فرك الغراء الناشف من على يديه ونفضهما جانباً، وبغيظ أشعل سيجارة محلية الصنع، ضغط بشفتيه عليها بقوة، أخذ نفسًا عميقًا، وبمهارة لاعب النار أزاح بسبابته الطافية من أعلى اللهب، ثم أذاق الخطاب من نارها لسعة أكلت منه دائرة صغيرة، مرر منها وسطاه متهكمًا في قلق، يقضم أظافر يده الأخرى رافعًا على طرف لسانه وسخها باصقا إياه بعشوائية، سراً يخاطب نفسه:
((أول مرة في حياتي يأتيني خطاب، إلا من \”سوكة\” تلك الفرسة الشاردة التي أحبتني قبل أن أتزوج من أم العيال، ترى هي من تشاغلني وتتغنج عليّ؟.. لها في تلك الألاعيب باعًا.. لَكن لا، من كتب هذا قد جاوز الإعدادية.. داهية تصيبك يا \”تفاهة\”، حشيشتك مضروبة..))
باستمالة قالت زوجته وهي تستند بمؤخرتها الممتلأة على طرف الطاولة مرتدية الشاف من الثياب:
((صلاح..))
أفاق من سرحه مخضوضًا:
((ماذا؟؟.. ))
– ((ألست أنا أولى من الورقة بإصبعك؟))
– ((ادخلي وسوف ألحق بك))
فعلا ما فعلا.
وبعد الانتهاء وخمد لهيب الأشواق، أشعل صلاح سيجارة وهو مستلقي على السرير وسألها:
((من أتى بهذا الخطاب؟))
– ((هل هذا وقته؟))
رماها بنظرة غاضبة..
– ((وجدته تحت عَقِب الباب، قبل أتيانك من الورشة بقليل.. ولماذا السؤال؟ أبه مكروه؟؟))
فكر قليلاً ثم ناوله لها: ((اقرئي..))
أخذت تنظر للخطاب مليًا: ((ما هذا يا رجل!؟.. اتتخذني سخريا))
– ((ما بك يا امرأة!؟))
– ((عندما تزوجتني أخبرك أبي أن معي الابتدائية، يعني عربي فقط.. ليس لي في اللغات الحية ولا الميتة)) ثم مصمصت شفتيها.
– ((لغات!؟.. يا ولية يا مخبولة))، خطف الخطاب من يدها ونظر إليه فلم يعي شيئًا، راح عقله في ألف ألف طريق، ما بين حشيشة \”تفاهة\” وسحر \”سوكة\”, وأعمال المشعوذين، وظل مسجى على فراشه، صامتًا؛ وهي تلح في سؤالها -صامت- ما حل بك يا زينة الرجال؟.. عينٌ وأصابتك –تلطم وجهها- لقد عقدوا لك عملاً.. يا بعلي، يا زوجي, يا أبا العيال، وهو يرد بسكون جوارحه وشرود ذهنه، وامتناعه عن مجاراتها أطاح بنحيبها وولولتها عرض الحائط، حتى شاركته ظلمة الليل وسكينته عَوَص الفهم.
وعند آذان الفجر انتفض من فراشه، وتململت هي في نومتها، يتوضأ، لا يتذكر الوجه قبل اليدين أم القدم قبل الاستنشاق \”إن الله غفورٌ رحيم\” كانت سبيله للنزول وإتمام الوضوء، رمى علبة السجائر جانبًا، وفي جيبه الخطاب، عازمًا على أن يروي للشيخ \”عمران\” مصابه بعد الصلاة.
وعلى باب المسجد تذكر جنابته \”ما البيت ببعيد، سأعود وأغتسل\” – \”لن ألحق بالشيخ.. سأدخل وأنتظر في كنيف المسجد حتى ينتهوا\”
……….
فتحت الزوجة الباب عندما طُرق، سلمها البوسطجي ظرف أحمر، بختم ذهبي بارز لرأس ذئب، حدقت في الظرف لفينة، عدلت من غطاء رأسها المنزلق مستفسرة عن عدم وجود عما يشير مَنْ المرسل؟! لا طابع، لا عنوان، لا ساعي بريد، قد اختفى من أمامها، مجرد اسم زوجها (صلاح السيد أحمد)، أغلقت الباب، وضعت المظروف على الراديو الثلاثيني القديم، وما كان يكبلها شيء عن فضه إلا خوفها من دجل الدجالين.
بركت، وفركت، ودارت، وجالت في أنحاء المنزل، وقِبْلَةُ وجهها بعيدة عن مكان الجواب، حتى استقرت على أن من حَضَر العفريت يصرفه، ستأتي بزوجها من الورشة ليرفع عن كاهلها هذه المصيبة، صينية صاج مقلوبة سكن تحت ظلامها الظرف، وتهديدٌ بالذبح لمن يمسها من العيال حتى تعود.
بسملت، ودعت، واستعاذت، وأمنت، يدها على صدرها والأخرى على وجهها لتمنع شر ما تحت الصينية.
……….
– ((أين الأسطى صلاح يا \”تفاهة\”؟))
تفاهة مضطرباً: ((الأسطى صلاح!!..))
ثم أردف: ((أأأ..في مغلق الخشب و..و.. سيأتي في خلال ساعتين))
– ((ليلتك طين يا \”تفاهة\”، يا صبي الشؤم.. أتكذب عليّ، لو لم تنطق مكانه في الحال، سأخبره عما فعلته أول أمس مع \”سوكه\”))
بثبات يخفي شيئًا قال:
– ((هذا تهديد ليس له عازه.. إن الأسطى لم يأتي اليوم)) ثم أدار مكنة التقطيع، فلم يسمع برطمتها وهي تنصرف.
وفي نفس الوقت دخل صلاح من باب الشقة، ونادى: يا أم سيد.. يا أم سيد.. أجاب سيد: أمي خرجت..
– أين ذهبت؟
– لا أعرف
– وأين إخوتك؟
– يلعبون في الحارة.
– سأمدد قليلاً على الفراش، إن جاءت أمك وعفاريتها أخبرها أن لا تقترب من حجرة النوم.
ارتمى صلاح على الفراش من بعد ما قاساه من نومة الكنيف ليلة أمس، غط في نومٍ كابوسيّ، ورقة الخطاب تطير كالخفاش في حجرة مظلمة ضيقة تلسعه كلما لمسته فيتوجع متوسلاً، يستيقظ مفزوعًا ثم يعاود النوم، فيعاود الخطاب بلسعه.
بعد ساعات فتحت بطة (زوجته) الباب وهي تتمتم بالذِكْرِ وتستعيذ بالله من الشيطان ومفاسد الجن والخدام، ولما لم يلمع في عينيها صاج الصينية، فرأت أن أحدهم رفعها وأخذ ما تحتها…
(تتبع)