قيل عنه أنه \”أريال\”, ولذا لابد من أن يثبت نفسه ورجولته ويقتل زوجته إن خانت ويقتل أخته إن اخطأت, هذا التكثيف يحدث على مدار المسلسل من خلال مواقف صغيرة يتعرض لها أبطال العمل وتكشف شخصياتهم وانطباعاتهم, مواقف صغيرة لكن بها خبايا كثيرة.

رأينا شخصية حاتم التي قام بها المبدع ظافر العابدين، الذي استطاع بموهبته أن يجعلنا نحبه في الحلقات الأولى, وما لبثنا أن كرهناه بشدة, فهو ذلك الزوج الذي أحس بالخيانة لأن زوجته أخفت عنه ماض ليس له الحق في معرفته أصلا, ماض انتهي, ماض حاولت زوجته دفنه تحت تراب الدهر بكل السبل, هو يحبها فعلا, ويحاول أن يتفهمها ويحتويها, لكن ما يلبث أن يقصيها ويُشعرها أنه لا يقبلها، ويرهقها بخوفها الدائم من ابتعاده عنها بسبب ماض تنصلت منه للأبد, كلما حاولت أن أحس بالتعاطف مع موقف حاتم جراء إحساسه بالخديعة، ينكره قلبي, لا اعرف كيف يمكن أن يحس شخص بالخديعة لأنه لا يعلم شيئا ليس من حقه أن يعرفه, ولا اعرف يمكن أن يحب الإنسان شخصا بشدة ومع ذلك يُساهم في إضعافه وخذلانه! ولا اعرف كيف يصبح الحل الأمثل للمشاكل هو الهروب منها إلى اللا يقين بها ونكرانها ونفض أيدينا منها بكل بساطة! حتى إنه لم يمتلك الشجاعة الكافية لأن يطلقها وجها لوجه!

لا اعرف إن كان ينوي حاتم العودة لزوجته مرة أخرى بعد أن أنجبت له طفلة, ومازلت انتظر على أحر من الجمر, وفعلا لا يمكنني أن اتكهن بطبيعة إحساسه أو اتوقع رد فعله المقبل, وهذا ما يجعلني أشيد بعبقرية مريم نعوم, فمعها لا شئ متوقع أبدا! وقد تجلى ذلك بقوة في شخصيتي علي وهانيا, وهاتين الشخصيتين حالة متفردة من نوعها, لم اتوقع في حياتي تمثيل دور لرجل كـ علي في الدراما المصرية أبدا, فقد عودتنا الدراما أن الرجل المصري يحب صديقته ولا يتزوجها, ولا يعترف بابنه مطلقا إذا حملت منه! أما علي, فعلى النقيض تماما, أحب هانيا بصدق وتزوجها، بل واعترف بابنه منها.

أما هانيا، فتعكس لنا مشكلة التفكك الأسري في المجتمع المصري, حيث الأب والأم في واد والأبناء لهم عالم خاص بهم وحدهم.

وبالرغم من حياة علي وهانيا المليئة بالأخطاء التي لا يدركون هم أنفسهم حجمها، إلا أنه لا يسعك إلا أن تتعاطف معهما وتحب حبهما، حتى وإن كان خطأ! فبالرغم من أنك تعلم جيدا أنها علاقة بين بالغ وفتاة قاصر, وأنها علاقة غير سوية بالمرة، إلا أنك تشعر أنها كانت علاقة حتمية لا محالة, فهانيا بعلاقتها المتوترة مع أمها وإهمال أبيها لها، بحثت عن الأب الذي حُرمت منه في علي, أما علي فقد احب هانية بصدق, وجد فيها ابنته وحبيبته, وبسبب هذا الحب الغريب الصادق، ستُقنع نفسك بتجاهُل فكرة أن علاقتهما خاطئة وأنهما يتعاطيان المخدرات وستنظر لهما بإنسانيتك وبقلبك لا بعقلك.

