(1)
عم مجدي البقال.. رجل في العقد الرابع من عمره .. يسكن في العمارة المواجهة لبيت الطالبات بالقاهرة في \”بين السرايات\”، ولديه محل بقالة صغير أسفل منزله يسعف احتياجات الفتيات دائما، خصوصا أيام الإجازات.
شاء القدر أن اسكن ببيت الطالبات هذا أمامه وأن اتعرف عليه جيدا.. ملتحى.. يحرص دائما على قضاء الصلاة في أوقاتها وإغلاق المحل.. سمعت أن لديه زوجتين.. شعاره الوحيد في الحياة أن الله جميل يحب الجمال، ويطبقه على أكمل وجه!
نعم.. فعم مجدي لا يترك أنثى تمر من أمام بقالته أو تشتري منه إلا ويتفحصها تفحصا دقيقا.. عيناه تقوم بمسح دقيق لكل تضاريس ومنحنيات الأنثى أمامه.. بل وأظن أنها تتمتع بخاصية الإكس راي، حيث ترى وتستشف ما تحت الملابس.
يوم أن رآني عم مجدي أول مرة، رأيت في عينيه انبهارا كبيرا.. قال لي: \”أنا بحب المليانات أوي والأسكندرنيات بالتحديد\”، فسألته: \”اشمعني الأسكندرنيات يا عم مجدي\”، فقال غامزا: \”أجدع بنات\”.
لطالما كانت الفتيات يشمئززن من طريقة تعامله معهن، لكنني دائما ما كنت أجد فيه مادة حية للسخرية والشفقة معا.. اظل أراقبه في أوقات فراغي، يتابع النساء ويركز علي الصدور والأرداف أثناء البيع والشراء، ثم يؤذن المسجد للصلاة، فيؤجل كل معاملاته ويغلق سريعا حتى يلحق بثواب صلاة الجماعة.
انتهت سنواتي الأربع ببيت الطالبات، وجُل ما كنت أحس أنني سأفتقده، هو مناكفتي في عم مجدي.. وفي يوم عدت لاستكمال بعض أوراق تخرجي ومررت بشارع بقالة عم مجدي، فوجدتها مغلقة بالشمع الأحمر، وحين سألت، علمت أن أهل الحتة طردوه، لأنه كان مشاركا في أعمال العنف التي ارتكبها السلفيون بمنطقة فيصل والهرم.. قالت لي جارتي القديمة العزيزة \”أم كوتة\”: \”أصله أكل علقة لوز واتطرد واترماله عفشه كله في الشارع وبقالته اتكسرت.. ومفيش ست ف الحتة مارفعتش شبشبها عليه.. أنا نفسي ضربت معاهم.. داهية تقطع سيرته افتكري لنا حاجة عدلة\”..
عدت إلى الأسكندرية وأنا افكر يا ترى بتتحرش بمين دلوقتي يا عم مجدي؟!
(2)
من يعرفني جيدا يعلم أنني اكره ثلاثة أشياء في الحياة, الخيانة, البامية, وإشارة رشدي في طريق أبي قير.. حين يدخل المشروع نطاق إشارة رشدي – خاصة إذا كنا بعد الواحدة ظهرا- احس أنه قد ابتلعنا ثقب أسود دودي، وأننا لن نستطيع العودة إلى موطننا – الأرض- مرة أخرى, يمكن للإنسان أن يظل عالقا بها مئات الساعات أو الأيام أو حتى السنين.. وحدث ما جعل كراهيتي لها تتفاقم وتزداد, فلم يعد ازدحامها وحده هو السبب, لكن.. كنت في مشروع يقف بإشارة رشدي منذ أكثر من نصف ساعة سارحة في ملكوت الله داعية أن نخرج منها بأسرع ما يمكن وبأقل خسائر ممكنة, يجلس بجانبي رجل في العقد الثالث من عمره يقرأ القرآن, تأفف فجأة وطلب من السائق أن ينزل هنا, فما كان من السائق إلا أن رفض، نظرا لأننا في إشارة يمكن أن \”تفتح\” في أي لحظة, ولأننا في عرض الطريق وليس بجانب الرصيف كعادة المشاريع حين تُنزل راكبيها, وهنا انفتحت وصلة من السباب اللانهائية, أخذ الرجل –الذي كان يقرأ القرآن منذ دقيقة فقط- يسب السائق بأبويه وينهره, حتى إنه سب الدين نفسه! والركاب يحاولون تهدئة الموقف بشتى الطرق مقنعين الرجل أنه لا يمكنه النزول هنا, لكن لا طائل من كلامهم مطلقا! إلى أن فُتح الباب وأفسحوا له الطريق للنزول.. وما إن نزل حتى فتحت الإشارة! فقال السائق: \”سبحان الله, ما هي بتبقى أقدام\”
(3)
احب جدتي كثيرا, سيدة بسيطة للغاية, جُل آمالها في الحياة أن تصلي وتشاهد المسلسل التركي وتنام لتستيقظ لصلاة الفجر مبكرا, حجت بيت الله أكثر من مرة, ولا تزال تشتاق إلى الذهاب مجددا بمجرد عودتها إلى مصر، لكن.. تعشق جدتي الثرثرة كثيرا خصوصا على الهاتف, تأتي لك بأخبار هويدا بنت خالة أم بنت اختها من طرف أبوها في أقل من دقيقة, لطالما تخيلتها مراسلة في قناة إخبارية مشهورة تأتي بالخبر الحصري في بضع ثوانى.
