زين العابدين خيري يكتب: هكذا تحوّل "الكابوس" إلى حلم درامي جميل

لا شك لدي في أن مشيرة هي من قتلت ابنها فارس، ورمت رأسه وسط أكياس الزبالة، بينما كانت تريد حمايته.

ليس تعجلا مني ولا تكهنا أو استقراءً لمستقبل أحداث مسلسل الكابوس للكاتبة هالة الزغندي والمخرج إسلام خيري، ولكنها الحقيقة الرمزية التي تكشف عنها أحداث المسلسل المشوق الذي تقوم ببطولته الممثلة غادة عبد الرازق مع أيتن عامر وكريم محمود عبد العزيز وأحمد راتب ومحمد شاهين وغيرهم من الأبطال. أما الحقيقة المطلقة فهي ما ستكشف عنها بقية الأحداث.

المسارات المتوازية:

تدور أحداث مسلسل الكابوس في ثلاث مسارات متوازية؛ الأول يصوّر الأحلام أو الكوابيس اليومية المرعبة التي تراها بطلة العمل الرئيسية غادة عبد الرازق التي تؤدي شخصية مشيرة وهي سيدة مكافحة استطاعت أن تحقق نجاحا وثروة من خلال مصنع بلاستيك استطاعت بقوة إرادة شديدة إدارته بعد مصرع زوجها المفاجئ أمام عينيها، وعلى الرغم من صعوبة تلك الكوابيس وإطارها المرعب تؤمن مشيرة بأن ابنها القتيل يوجه من خلالها رسائل لها ليدلها على قاتله. والمسار الثاني هو مسار الحياة الحالية أو المأساة التي تعيشها مشيرة التي فوجئت برأس ابنها مقطوعة تتدحرج تحت قدميها أثناء تفقدها عملية فرز البلاستيك من بين أكياس القمامة في المكان نفسه الذي لقي في زوجها مصرعه بالكهرباء وهو يريها أول ماكينة في مصنعهما المنشود، ويجري المسار في إطار تشويقي حول سير التحقيقات التي تجريها الشرطة لمعرفة الجاني وكشف غموض الجريمة، ومحاولات مشيرة المضنية في إطار موازٍ ليس للوصول للقاتل فقط، بل ومحو كل ما يلوث ماضي ابنها المشين. أما المسار الثالث فهو خط الماضي أو (الفلاش باك) الذي يطل برأسه موضحا بالتدريج  علاقة مشيرة بابنها فارس وابنتها الكبيرة زيزي وكيف كانت تفرق في المعاملة بينهما لصالح فارس الذي كانت تظن أنها تؤهله بذلك ليكون رجل الأسرة بعد وفاة والده بتدليله وبذل كل ما تستطيعه لإخفاء كل أخطائه وخطاياه، وخطاياها هي نفسها بالتدخل المستمر في قراراته الشخصية حتى فسدت تلك الحياة تماما ولم تعد تفلح معها أية محاولات للستر أو التجميل، فقررت أن تستمر في هذا الدور بعد رحيله رافضة من داخلها قبل الآخرين أن يعرف أحد أن (فارس) لم يكن هذا الطفل ولا الشاب المثالي الذي لا تشوب حياته شائبة.

السلاسة:

وهكذا تسير المسارات الثلاث التي وضعتها المؤلفة الشابة هالة الزغندي في عملها الأول الذي يحمل اسمها وحدها، ليقوم المخرج إسلام خيري بوضع كل إمكانياته الإخراجية المتميزة لتقديم هذه المسارات على الشاشة بسلاسة ومقدرة كبيرة على ألا تتداخل في أذهان المشاهدين أو جعلهم يشعرون بأي تشوش أو يخلطون بينها، تاركا لتلك المسارات نفسها تفسير بعضها البعض، دون قفز على الأحداث أو جري وراء تشويق وغموض مجاني لا داعي له طالما أن القصة نفسها ثرية بأحداثها، وتحمل غرائبيتها دون تحميلها بما لا تحتمل. كما يجب الإشادة بشكل خاص بمشاهد الكوابيس التي وصل ببعضها إلى درجة الإحساس بالرعب ولكن دون مبالغة كذلك.

