معتز حجاج يكتب: الدراما الرمضانية.. هننقد بأدب

داخل بلاتوه أحد الأفلام التي تم تصوير جزء منها بأسوان، فُتح لي عالم طالما شاهدته من الخارج، أتجول منبهرا بين الكاميرات، واستاندات الإضاءة، وعدد من العمال والممثلين، المكان ساحر لطفل لم يتجاوز العشر سنوات، ويعشق التمثيل مثلي، لا أعلم كم من الوقت قد مر على وقوفي هناك، قبل أن يجذبني من شرودي صوت صديق العائلة، تقدمت منهم بخطوات حذرة مترقبة، ثم مددت يدي مصافحا عدد من النجوم كنت أحلم يوما ما بمجالستهم، تلقيت قُبلة مُلاطفة على خدي من نجمتي المفضلة وبطلة العمل، لن أنساها بالطبع ما حيت.

لم تكن القُبلة الرقيقة وحدها هي سبب حفر ذلك اليوم في ذاكرتي، كان لسقوط عامل الإيهام، وإنقشاع الخيال أمام الواقع العامل الأكبر، دخلت إلى هنا حاملاً تقديراً وإحتراماً كبيرين للفن، وخرجت مقتنعاً بأول مسلمة عنه، أنه لا يوجد أحد بهذا المكان يقدر عمله، الكل يرى فيه مجرد أكل عيش فقط، ومنهم من يرى في عائده \”مال حرام\” يتمنون على الله استبدال مصدره، كما قال أحد عمال الإضاء لمواطن من المتجمهرين حول موقع التصوير، وكل ما سمعته في لقاءات النجوم على الهواء عن قيمة الفن ورسالته، ما هو إلا تحلية بضاعة \”بلغة السوق والسوقة\”.. بعد ذلك حاولت كثيرا أن أتناسى هذا اليوم -عدا القُبلة طبعا- خلال مشاهدتي للأعمال الفنية، لكن دائما ما كنت أستشف إحتقارهم لذواتهم ولجمهورهم إلا النوادر منهم، سواء على شاشة السينما أو التليفزيون، في موسم المسلسلات الرمضانية هذا العام، كانت نبرة الاحتقار هذه هي الأعلى تقريبا، والابتعاد عن الواقع وتزييف الوعي مؤشرات واضحة على ذلك.
من ضاقت بهم مواهبهم وسع لهم عالم الدراما الرمضانية:
هو أول ملمح من ملامح المسلسلات، ستجد مذيعا فاشلا قرر أن يشق طريقه في عالم التمثيل من باب الدراما التلفيزيونية، ونجح في الأخيرة لاجتهاده ودأبه في التردد على مراكز الصحة واللياقة، لكنه للأسف لا يزال يحمل من أثر مرحلته الفاشلة عيبا خطيرا، يلتفت لعدسة الكاميرا رأسيا دون إرادة منه وبشكل متكرر.. راقصة قررت أن تستنفذ آخر ما تبقى لها من جسد متناسق ووجه أعيته مساحيق التجميل، فاخترقت مجالا لم يكن لها من البداية، لتؤدي دورها على الورق بإسلوب غاية في الفجاجة، وإنفعالات مضخمة لدرجة تبدو غير حقيقية، ومشاهد كان لا بد أن يتم تمثيلها بنبرة هادئة، تخرج لك بصوت عال، وتعبيرات وجه مكثفة، وحركات يدين عصبية ومتشنجة، أداء تمثيلي يصلح بإمتياز لمرحلة السينما الصامتة، حيث كان على الممثل مضاعفة إنفعالاته كي تتضح للمشاهد.
الأولوية في الدراما لابناء العاملين:
قص لي صديق قريب من الوسط الفني عن فنانة مشهورة، أنها تأبى أن تتوسط لقريب لها في الظهور بجوارها على شاشة السينما، لكن لا مانع لديها من أن تُسند له دورا ثانويا أو حتى بطولة ثانية في أحد أعمالها التلفيزيونية، لا بأس، فمشاهد التلفزيون لا يستحق الحصول على جودة فنية كاملة، وهو لا يطلبها حتى.. في جميع مسلسلات هذا العام ستجد ممثلا أو اثنين أو أكثر أبناء فنانين كبار أو أنصاف كبار، بالتأكيد ليس من حقنا استبعادهم لمجرد أنهم أبناء ممثلين، ذلك إن كان لديهم ما يقدموه للمشاهد فعلاً، لكن إذا ما كان لا يمتلكون غير نسبهم وحسبهم رأس مال فنيا، مضافا إليه عامل الوسامة والجمال ولا شيء أكثر، ويؤدون أدوارهم كما تؤدي سارة سلامة -نجلة الممثل أحمد سلامة وزميلها في مسلسل حواري بوخارست- بإسلوب \”أنا بيضة وفلة وإشطة\”، فهذا يدعونا للمطالبة بإسقاط ما أصبح عرفا سائدا ومُسيدا، عرف أبناء العاملين، وتوريث الفن، من أجل صحة نفسية سليمة لأبناء المشاهدين.