ما يميز جدتي عن غيرها من النسوة الثرثارات, أنها تظل تؤكد دائما أنها لا تحب تتبع عورة الآخرين, وتظل تعلمنا أن النميمة والغيبة هما بمثابة أكل لحم الإنسان ميتا, وتجنبا لهذا, يمكننا أن نقرأ سورة العصر, فهي كفارة للمجلس, وبهذا يمكننا أن نغتاب من نشاء دون أن يُكتب لنا ولا سيئة واحدة!
(4)
احب كثيرا أن اذهب لمداعبة الحيوانات في محل الحيوانات الأليفة في الشارع الخلفي لمنزلي إذا ما مررت من هناك, الحيوانات كلها بلا استثناء لا تحمل أي ضغائن للبشر, علاقاتها معنا بسيطة للغاية, تحب من يحنو عليها وتكشر عن أنيابها ومخالبها لمن يحاول إخافتها أو إيذائها, أما البشر, علاقاتهم أكثر تعقيدا وشرا.
تصادف وجودي هناك ذات ليلة مع وجود سيدة منتقبة بصحبتها طفلة صغيرة, كانت الطفلة تلعب مع القطط والقردة الصغار تحديدا, لكن لم يجذب انتباهها سوى قرد صغير مشمشي اللون في قفص على الأرض, جلست ببراءة الأطفال بجانبه وأخذت تداعبه, وحين لاحظت أمها شغفها الشديد بالقرد واطمئنت لانشغالها به وعدم مبارحتها مكانها, خرجت لتجري مكالمة هاتفية, ظلت الفتاة تلهو مع القرد, ووقعت عيني على طفل صغير يتضح من ملابسه أنه من أطفال الشوارع , ينظر إليها بلمعة طفولية وفضول, فنظرت إليه وابتسمت وشجعته على المجئ , جلس بجانبها وأخذا يداعبان القرد سويا ويضحكان برقة, أتت أمها فجأة وجذبتها من ذراعها بقوة صارخة فيها: \”إيه الأشكال اللي بتلعبي معاها دى؟!\” والتفتت للبائع صائحة: \”إزاي تسمح للمناظر دي تدخل المحل بتاعك؟ واضح إنكوا محل مهزأ\” وحملت الطفلة التي كانت تبكي بحرقة وخرجت, في حين نهر البائع الطفل وركله إلى خارج المحل بقسوة، ولم افعل شيئا من هول المفاجأة والموقف, فقط دمعت عيناي واقسمت إنني لن اعود إلى هنا مجددا!
(5)
يُقال للطلاب مغتربي الوجه البحري في جامعة القاهرة, إذا اردت أن تحجز تذكرة لقطارك من قسم الوجه البحري في محطة مصر, لا تذهب إلى الشباك رقم 2 أبدا.. حتى لو باقي الشبابيك مزدحمة للغاية!
يجلس على الشباك رقم 2 موظف \”كشر\” الوجه, لا يبش ولا يبتسم أبدا, و لا يوجد على لسانه سوى جملتين: \”التذاكر خلصت\” و\”مفيش فكة\”.. يترك الناس بالساعات ويأبى أن يعمل إلا حين ينتهي من صلاته, وإذا عاتبه أحدهم، صرخ فيه: \”عايزني اسيب الصلاة؟!!\” ويطيل الصلاة إلى ما لا نهاية, حتى ظننت يوما أنه يصلي التراويح في الظهر!
تطل من جبهته علامة الصلاة بقوة ووضوح, لكن لسانه وتعامله لا يدل على أنه يعرف طريق الله أبدا.
(6)
حسن شاب في العشرينات من عمره من أسرة متدينة للغاية, يصلي الفرض بفرضه ويصوم ويحب والديه، لكن حسن لديه هوس جنسي غريب! يواظب دائما على مشاهدة الأفلام الاباحية ويتحرش بالفتيات, وكلما رأى فتاة تمر من أمامه في نهار رمضان، أصر أن يذكرها أنها فتنة قائلا: \”اللهم إني صائم\”.. حسن يقابل أصدقاءه كل وقفة عيد ليدخنوا الحشيش ويشربوا الخمور و يحتفلوا بقدوم العيد, ثم يسهرون حتى الصباح للذهاب لأداء صلاة العيد.