وإذا جردناعلاقة علي وهانيا من المخدرات وفارق السن, نجد أن أكثر ما يشدنا لها هي السلاسة والسهولة في كل شئ, تزوجا بهدوء دون الحاجة لموافقة الأهل والأقرباء, دون شبكة ومهر, فقط اشتريا بيتا بسيطا وتزوجا وعاشا به, يتقبل كل منهما الآخر بكل زلاته وأخطائه, ونحن نفتقد مثل هذه العلاقات في مجتمعنا, اثنان قررا أن يمضيا ما تبقى من حياتهما سويا فتزوجا, مع إنه كان من المتاح لهما أن يظلا بلا زواج! فعلاقتهما رغم بساطتها ينكرها مجتمعنا ويدينها تماما، كما يدين الفتيات أمثال مايا, تلك الشابة الجريئة ذات الشخصية القوية, المهندسة الماهرة التي شارف سنها على الثلاثين دون زواج, فطلبت يد الرجل الذي تحبه للزواج دون أن تخشي أن يتهمها بالعُهر أو الجرأة الزائدة التي يكرهها الرجال الشرقيون في مجتمعنا، وهي صديقة وفية للغاية, وتستطيع أن تحب اصدقاءها وتتقبل نقائصهم وعيوبهم, إلا أن مع مريم نعوم – الحلو ما يكملش- فما لبثت أن تزوجت مايا من هشام – صديق حاتم المقرب- إلا وبدأ هشام في ممارسة دوره كرجل وفرض عليها ان تتخلي عن ابنة خالتها وصديقتها في عز محنتها, ولم اتوقع قط أن تنصاع له بهذه السهولة وأن تحارب من أجل أن تظل بجانبها, إلا أنه كما قلت, لا تقدم نعوم الشخصيات بجانب واحد فقط, ومعها لا شئ متوقع أبدا.

أما شخصية شريف التي قام بدورها هاني عادل, لها مكانة خاصة في قلبي، ليس فقط لأنني في كل مشهد أراه له، أظل اتساءل من أين يجلب القوة والطاقة الكافية لكي يتحمل غيره, ويتواجد دائما لمساعدة الآخرين سواء المتعافين من الإدمان أو المتضررين من أفراد عائلتهم أو المدمنين أنفسهم, ليس فقط اتساءل في كل حلقة أين هو من نفسه, كيف يستطيع أن يكون سندا للآخرين في الوقت الذي يحتاج فيه لأن يكون سندا لنفسه, ليس فقط لأن قوته وقدرة تحمله ابهرتني, ليس فقط لقدرته على استيعاب الآخرين دون إصدار أي أحكام, وليس فقط لأنه صديق وفي يتحمل زلات أصدقائه ومحبيه, لكن أيضا لعلاقته الرائعة بمريم, يفتقر مجتمعنا إلى ثقافة الصداقة بين الرجل والمرأة, وتفتقر كل فتاة مصرية في حياتها لشخص مثل شريف بجانبها, يساندها ويشد من أزرها, لا يصدر أحكامه عليها مطلقا, علاقته بها غير مرهقة تماما, صديق يمكن أن تخلع أمامه صديقته المقربة القناع الذي يراه بها الناس والمجتمع, ويتضح ذلك من المشهد الذي اكتشف فيه شريف إدمان أعز أصدقائه، فقال لها: \”مش محتاجة تخبي وتهربي مني يا مريم, أنا ماليش حاجة عندك, أنا بس عايز اساعدك\”.

ذكرني شريف بأعز أصدقائي, حين رأيته على الشاشة الفضية الصغيرة، ابتسمت وحمدت الله تعالى, لأنه منحني صديقا مثله, يمكنني أن اخلع أمامه  أقنعة المجتمع، ولا افقد احترامه وحبه.

