بينما تزدحم المكتبات الأجنبية بالكتب والمقالات والأبحاث التي تتناول الحضارة الفرعونية، ويأتي الزوار من مختلف دول العالم لمشاهدة آثارها، وتدرس الجامعات في أوروبا وأمريكا تاريخها، يقرر بعض العباقرة أن يختصروا قرونا من الحضارة والعظمة في وصفها بـ \”الحضارة العفنة\”.. قالوها ثم عادوا لينجعصوا في مقاعدهم مربتين على كروشهم وهم يعبثون بلحاهم الكثة وأصابع أقدامهم المتعرقة وهم يشعرون بالرضا عن النفس أنهم قد قاموا بدورهم في إعلاء شأن الحضارة الإسلامية بسب ما سبقها من حضارات!
هؤلاء قوم يؤمنون بقاعدة بسيطة: يمكن أن تكون صاحب حضارة عظيمة مازالت تبهر العالم بإنجازاتها وتراثها بعد اندثارها بقرون، لكنني رغم ذلك أملك الحق في أن أنتقص منك وأهينك فقط لأنك لست على ديني!
أقدم نظام سياسي في التاريخ، أول دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، علمت العالم الزراعة والطب والكيمياء، تركت تراثا هائلا من الحكم الأخلاقية.. كل هذا لا شيء، فأنت مجرد كافر هالك لم تترك سوى بعض المباني والتماثيل التي أرى أن من الأكثر إفادة للمجتمع أن تباع للغرب الكافر ما دام يحبها ويحترمها إلى هذا الحد.
بهذا المنطق المختل المتخلف يهين هؤلاء الرعاع تاريخ أجدادنا.
……….
ثمة تعبير عامي يصف هذا السلوك بأن صاحبه \”بيتف في عبه\”.. هؤلاء الذين توصف حضارتهم بالعفن -ولا أعرف كيف تتفق الحضارة مع العفن- هم أجدادنا، هم أجداد ذلك الجلف الذي يسبهم، هي إهانة قومية لكل مصري على وجه الأرض.. ولأن من المعروف أن هؤلاء الأجلاف لا يؤمنون بالقيمة الحقيقية للانتماء المصري، فدعونا نتناول الإهانة من زاوية أخرى هي أنهم في حقيقة الأمر يهينون الموروث الإسلامي نفسه.. هل تروني أبالغ؟ تعالوا ننظر للأمر بهدوء.
هذه الحضارة الفرعونية هي موطن الأم الأولى العظيمة للعرب: السيدة هاجر عليها السلام، والتي تمثل صلة الرحم بين المسلمين ومصر، تلك الصلة التي نقلت لنا كتب التراث أقوالا عنها، منسوبة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بل ونقلت لنا قول بعض من بلغتهم هذه الأقوال أن هذه الصلة البعيدة لهي أمر لا يبجله إلا من كان نبيا حقا.
وهي كذلك موطن لمكارم الأخلاق التي قال الرسول إنه إنما بعث ليتممها، فلنقرأ أقوال الحكيم بتاح حتب التي أوصى فيها الابن ببر أمه، والزوج بالعطف على زوجته، والحاكم بالعدل في رعيته.. أي أخلاق عظيمة هي؟ فهل نسب حضارة أضافت للعالم من مكارم أخلاق قال رسولنا إن الله قد بعثه ليتممها؟ هل يمكن أن نقول إن الله بعث رسولا لاتمام مكارم أخلاق حضارة عفنة؟
ماذا عن القوانين التي وضعها الفرعون حورمحب لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ أليست هي من العدل الذي قرأنا عنه في كتب التراث الديني، أن الله يصون به الدولة ولو كانت كافرة ويضيع بغيابه الدولة ولو كانت مؤمنة؟
وموروث الحكم الفرعونية عبر عهود تلك الدولة، أليس مما يوصف بأنه \”ضالة المؤمن\”؟ فهل يجد المؤمن ضالته في العفن؟ هل كان الرسول ليريد لنا أن نبحث عن ضالتنا في العفن؟
هل أدرك القاريء لماذا اعتبر أن التطاول على حضارة الأجداد هو بمثابة تطاول على موروث حضارة الإسلام؟
………
وإذا تركنا هذه الإهانة جانبا وتناولنا إهانة أخرى هي المطالبة بتدمير آثارنا، فسنرى العجب العجاب، فمثل أصحاب هذه الأفكار نرى غير بعيد عن منطقتهم الفكرية -التي هي العفن ذاته- فئة منهم تبارك هدم وتدمير الآثار باعتبار أنها من \”أصنام وطواغيت الكفرة\”، أسوة بما يفعل الدواعش بآثار سوريا والعراق.
من أين أتوا بهذه الفكرة؟ وحده الله يعلم، فلو قرأنا التاريخ الإسلامي لرأينا أن البلاد التي تحتوي أكثر هذه الآثار، قد فتحها المسلمون الأوائل في عهد أكثر الحكام المسلمين شدة في أمر الدين، وأعني الخليفة الراشد الثالث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الشام، فارس، مصر، العراق، بكل ما فيها من آثار فينيقية وأشورية وسومرية وبابلية وفرعونية وبطلمية وفارسية، فتحتها جيوش قادها كبار الصحابة في عهد خليفة شديد الغيرة على دينه، فهل مسوها بالتخريب أو التدمير أو الهدم؟ كلا.. والدليل أنها باقية في أماكنها إلى يومنا هذا.. فهل هؤلاء المتطرفون أكثر غيرة على الدين من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأبوعبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، وكل من جاءوا بعدهم من حكام وقادة مسلمون، حتى يقرروا فجأة أن \”بلاد الإسلام\” تعاني وجود أصنام وطواغيت في ربوعها؟!
ما بالهم إذن؟هل هي لوثة مفاجئة أم أن تلك الآثار تشعرهم بالدونية وقد عجزوا عن مجاراتها؟
أتعلمون لماذا لم يبتدع أي من أهل الحضارة العربية الإسلامية تلك الفكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ لأن تلك الحضارة العربية كانت راقية وقوية وسامية بما يكفي لأن يدرك أهلها أن احترام تاريخ من سبقوهم إنما هو احترام للحضارة الإنسانية الكبيرة التي أرادوا أن يضيفوا لها.. ولأنهم كانوا أهل عقل وفكر وتأمل، فكان همهم هو معرفة \”كيف أقام من سبقوا تلك الآثار\” وليس \”كيف ندمر تلك الآثار التي تذكرنا بخيبتنا عن أن نأتي بمثلها\”.. هؤلاء القوم أصحاب مبدأ إهانة التاريخ السابق إذن يهينون الحضارة الإسلامية التي يتشدقون بالانتماء لها دون أن يكون لهم فضل في بعثها بادعائهم أنهم حين يسبون حضارات الأسلاف فهم يعلون شأن الدين!
……….
إن تلك الحالة هي من مصائب التاريخ، أن يقرر البعض اختصار قرون من الحضارة الراقية في سباب وإساءات فقط ليسبلوا أعينهم برضا مسرحي وهم يقولون: \”الحمد لله على نعمة الإسلام\”، ذلك الإسلام الذي لو فهموه حقا لعلموا أنه يحضنا على النظر في تاريخ من كانوا قبلنا لنتعلم من سلبياته وإيجابياته، ليكون المسلمون حقا جزء فاعلا في حركة التاريخ، لا أمة تضحك من جهلها الأمم.
……….
هذا عن إهانة موروثات التاريخ، فماذا عن تحويل التاريخ لمجرد حائط مبكى معنوي كبير، وساحة للندب والنواح؟
(يتبع)