حمّور زيادة يكتب: حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها (6-6)

(وفاءً لوعده لزوجه الشابة حُسنة بنت قنديل، قرر الشيخ محمد ود دياب أن يدعو على خصمه القديم الشيخ عبد المحسن القريشابي، انتقاماً لها إذ حرمها القريشابي صداقها.

حذره الخضر عليه السلام أن ثمن الدعاء حرمانه من درجة الولاية واستجابة الدعوة. لكن الشيخ ود دياب لم يهتم، ودعا على خصمه بالحرق.

وبعد أيام بلغه إن حريقاً شب بغرفة الشيخ القريشابي، فأتى على كل كتبه الفقهية، وخرج القريشابي من جوف النار ولياً من أولياء الله.

لم يتحمل الشيخ ود دياب الخبر، فمات حزنا.)

ذهبت روحه في هدوء. ولم يحضرها أيّ من أهل الله الأحياء أو الأموات. وحده حمل أعماله ومضى إلى ربه. ما معه سوى سبعين عاماً وولاية انقطعت.

كان آخر ما قاله دون أن يسمعه أحد:

– أراك عند حوض النبي أيها العبد الصالح.

لم يعلم به بشر إلا حين تسللت ميمونة على أطراف أصابعها ظهراً لتطمئن عليه. صرخت حتى أسمعت المدينة البعيدة. فزع الفقرا في مسجد الباشا. لكن الشيخ عبد المحسن إمام الأولياء قال لهم في حزن:

– اثبتوا. هذا عبد من عباد الله ذهب.

ثم رفع كفيه:

– سلوا لأخيكم محمد ود دياب العافية. فإنه يأتي ربه وحده.

أتم الدعاء ثم نهض قاصداً بيت الشيخ محمد في موكب من الأتباع. وكان كلما مر بمكان خرج الناس يتبركون به ويتبعونه. حتى دخل باحة المسجد القديم في أمّة من الناس. لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يعرفون من الميت.

دخل على أهل البيت فوجدهم قد كفّنوا ميتهم وينتظرون الخروج به عقب صلاة المغرب. فعزا ميمونة بنت الشيخ خوجلي قطب العارفين، مرشد السالكين، منقذ الهالكين، الواصل إلى الله والموصل إليه، علم المهتدين ومظهر شمس المعارف. وبعده جاء اخوتها في بنيهم والحفدة والأسباط. فسلموا عليه بالولاية وقلده كل واحد من السبعة سبحة لالوب ألفية.

حتى إذا صلوا المغرب وهو إمامهم حملوا الميت إلى قبره. أنزلوه والشيخ عبد المحسن يقول:

– العبد المسكين محمد ود دياب يأتيك يا رب وحيداً من شفيع أو حسيب. اللهم فارفق به.

فلما تم الدفن قرأ الفقرا القرآن على قبر من كان شيخهم سبع مرات. وكبّر عليه الشيخ عبد المحسن إحدى عشر مرة، وتلا يس. ثم وقف على رأسه وقال:

– يا محمد ود عيشة، قل لا إله إلا الله تنجو. يا محمد ود عيشة، قل محمد رسول الله تنجو. يا محمد ود عيشة، قل ديني الإسلام تنجو. السلام عليك يا محمد ود عيشة، فقد كنت صاحب طريق جهلناه. فهدانا الله وابتلاك.

ثم طلب من أبناء الشيخ خوجلي السبعة إذن الانصراف فتسابقوا بين يديه يدلونه على الطريق. فرجع في جمهرة أعظم مما جاء بها. تحفه الرايات ويمشي بين يديه الغلمان يدقون الطبل ويتبعه الخلائق. وما رجع إلى بيت الميت سوى قلة من العجزة ما قدروا اللحاق بالولي الصالح. ورجع معهم المضوي. دخل على ميمونة فوجدها وحدها وقد لبست ثوب الحداد. ألقى إليها السلام حزيناً. سألها إن كان ينقصها شيء. لكنها لم تجب.

منع الدمع أن يسيل على خديه والتفت ليذهب. لكنها نادته.

– لبيك يا أم الفقرا.

– شيخك راح يا المضوي. وانت ما عاد لك بقاء هنا. ولا أنا لي عليك أمر.

قال بحرارة:

– يا أم الفقرا أنت ستنا ونورنا ما بقيت الدنيا.

– لي عندك طلب وحيد يا المضوي لا أسألك بعده شيئاً.

– ألبيه يا أم الفقرا قبل أن أعرفه.

أشارت إلى غرفة حُسنة.

– حُسنة بنت قنديل. مسكينة. ما لها أحد هنا. ولا تطيب نفسي لرؤيتها. تأخذها فتعبر بها بحر النيل عند الحلفايا. وحيث تأمرك فاذهب بها. وقل لها تأتينا بعد انقضاء العدة لتحصل على ميراثها.

– أفعل يا أم الفقرا.