ممثلون متألقون:

وكما تميزت المؤلفة وتميز المخرج نجح أبطال العمل في تجسيد شخصياتهم بصدق وفهم كبير لطبيعة تلك الشخصيات، دون تطرف أو مبالغة، وأعتقد أنها المرة الأولى منذ فترة طويلة التي أرى فيها غادة عبد الرازق تمثل بهذا الإحساس المفرط، بحيث توحدت تماما مع هذه الشخصية الصعبة التي تجسدها، فلا تملك إلا التعاطف الشديد معها ومع دموعها المنهمرة بصدق في معظم مشاهدها، على الرغم من أنك لا تمتلك أيضا إلا تحميلها المسئولية الأكبر في كل ما حدث لابنها ولابنتها ولها نفسها ولحياتهم جميعا من انهيار كارثي في الوقت التي ظنت فيه أنها حققت النجاح والحياة المثالية التي كافحت وحيدة من أجلها بعد الرحيل المبكر لشريك حياتها.

ولا أنكر إعجابي الشديد بشجاعة غادة في قبول هذا الدور دون اعتبار لكونها ستجسد دور أم لشاب وشابة في العشرينيات من عمريهما، ودون اهتمام بماكياج أو ملابس مبهرة اعتدنا منها الاهتمام بها في أعمالها الأخيرة، فهي هنا لا تبذل مجهودها لتقديم نفسها كجميلة الجميلات، بل بذلت كل المجهود لتقدم شخصية حية من لحم ودم، وفي هذا إشادة برسم الشخصية التي كتبتها هالة الزغندي وبإدارة الممثل التي قادها المخرج إسلام خيري.

وكما استطاعت غادة تغيير جلدها في هذا المسلسل رأينا كريم محمود عبد العزيز يقدم للمرة الأولى شخصية الشاب المكافح الهادئ الشهم، وبخفة دم مقبولة دون استخفاف، كما قدمه العمل في نصفه الأول، مبتعدا عن الشخصية الخفيفة المستظرفة التي كثيرا ما قدمها سابقا.

وكذلك استطاعت أيتن عامر تقديم شخصية الابنة التي لم تمتلك أمام تفضيل أمها الدائم لشقيقها عليها رغم هناته وأخطائه المتكررة إلا الهروب لكندا لاستكمال تعليمها وحياتها بعيدا عن هذه الحياة المدمرة لها ولشخصيتها، وحين عادت بما يبدو عليها من جمود وقوة كشفت لنا مشاهد الماضي أسباب هذا الجمود، ولكن مشاهد الحاضر التي جسدتها أيتن كشفت كل ما وراء هذا الجمود من ضعف وقهر تحملته لسنوات، ولكنها ظلت تحمل كل الحب والتقدير لأمها مهما ظهر منها من ظلم، وهي مشاعر دقيقة جدا نجحت أيتن عامر في تقديمها ببراعة.

الممثل الشاب كريم قاسم، أو فارس القتيل اللغز مقطوع الرأس، استطاع أيضا تقديم نفسه كممثل متميز بهذا الدور الصعب المتناقض، فهو ذلك الشاب المدلل والذي يعرف تماما مقدار حب أمه له وضعفها أمامه، ولكنه في الوقت نفسه ناقم عليها لتدخلها في حياته إلى درجة حرمانه من حبيبته التي رأتها غير ملائمة له، ناهيك عن تدليلِها الشديد له وتلبية كل طلباته إلى الدرجة التي أوصلته إلى الإدمان وارتكاب كل الخطايا وهو يعرف أنها لن تكتفي بالغفران له بل ستقوم بالتغطية عليه، فعرف جيدا كيف يبتز هذه المشاعر ليحصل منها على ما يريد، ربما ظنا منه أنها بذلك تدفع ثمن تدخلها في حياته، وقد نجح كريم في توصيل ذلك.