ثم نري سلمى وطارق, علاقة مرهقة بكل المقاييس, فيها سلمى الزوجة التي تحملت الكثير من أجل استمرار زواجها, ضحت بحياتها من أجل أن تساعد حبيب عمرها وزوجها لتخطي مرض الادمان, حتى إنها تخلت عن حلم الأمومة من أجله, ومازالت تقف خلفه, قوية, مثابرة على أمل أن تصلحه, وطارق, الزوج الذي يعرف عيوبه ولا يحاول التخلص منها, بل يحبها ويدمن ادمانه!

اخرج كل منهما أسوأ ما بالآخر, فأصبحت سلمى إنسانة متشككة, مُتعبة ومُستهلكة, واجهضت طفلها الذي طالما حلمت به, أما طارق فقد حوله الادمان إلى شخص عدواني يضرب زوجته ويهينها.

وبالرغم من أنني انتقد حاتم بسبب قطع علاقته بزوجته، إلا أنني انتقد سلمى بسبب طول صبرها على زوجها, يجب ألا ندفن أنفسنا في علاقات تستهلكنا بشدة يا سلمى, يجب أن نحافظ على المتبقي من أرواحنا, فهي التي تبقى لنا في النهاية!

وأخيرا وليس آخرا.. مريم.. فضلت أن اترك مريم للنهاية, ليس لأنها بطلة العمل فقط, وليس لأن من تقوم بدورها هي معشوقتي نيللي كريم, لكن لأنني عشت في مريم ومعها على مدار أربع عشرة حلقة.. قوتها وضعفها, ادمانها و\”تبطيلها\”, صحتها ومرضها, عشت معها كل انفعال, كل فرحة, كل غضب, وكل خوف.

وجدت في مريم آلاء أخرى غير التي أراها في المرآة كل صباح, آلاء تحاول بشتى الطرق أن تخفي ملامحها في ملامحي, أن تستتر عني في عقلي الباطن, تحركني كيفما تشاء كعروس ماريونت صغيرة, دون حتى أن ادري ذلك!

علمتني مريم أن الادمان ليس فقط بالهيروين, بل يمكن جدا أن يكون بالطعام والنيكوتين والإنترنت، بل وحتى الأشخاص, علمتني أن ادمان الأشياء وسيلة للهروب من وحدة النفس ووحشة القلب, وأننا أضعف مما نتصور, نخشى مجابهة أنفسنا والجلوس أمامها عرايا من دروعنا, فنستعين بالأشياء التي ندمنها حتى نداري سوءاتنا ونخفي نقائص أرواحنا.

اذكر أن آخر مرة أحسست فيها بالسلام النفسي، كانت منذ مدة بعيدة, كانت نفسي تتناحر وتبذل كل طاقاتها محاولة للوصول لهذا السلام المنشود, حتى تابعت مسلسل \”تحت السيطرة\”, وجدت نفسي رغما عني انحاز لمريم ضد كل أولئك الذين ينصبون لها المحاكم والمشانق، فقط لأنها اخطأت ولأنها تحاول أن تصلح من أخطائها, وجدت نفسي فيها, وجدتني اعترف بأمراضي واخطائي معها, وأحسست من خلالها بالسلام النفسي الذي فقدته منذ مدة بعيدة.

علمتني مريم أنني يجب أن اتقبل نفسي حتى يتقبلني الآخرون، علمتني أن أي إنسان عاجز عن الاختيار هو فاقد لإنسانيته, وأن فقدها, سيبرر لنفسه وللآخرين أي عمل وحشي, دموي أو عنيف, ونحن في مصر عاجزون عن الاختيار, بالرغم من أننا نختار أشياء كثيرة, إلا أننا نسير دائما وفق منظومة أعلى منا, وفق وجهات نظر غيرنا, وفق الدولة, المجتمع والناس, وبهذا علمتني مريم أن اعترف أننا فاقدو الإنسانية, نضحك لبرنامج مقالب يستخرج أكثر درجات النفس البشرية انحدارا ويستحضرها في محاولة مستميتة للبقاء على قيد الحياة, نبرر القتل والاعتقال العشوائي ونصفق لقوانين الطوارئ, نتناسى الموتى ونسلم آدميتنا للسلطة على طبق من ذهب دون أدنى مقاومة.

