ثمة مقولة حكيمة لإحدى المدارس الفلسفية تقول: \”الكُل أكبر من مجموع أجزائه\”.. وهي تعني ببساطة أن أي شيء مكون من أجزاء، هو أكبر وأشمل وأوسع من مجموع هذه الأجزاء وهي مفككة.. هكذا فهمتُ العبارة.
وهكذا التاريخ.. صحيح أن من الضروري أن تقوم من وقت لآخر بتفكيك أجزاء الحدث أو الحالة التاريخية وتنظر في كل منها على حِدة، لكن عليك أن تدرك أن الفارق كبير جدا بين التفكيك والتأمل من ناحية، والاجتزاء للنص التاريخي من سياقه من ناحية أخرى.
مثال بسيط: هل تعرف المقولة الشهيرة: \”سعد زغلول قال مفيش فايدة\”؟
غالبا ما تقال هذه العبارة باعتبار أنه قد قالها عن المصريين، وأن لا فائدة من انصلاح أحوالهم أو نجاحهم في نيل الاستقلال والحرية.. هل تعلم أن ثمة قصة أخرى تقول إنه قالها في مرضه الأخير لزوجته السيدة صفية زغلول عندما يئس من العلاج فقال: \”مفيش فايدة يا صفية.. غطيني\”.
ماذا عن الحديث الشريف الشهير: \”لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة\”؟
سأقص عليكم قصة.. عندما أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسله لملوك وحكام بيزنطة وفارس ومصر والشام، تقبّل كلهم منهم الرسالة باحترام، ما عدا كِسرى أبرويز، فقد مزقها وغضب قائلًا: \”يقول لي هذا وهو عبدي؟\”، وأرسل إلى الحاكم الفارسي على اليمن يأمره بالتوجه للمدينة لاعتقال الرسول أو إحضار رأسه، فعندئذ علم الرسول بأن الله قد سلّط على كِسرى ابنه شيرويه الذي قتله واستولى على الحكم، وأخبر رجال حاكم اليمن أن الوحي قد جاءه بهذا الخبر.
عندما علم باذان-حاكم اليمن من قِبَل كِسرى- بذلك تأكد أنه يتعامل مع نبي صادق، فأسلم هو ورجاله.
نتيجة لهذه التطورات كان الرسول يحرص على معرفة أخبار التطورات في فارس، وهو أمر طبيعي ،لأن خروج اليمن من سلطتهم قد يترتب عليه تحركهم لغزوها- وقد أصبحت منطقة مسلمة- أو حتى غزو المدينة.. وذات يوم علم بأن الاضطرابات السياسية في بلاد الفُرس قد بلغت حد سقوط حكم كسرى شيرويه بن كسرى أبرويز، وأن الفراغ السياسي قد دفع رجال الدولة لتولية ابنة لكِسرى على حكم البلاد، فكان تعليقه على ذلك: \”لن يفلح قوم ولوا امرهم إمرأة\”..
بسبب هذا النص يقع الخلاف بين أولئك الذين فسروه بأنه نصٌ عام يشمل كل الحالات، وهؤلاء الذين يقولون بأنه يخص تلك الحالة فحسب، بينما ظهرت آراء وتوجهات أخرى مثل الذين يقولون إن النص يعني \”الإمامة العظمى\” -أي الخلافة- ولا يعني مناصب المُلك والقضاء والرئاسة والحكومة..إلخ..
ولسنا هنا في مجال للمفاضلة بين هذه التفسيرات، لكن دعونا نعترف أن نسبة ضخمة ممن يعتبرون أن هذا النص -أعني الحديث- عام ومطلق ويشمل كل حالات تولي المرأة للمناصب القيادية، هم ممن وصلهم الحديث مجتزءا عن موقف قول الرسول -عليه الصلاة والسلام- له.. بالتالي فسواء كان موقفهم من تولي المرأة للرئاسة أو رئاسة الحكومة أو ما إلى ذلك موافقًا للصواب أو الخطأ، فإن أساس موقفهم خاطيء وقاعدته رخوة لأنهم بنوه على مجرد نص لا يعرفون ظروف وجوده.
……….
وما دمنا قد تطرقنا للنص التاريخ \”الديني\”، فسنجد أمامنا إشكالية مستفزة جدا:
فالمفترض أن الحدث/الموقف/القول هم أبناء زمانهم وظروف \”ولادتهم\”.. صحيح أن بعض الأقوال والمواقف تصلح للإسقاط على أزمنة وأحوال مختلفة، أو تصلح للاسترشاد بها، فيما يتعلق بالتفاعل مع معطيات هذه الأزمنة والأحوال.. إلا أن هذا لا ينطبق على كل المأثورات التاريخية. ومنها:الأحاديث الشريفة!
بلى.. فكمشتغل بالتاريخ ألاحظ أن نسبة ضخمة من الجهل بالتاريخ وأسلوب قراءته والنظر فيه، تأتي من منبع التقديس المتشنج لبعض الأقوال، لأنها منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم أو للصحابة والتابعين رضي الله عنهم.. لأن الذي يقدس نصا -أيا كان مصدره- يمتنع عن النظر فيه بنفس جرأة النظر في باقي النصوص \”العادية\” بالنسبة له.