وبالطريقة نفسها قدم بيومي فؤاد شخصية الخال الريفي بانتهازية غشيم كثير العشم في أخته ومالها، أكثر منها انتهازية شرير، وهي مقدرة تمثيلية كبيرة غير غريبة على ممثل بقدراته.

أما محمد شاهين فليست المرة الأولى التي ينجح فيها في تقديم شخصية ضابط الشرطة، ولكنه هذه المرة ضابط المباحث الجنائية الجاد المتمكن من عمله، وإن أغفل العمل في نصفه الأول الحياة الاجتماعية والجوانب الإنسانية التي تغلف هذه الشخصية رغم أهميتها في الأحداث، كما أعتقد أن رتبة المقدم كبيرة على أن يقدمها ممثل بسن محمد شاهين، وهي تفصيلة غير ذات أهمية كبيرة بالنظر إلى أدائه المتميز لدوره.

بقية الشخصيات موظفة في أماكنها بشكل جيد، بداية بالممثل الكبير أحمد راتب ومرورا بسلوى عثمان وفتوح أحمد وبدرية طلبة وعمرو عابد ورحاب الجمل، وبقية الممثلين كبارا وشبابا وأطفالا، وانتهاء بأصغر الأدوار والتي لم تكن تتعدى أحيانا المشهد الواحد ولكن المخرج اهتم بإعطائها لممثلين حقيقيين، وهو شيء مهم جدا ساهم في خروج عنصر التمثيل في المسلسل بشكل جيد.

شخصيات حقيقية:

في الكابوس لم نشاهد حتى منتصف الأحداث شخصيات سوداء وأخرى بيضاء؛ بل جميعها شخصيات إنسانية تحمل خيرها وشرها، لها مساوئها وإيجابياتها، وهي غارقة في ضعفها الإنساني الذي يجعلك تتفهم مبررات أفعالها وإن لم تتقبلها، وبالطبع فإن رسم مثل هذه الشخصيات فيه صعوبة شديدة ولكن موهبة الكاتبة الواضحة سهّلت الأمر عليها وعلينا. ولا أظن أن هذا المسلسل نتاج كتابة متعجلة للكاتبة للانتهاء من العمل سريعا للحاق بالسباق الرمضاني حتى وإن غيرت في مسار بعض الأحداث أو الشخصيات طبقا لمناقشاتها مع مخرج وبطلة أو أبطال العمل، بل من الواضح أنها بذلت مجهودا كبيرا في كتابتها للخط الرئيسي للأحداث على الأقل لتقديم هذه الحبكة الدرامية الجيدة، وتضمينها ما أرادت توصيلَه من رسائل أساسية في نظرتنا لأبنائنا وكيفية تربيتهم وكيف نقتلهم بأيدينا من حيث نريد حمايتهم، وكل ذلك دون إغفال للجانب التشويقي بعدم كشف غموض الأحداث دفعة واحدة في نهايتها، بل بالكشف عنها تدريجيا، وأطفالا، ليظل المشاهد جزءا من الأحداث مفكرا فيها لا مجرد متلقٍ فقط.

وتبقى الإشارة إلى عناصر العمل الأخرى التي لم تقل تميزا، من كاميرا مديرة التصوير الحية للمتميزة نانسي عبد الفتاح، إلى الديكور والاكسسوارات المعبرة عن البيئة التي يعيش فيها الأبطال على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وبدا واضحا أن التصوير تم في أماكن حقيقية غير مبنية كما يظهر في المصنع والبيت القديم بجوار القلعة، وهو ما ساهم في إعطاء مصداقية كبيرة للعمل.

المقال تم نشره في مجلة نصف الدنيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top