أحمد مدحت يكتب: نوستالجيا الإعلانات بحثا عن وهم الفردوس المفقود

يبدو للمتابع أن أكثر من يهتمون بعملهم حقا في مصر، وخاصة في هذه الأيام، هم العاملون في وكالات الدعاية والإعلان، التي تتولى الحملات الدعائية للشركات التجارية الكبرى.

هؤلاء القوم يعرفون كيف يبيعون منتجهم حقا.. يدركون جيدا تلك النقاط الحسّاسة في الوعي الجمعي، التي يتولد عند الضغط عليها استجابة مؤكدة، لا شك في حدوثها.

في فيلم \”عمارة يعقوبيان\”، وقف عادل إمام صارخا: \”أنا أقدم واحد في العمارة دي!\”، وبدأ في اجترار ذكرياته عن القاهرة التي كانت أجمل من باريس، قبل أن يصيبها سرطان القُبح.. كان هذا المشهد إيذانا بانطلاق فيضان النوستالجيا؛ لينفجر في ربوع مصر المحروسة، أو التي أقنعونا في الكتب المدرسية أنها \”محروسة\”.

ازدادت موجات النوستالجيا في التدافع المتزايد عقب اندلاع ثورة 25 يناير.. وهذا يدفعنا للتساؤل: هل ساءت الأمور بفعل الثورة، أم انكشف سوءها فقط للناظرين؟

عندما تسوء الأحوال، في مجتمع ما، وتصل إلى مراحل متقدمة في الانهيار والتردي، يلجأ البشر إلى \”النوستالجيا\” بشكل لا إرادي.. ونحن هنا، في مصر، نعاني من حالة متقدمة ومتصاعدة الوتيرة من التآكل المجتمعي، على كافة الأصعدة.. من يطالع تفاصيل المجتمع المصري، يجد نفسه مطالعا لحالة فريدة من الهزيمة المجتمعية، على كافة الأصعدة، ولكافة التيارات.. هذا بلد مهزوم، حتى الغالب فيه يشعر بقدر من الهزيمة.

تنظر؛ فتجد الجميع مهزوما.. تبحث عن منتصر ما، هنا أو هناك؛ فلا تجد سوى المزيد من المزايدات، والتطاحن.. بؤسٌ عام مكتمل الأركان.

ما نعانيه اليوم، في مصر، هو صدمة التعرُّض للحقيقة.. أتت الثورة لتفتح الجراح، وتكشف مستور مجتمع يتآكل ذاتيا منذ آلاف السنين، تحت وطأة قيم وممارسات الاستبداد والفساد والأبوية.. وكالمتوقع، لم يتحمل معظمنا صدمة الحقيقة، وعندئذ، بدأت النفس البشرية، داخل كل واحد منا، في ممارسة هوايتها الأكثر إمتاعا بالنسبة لكل إنسان: الهروب من ألم الواقع بأي شكل، حتى لو كان عن طريق خداع النفس.

عبر الفيسبوك، يتبادل الناس صور مصر خلال العهد الملكي، قبل وقوع حركة الضباط عام 1952، يتشاركونها ويرسلونها لبعضهم البعض، على أساس أنها صور مصر في العهد التي كانت فيه أجمل من باريس! وعلى طريقة \”زكي باشا\” في فيلم \”عمارة يعقوبيان\”، يصرخ كل منهم على طريقته، ويبكي على أطلال البلد الجميلة التي كانت.. حتى لو كان معظم هذا الجمال محض قشرة، تداري أسفلها العفن المتراكم، والفقر المُدقع الذي كان يضرب في أساس البلاد والعباد، بمنتهى التوحُّش، في تلك الحقبة التي يعتبرها البعض، الآن، عهدا للجمال والحرية!

صُنّاع الإعلانات في بلادنا يدركون كل هذا جيدا.. النوستالجيا هي بوابتهم السحرية لقلوب المشاهدين، سواء عن طريق استدعائها بكامل شحنتها الشجية، أو عن طريق السخرية من هذا الاستدعاء، كما جرى في إعلان \”كرانش\” الشهير، حيث البطة براس قطة!

كعادتها في كل رمضان، منذ ثلاث سنوات، طالعتنا شركة \”بيبسي\” بإعلان جديد، يسير على نفس الخط الذي اعتادته الشركة في السنوات الأخيرة، حيث يتم استدعاء النوستالجيا في أعتى صورها، وأكثرها وضوحا، بل وابتذالا في بعض الأحيان، من فرط تكرار اجترار نفس التفاصيل.. هنا، يتم استدعاء الموتى من قبورهم! عن طريق التكنولوجيا الحديثة، يتم استدعاء النجوم الذي غادرونا وماتوا؛ ليسيروا ويضحكوا ويتحدثوا، كما كانوا يفعلون في حيواتهم.

لكن، هل كان هذا الماضي جميلا بحق؟ هل كان الناس في حينها يرونه جميلا كما يرونه الآن، بعد أن أصبح ماضيا؟ كتب العديد من أصدقائي عبر فيسبوك يقولون إنهم لم يستطيعوا كبح دموعهم، عندما رأوا \”احمد زكي\” يلوح لهم عبر الشاشة في الإعلان المذكور.. أليس هذا هو نفس الرجل الذي نهشت في روحه الصحافة، وهو حي، واتهموه بالجنون، وكل نقيصة، ووضعوه تحت ضغط عصبي ونفسي لم يخرج منه إلا عن طريق إبداعه في أداء أدواره؟ أليس هو نفس الرجل الذي عاش بيننا مكتئبا وحيدا، لا يجد فرحته إلا أمام الكاميرات؟

لا ألوم صُنّاع موجة إعلانات النوستالجيا؛ فهذا هو عملهم على كل حال.. مهارتهم تكمن في اصطياد نوازع البشر الخفية ورغباتهم التي يخفونها.. اللوم الحقيقي يقع على من جعلوا واقعنا مأساويًا، ودفعونا دفعًا لاجترار الماضي، وإيهام أنفسنا أن الجنة كانت هنا على أرضنا، يوما ما، في الماضي.. فقط لأنه ماض! لأننا نخشى مستقبلنا، ونعاني تحت وطأة إحباطات الحاضر، بكل ما فيه.. لا يمكنني أن ألوم هذا العجوز على هروبه من بؤس حاضره لماضيه، وهو يحيا على هامش الحياة، دون أن توفر له الدولة، في آخر أيامه، رعاية صحية أو معاشا ماديا يكفل له حياة كريمة.. ولا يمكنك أن تلوم هذه الفتاة، التي تمشي في الشارع متلفتة حولها كاللص؛ خوفا من هجمة متحرش قد يغافلها من أي اتجاه، على هروبها من حاضرها القاسي لدفء الماضي.

المهم أن تتحسن الأمور، ولا تستمر في السير من سئ إلى أسوأ، كما هو واقع الأمر منذ سنوات طويلة؛ حتى لا تطالعنا إحدى الشركات، في رمضان المقبل بإذن الله، بفكرة إعلان جديد، يستدعي النوستالجيا في أعتى تجلياتها؛ فيصوروا إعلانهم من المقابر، بصحبة الجثث المتحللة لمن أحببانهم في الزمن الجميل! أخاف حماسة الشباب العاملين في مجال الدعاية، وأخاف أكثر من العبث المصري إياه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top