مبدئيا، فأنا لا أعترف بمسألة أن \”صحيح البخاري\”- أو غيره من كتب الأحاديث- هو \”أصح كتاب بعد القرآن\”، فمن ناحية فإن القرآن الكريم كتاب إلهي مقدس كامل لا تجوز مقارنته بعمل هو \”مجهود بشري صاحبه قابل للوقوف على الصواب أو للوقوع في الخطأ\”، ومن ناحية أخرى فمع كامل احترامي للمجهود الذي بذله الإمام البخاري وغيره، إلا أن فكرة تحصين نص كتبه إنسان من مجرد التشكيك والنظر هي تقارب فكرة الوثنية في ذهني.
لكن مسألة صحة أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما ليست موضوعنا هنا، على الأقل حتى الآن.. موضوعنا هنا هو \”سياق وجود الحديث\”.. ما هي ظروفه وملابساته؟ هنا تواجهنا الإشكالية سالفة الذكر: فهل نفرض معاملة واحدة ومستوى واحد من التدقيق في ارتباط النص بالظروف الزمنية والمكانية وغيرها من المعطيات المرتبطة بميلاده لمعرفة مدى قابليته للتطبيق والإسقاط على \”حالات\” متأخرة زمنيا عنه؟ أم أن علينا أن نميّز الأحاديث النبوية فنحصّنها من هذا التدقيق ونتعامل معها كـ \”قواعد أبدية\”؟
مع كامل احترامي لكل الآراء، لكنني أرى الإجابة شديدة البساطة، فطالما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو \”إنسان\” بعثه الله تعالى لـ \”بني الإنسان\”، وطالما أن \”الإنسان\” -بشكل عام- هو أهم عناصر التاريخ، بالتالي فلا يوجد أي مبرر لأن نفصل عن هذا الرسول، وكل ما يتصل به صفة \”الإنسانية\”.. صحيح أنه \”لا ينطق عن الهوى\” وأنه \”إن هو إلا وحيٌ يوحَى\”، لكن وضع الأحاديث الشريفة في إطارها التاريخي والنظر لها داخل هذا الإطار، لا يطعن في الرسالة ولا الوحي في شيء.. فقط هو يضع نطاقا زمنيا ومكانيا حول الحديث، فلا يتوسع في تطبيقه على حالات تختلف أطرها الزمانية والمكانية.. وهو ما ينطبق على كل النصوص التاريخية، فأين المشكلة؟ ……….
كذلك فثمة مشكلة أخرى تتعلق باقتطاع النص أو اجتزاءه، وهي تعرُض الشخص التاريخي المنصوب له النص للظُلم.. سأعطيكم مثالًا:
في العصور الوسطى -تحديدا في العصر المملوكي وأكثر تحديدا عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون- تجددت الهجمات المغولية على الشام.. كان المغول قد أسلموا، لكنهم بقوا على اعتناق فكرة تفوق الجنس المغولي، فكانت غاراتهم لا تختلف كثيرا في وحشيتها ودمويتها عن تلك التي قادها أسلافهم جنكيز خان وهولاكو.
وباعتبار أن السلطان المتربع على العرش في القاهرة هو سلطان البرين -مصر والشام- وملك البحرين- المتوسط والأحمر- وخادم الحرمين الشريفين وسلطان المسلمين، فقد كان على الناصر محمد أن يجمع الجيش ويطلق النفير العام لمجاهدة المغول، لكن، كانت حالة من الحرج تسيطر على الناس من فكرة محاربة قوم مسلمين مثلهم، فخرج ابن تيمية بمجموعة من الفتاوى التي تبيح مقاتلة المسلم للمسلم دفعا للبغي والأذى والإفساد في الأرض.
بعد قرون من وفاة ابن تيمية، خرجت علينا المنظمات الإرهابية لتتبنى تلك الفتاوى، وتعتبر بموجبها أن أية أرض لا ينطبق فيها الإسلام كما يرونه هم، فهي مسرح للجهاد! وبالتالي فقد أصبح ما يرتكبون من قتل وترويع هو \”جهاد حلال\”، وليس قتلا بغير حق وفسادا في الأرض.
وبدون دخول في تفاصيل يطول أمرها، فإن هؤلاء قد عبثوا بفتاوى ابن تيمية، ولووا أعناقها لتناسب أهدافهم وأغراضهم وممارساتهم، فما الذي حدث؟ ببساطة أصبح ابن تيمية متهما في أعين الكثيرين أنه وغد متطرف محرض على العنف مشجع على سفك الدم والإرهاب.. هؤلاء الذين أوّلوا فتاواه كما يحلو لهم، أخرجوها من سياقها التاريخي والظرفي، وهؤلاء الذين أدانوا ابن تيمية، قاموا بمجاراة هؤلاء في إخراج الفتاوى من سياقها، وحاكموه وأدانوه على أساسها.. والرجل بريء من تفسيرات هؤلاء واتهامات هؤلاء! (ولستُ في سياق الدفاع عنه بشكل عام، لكني أتحدث عن فتاوى مجاهدة المغول تحديدا)
ولكلا الفريقين أتباع لم يفكروا في النظر بأنفسهم في فتوى ابن تيمية وظروفها وملابساتها قبل أن ينساقوا وراءها أو ضد صاحبها.
هل تدركون ما أدى إليه مثل هذا الاقتطاع؟ إنه لم يؤد إلى مجرد تشويه التاريخ، بل إلى انتقال الضرر للحياة المادية متمثلا في أعمال القتل والعنف! اعتقد أن هذا ينفي عن التاريخ فكرة أنه مجرد علم نظري بحت.
……….
هذا عن الكوارث المترتبة عن اقتطاع النص عن سياقه.
فماذا عن \”محاسبة الماضي بقواعد الحاضر، ومحاكمة الحاضر بقواعد الماضي؟\”
(يُتبَع)