يضرب حسن أخته الصغرى بدعوي تربيتها, يحرمها من الخروج مع صديقاتها لأنه سئ الظن بها دائما.
يحاول حسن أن يقيم علاقات مع أكبر قدر ممكن من الفتيات وإذا تجاوبت معه إحداهن، ظن أنها \”سهلة و رخيصة\”, وحين أحس أن الله تاب عليه وأراد ان يتزوج، طلب من أمه أن تبحث له عن فتاة مهذبة مطيعة أو كما يقول دائما: \” قطة مغمضة\” من عائلة محترمة متدينة مثل عائلته.
(7)
يناقض المصريون أنفسهم, يأخذون من الدين قشوره فقط, يغطون بها أرواحهم الناقصة, ويمثلون بها على أنفسهم وعلى الناس أنهم أكثر قربا إلى الله.
وقد حاول د. جلال أمين تفسير مظاهر التدين المنتشرة بقوة في المجتمع منذ مطلع الستينيات في كتابه \”ماذا حدث للمصريين\” ,ووجد أن التفسير الوحيد لهذا التدين المفاجئ هو محاولة الإحساس بالقيمة الذاتية, فالإنسان السوي هو من يحس أنه ذا قيمة في مجتمعه, ينفعه وينتفع منه، فيفخر بنفسه وبجمعه, أما الإنسان الناقص الذي يعيش في مجتمع ناقص لا يجد قيمة لذاته، لا يجد شيئا ليفتخر به على غيره, ليعزز من مكانته ويفضله على من هم أفضل منه, فيستخدم الدين ستارا له, يغذي به طاقته الداخلية السوداء ويفصل منه عباءة يتباهى بها أمام الآخرين ويُزايد بها على تدينهم واعتقد أن هذا صحيح للغاية, وإلا لما كنا وجدنا هذه النماذج \”المتدينة\” المتناقضة الناقصة, لما كنا وجدنا رجلا يحكم على تدين امرأة من حجابها وعلى تدين الرجل من لحيته وسبحته, لما كنا وجدنا الدعاة الذين يسبون الغرب الكافر ذا الإنجازات الطبية والعلمية, مادحين في أمتنا بأنها خير أمة اخرجت للناس, كيف نكون خير أمة ونحن نهتك العرض ونقتل ونُفجر ونضطهد باسم الدين؟!
(8)
قرأت منذ بضعة أيام خبرا عن انتشار البلبلة بين أقطار الخليج العربي بسبب تغريدة لكاتبة سعودية تُدعي \”ميسون السويدان\” قالت فيها: \”أتيه في شوارع مكة ابحث عن الله, ولم أجده, حتى في الحرم\”.. اتهمها الكثيرون بالكفر والالحاد وسبها الكثيرون, فأجابت عليهم في تدوينة صغيرة قائلة: \”لم اجد الله في مكة لأني رأيت من يدَّعي أنَّه يمثِّل الدين بضرب أرجل النساء بالعصا.. لم أجد الله في مكة لأني رأيت آلاف الفقراءالمساكين يقفون بين يدي الله بأثوابهم البالية فيجبرهم الإمام أن يدعوا للملوك والسلاطين الذين لا يصلّون أصلا.. لم أجد الله في مكة لأن قلبي بكى مما فعلتموه بهذه المدينة الطاهرة وبالمسجد الحرام.. ذهبت إليها بحثاً عن الله.. فلم أجدْه عندكم.. نعم, ما وجدته إلا بقلبي\”
يحتاج المصريون إلى أن يتبعوا مبدأ السويدان وأن يبحثوا عن الله في قلوبهم.. إن طريق البحث عن الله ليس في الصلاة والحج والنقاب وقراءة القرآن والصوم, ذلك الصوم المصحوب بنظرات جائعة للنساء في الطرقات والعراك وجملة: \”ماتخلينيش افطر عليك\”, الطريق إلى الله لا يكون بتشغيل القرآن على أعلى صوت، ولا يكون بختمه 1000 مرة في شهر دون تدبر في معاني الآيات, ولا بالحكم على الناس وعدم تقبل الآخرين.
إن الله أرقى من ذلك, والطريق إليه أعلى وأبرح من هذا بكثير.. طريق من شدة صعوبته تحسبه سهلا, طريق حين تسير فيه إلى الله شبرا يسير إليك فيه ذراعا, وحين تسير إليه ذراعا يسير فيه إليك باعا.. طريق ينطبق عليه مقولة شهاوية فتاة الليل للخواجة في مسلسل \”الخواجة عبدالقادر\” عندما حثها على التوبة: \”طريج ربنا واعر جوي يا خواجة\”.