فيها حاجة حلوة ستجدها على الشاشة فقط:
لا أعلم بالضبط هل ميزانية مدينة الإنتاج لا تسمح بتجديد مواقع التصوير المفتوحة بها؟ أم أن الوسط الفني منعزل عن مجتمعه؟ أم أنها رغبة في عدم الإشتباك مع الواقع وتعكير صفو المشاهد؟ أم كل ذلك معاً؟
فكيف يمكن تفسير مسلسل تدور أحداثه في حي شعبي، والحارة التي تضم أغلب مشاهد التصوير لن تجهد نفسك لتتذكر بأي مسلسل سابق ظهرت، نفس محل البقالة والمقهى والمطعم، ولا مكان لفاترينة سجائر أو خدمات موبايل مما إمتلأت بهم شوارعنا مؤخراً، بخلاف الشوارع الفارغة إلا من قلة من المارة المهذبين.. والأغرب من ذلك، لن ترى ممثلة واحدة بالعمل محجبة، ولا يوجد متحرش واحد بالحارة يتعقبها إلى عقر دارها، رغم عدد الممثلات اللواتي يحتشد بهن العمل، وقد يكون موقع التصوير ممتلئا عن آخره بعضوات من فريق العمل المحجبات!
هذا العام لم يُكتف بتشويه المجتمع على الشاشة الصغيرة، وإعطاء صورة مزيفة له، بل زاد عليها رغبة صُناع ما يقارب السبعة أعمال في التحليق بعيدا عن الأجواء المصرية، فجزء كبير من حلقات المسلسلات حتى الآن تدور أحداثها خارج مصر، وبالأخص في تركيا مجاراة لأعمالها الدرامية، التي ما كان لها أن تلقى هذا النجاح لولا أنها جسدت مجتمعها، ولتحقيق هدف الخروج من مصر ينقل المؤلف الأحداث نقلات غير منطقية، وعلى إثر حبكات ضعيفة ومفككة وغير متماسكة، تجد نفسك من فيلا بإسطنبول إلى كومباوند في الساحل الشمالي.. وفي بلد مليء بالأزمات والمشاكل، ويشوب علاقات أفراده الكثير من التوتر والعقد، لا يختار كتاب السيناريو منها إلا العقد العاطفية، وجمل حوارية معتادة يجرى إعادة تدويرها!
المسلسلات التاريخية.. نقدم لكم الرواية الرسمية للدولة:
إذا كان لقراءة التاريخ شغف، فبالغ الشغف والأثر عندما ترى الشخصيات والأحداث التاريخية مجسدة في عالم درامي، وسيكون من الصعب توجيه اللوم للمؤلف على عدم التدقيق التاريخي، أو تبني الرواية التاريخية الرسمية للدولة، بل ونزيد، من حق كل كاتب أن يعبر عن وجهة نظره في وقائع التاريخ، لكننا هنا بصدد تزيف فاضح للتاريخ، وعدم الإلتزام بالقدر الأدنى من الموضوعية، منها تسليط الضوء على أعمال العنف التي تبناها النظام الخاص للإخوان، والتجاهل التام لتصرفات النظام الخاص لحزب مصر الفتاة والوفد، والتي كانت تقوم -كالنظام الخاص لجماعة الإخوان- على خطاب الجهاد والتحفيز الديني، فإضطراب طبقة الانتلجنسيا وميلها للعنف وسأمها العمل السياسي وصعود الفاشية، كانت سمة مرحلة الأربعينيات والنصف الثاني من الثلاثينيات، ليس في مصر وحدها بل في أوروبا أيضا.. كل ذلك لا يهم طالما خصوم الدولة ظهروا بمظهر الأشرار، ومفرقي جماعة الوطن، مع إن أول مؤتمر للمسيحيين -أحد عنصري الأمة- للرد على الهجمة الطائفية ضدهم والمطالبة بحقوقهم كانت عام 1911، أي قبل تأسيس جماعة الإخوان بسبعة عشر عاما، وكان المؤتمر بالأساس ردا على حملة الحزب الوطني العثمانلي الطائفية تجاههم، وهو الحزب الذي يعده – مؤرخي الدولة ومنهم عبد الرحمن الرافعي- مؤسس الوطنية المصرية.
هننقد بأدب أعمال لا ترقى للنقد أساساً:
قبل حلول شهر رمضان بأيام قليلة، وجه مصطفى الفرماوي أحد فريق عمل مسلسل \”أستاذ ورئيس قسم\”، رسالة من حسابه الشخصي للنقاد على السوشيال ميديا، تتسق مع نغمة عناصر الجيش والشرطة: \”إنت نايم في بيتك وإحنا بنحميك\”، فقد سبب مطلبه المشروع -وهو النقد بأدب- بأن من عناصر العمل، من لم يشهد مولد ابنه لأنه كان منهمكا في التصوير، وكأن المتلقي يحيا طوال اليوم في هناء، ويعمل في أجواء كلها سعادة، يتجاهل هنا أستاذ مصطفى أهم مبادئ مهنته: \”المشاهد يحكم على المنتج النهائي ولا معنى للنظر وراء الكواليس\”، لكن ما يجعلني في غاية الحبور من منشور الفرماوي، أنه أخيرا أصبح للمتلقي صوت يزعج صناع الفن، إذا ما إعتبرناه فن، من خلال النقد أو إبداء الرأي أو التعقيب على الأعمال الفنية عبر حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل، وقد نرى غدا بفضل رأي الجمهور أعمالا ترقى لمستوى النقد الذي يزعج أولائك العاملين في تلك الصنعة المنهارة حاليا في مصر، ذلك إذا ما قرر أستاذ مصطفى الفرماوي وأمثاله الإتقان في عملهم أكثر، وترك حرية التعقيب للمشاهد، والاستفادة منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top