علمتني مريم أن كل يوم جديد له قدسية وقيمة, وأنهم لم يفتروا علينا حين علمونا صغارا أن كل فجر جديد يهمس في آذاننا قائلا: \”أنا يوم جديد على عملك شهيد فاغتنمنى\”.

علمتني أن النجاح في الحاضر سر الثبات في المستقبل, وأن البكاء على الماضي لن يعيده ولن يصلحه أبدا.

علمتني مريم أن استمد القوة ممن أحبهم, وعلمتني أن امتن, امتن لأحمد, أعز أصدقائي, وأن أراه كما يرى هو نفسه وليس كما أراه أنا, علمتني أن امتن لقوته في تحمل روحي المشتتة وقدرته على إمدادي بالطاقة النفسية الكافية في عز احتياجه إليها, علمتني أن امتن لوجود ابتسامته الصادقة وروحه الطيبة في حياتى.

علمتني أن امتن لوجود عبدالرحمن, الشاب الوسيم الذي احب, امتن لقدرته على استيعاب أخطائي المتكررة وعدم حكمه على تصرفاتي وتقبُلي كما أنا.

علمتني أن امتن للحياة, امتن لأنني لازلت قادرة أن أرى ما لا يراه غيري.. لازلت قادرة أن احلم, أن اكتب, أن اشعر بالهواء يملأ رئتي ويخرج منها في سلاسة وهدوء, دون ثقل.

علمتني مريم أن اعرف مرضي واعترف به, فهو ليس عيبا, علمتني احاول أن احاصره واهزمه, علمتني أن اضمد جراح قلبي التي كنت يوما سببا فيها, وأن اكون شجاعة لادفع ثمن أخطائي واتحمل نتائج قرارتي المجنونة المندفعة.

علمتني أن اُعد قائمة يوميا, قائمة عنوانها \”لليوم فقط\”, وأن اكتب فيها ما يجب أن افعله, لليوم فقط، وقد اعددت قائمتي لليوم, لليوم فقط, سأتوقف عن التناول الشره للطعام حين اقع في مشكلة ما.. لليوم فقط, سأخبر من استشعر حبهم الصادق أنني ابادلهم الحب حقا, وأنني اخشى أن يبتعدوا في اي لحظة.

لليوم فقط, سأستمع إلى الموسيقي كما لم استمع من قبل, وسأرهف أذني حتى تستشف كل نغمة مختلفة وكل آلة في المقطوعة على حدى.

لليوم فقط, سأتوقف عن الركض في مكاني, سأجلس لاتأمل ما حولي في صمت وسأدون ملاحظاتي.

لليوم فقط, لن أُخون أحدا, لن اصدر الأحكام على أي شخص أو أي شئ

لليوم فقط, لن اصنف نفسي, سأتنصل من ايديولوجياتي, وسأترحم على كل دم هدر على أرض وطني.

لليوم فقط, سأنتظر تجلي الله في الساعات الأولى من الفجر, وادعوه بحب وشغف, ادعوه أن يمنحني السكينة لاتقبل الأشياء التي لا استطيع تغييرها, والشجاعة لأغير الأشياء التي استطيع تغييرها, والحكمة لمعرفة الفرق بينهما.

لليوم فقط, سأجلس مع نفسي واتحدث معها, سأتقبلها بكل عيوبها ونقائصها, سأحبها حتى تحبني.

لليوم فقط, لن اهتم لكلام الناس ولن اعيرهم انتباهي.

لليوم فقط لن احاول أن اكون مثالية, أو أن اكون عند حُسن ظن أحدهم بما قد يرهقني ويحملني ما لا طاقة لي به.

أما الغد.. فسأتركه بين يدي خالقه.. لأنني لن اعيش اليوم سوى مرة واحدة فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top