ما تردد لحظة. حتى إنه ما استشار حُسنة. بل أمسك بها بغلظة وأمرها أن تمشي أمامه. بصعوبة توسلته أن تجمع شيئاً من حاجياتها فقبل. حملت ما استطاعت ومشت خلفه إلى الزريبة. أطلق الحمار الذي منحه إياه الشيخ عبد المحسن قبل أيام. ركب وأردفها خلفه وسار.

كانت حُسنة تبكي في صمت أول الطريق. ثم أحسها من خلفه تمسح دموعها. قالت له:

– يا المضوي!

لم يرد عليها.

كررت النداء فتجاهلها ثانية. صمتت. طلعت عليهما القمرة. بيضاء حزينة كحالة. نبحهما كلبٌ ما فهشه المضوي قائلاً:

– جر. يحبسك حابس الحوت.

بدأت حُسنة تتكلم.

– يا المضوي! اسمع مني ولا تجبني. شيخك محمد ود دياب راح. ما بقي من العز القديم شيء. حتى في موته ما مات كما يليق بالأولياء. فمن سيعرفك اليوم أو يقبلك عنده وأنت نجيب لولي ما عاد كذلك. هل ترضى لنفسك أن ترجع تلميذاً صغيراً عن عبد المحسن ود حمد أو أحد اخوة ميمونة؟

صكها بصمته. لكنها واصلت.

– يا المضوي أنا ما زولة شر. أنا ما أريد إلا الخير لي وللناس. وهذا الكلام لا أقوله لك إلا لأني أريد لك الخير مثل أخي. أنت نجيب زوجي وكان يحبك كما لم يحب أحداً.

اختلج صدر مضوي بذكر محبة شيخه. أحس بنار الفقد تكوي جوفه. سألته حُسنة:

– هل يرضيك أن تسئ للشيخ محمد في قبره؟

– أموت ولا أسئ لسيدي الشيخ.

تنهدت حُسنة وقالت:

– فماذا تقول له حين يسألك عن زوجته حُسنة؟ أتقول له رميتها في الخلاء عند الأغراب وذهبت؟ يا المضوي أسألك بحق الشيخ محمد هل كنت تعلم إنه يحبني؟

صمت قليلاً، ثم أجاب على مضض:

– أعلم.

– وأنا أعلم أنه كان يحبك. فأنا وأنت آخر من أحب وكان يهتم لأمرنا. فبالله عليك كيف تقول لحبيبك حين يسألك أنك تركتني وذهبت وأنت تعلم حبه لي؟ أتراه يرضى عنك؟

قال في عصبية:

– كل ما حل بسيدي بسببك!

– بل كان الشيخ يحبني ويستخف بأي ثمن لقاء رضائي. فإن كانت هذه محبته لي أتسئ أنت لمن يحبها شيخك؟

تلفت حوله محتاراً. بحر النيل ظهر أمامها يترقرق في الظلمة.

– ماذا تريدين؟

– تذهب معي يا المضوي. أنا أرملة ضعيفة. لا أعرف أحداً في الدنيا إلا من تركت ورائي. ماذا أفعل في الحلفايا أو غيرها؟ من يصد عني عوادي الزمن؟

– أليس لك أهل؟

– لو كان لي أهل ما تزوجت شيخين.

زام المضوي في عدم رضا، فاستدركت:

– أنا لا أعيب على الشيخ محمد. كان رحمه الله حنوناً محباً. وحق سيدي الجيلاني أنا أيضاً أحببته كما أحبني. لكني أسألك الآن وانت نجيبه الأقرب أن تخدمني بحق هذه المحبة.

– تريدين أن أسافر معك؟

– نعم! نذهب إلى سنار. هناك الناس أخلاط. لا يعرف أحدٌ أحداً. منذ جاء الباشاوات تبدل حال البلاد. سنزعم إنك أخي حتى يسهل أن نقيم سوياً. وندبر رزقنا.

وصلا المشرع على بحر النيل. أنزلها عن الحمار. أمسك خطامه لبرهة، ثم تركه وهشه. صاح به:

– عر! عر! ارجع. ارجع.

استدار الحمار. مشى لخطوات، ثم بدأ يعدو مبتعداً. ابتسمت حُسنة في الظلم. قال لها:

– من أين ندبر رزقنا في مدينة غريبة؟

– ألا تحسن صنعة؟

– أحسن أكثر من صنعة.

قادها إلى مركب جانحة على الشط في يتم. أخذ يدفعها بجهده وحُسنة تقول له:

– فأنت تعمل وتكفلنا إلى أن أجد أنا سبيلاً لتدبير أمرنا.

استقرت المركب فوق الماء. قفز داخلها. مد يده إلى حُسنة فأمسكتها وخطت محاذرة داخل المركب. بدأ يجدف. الموج هادئ كنائم. يقلقه مرهما عليه فيتململ لعبورهما ثم يستكين.

قالت له:

– أنت تستحق محبة الشيخ محمد يا المضوي.

– كم كان صداقك الذي أكله الشيخ عبد المحسن.

– هذا أمر مضى يا المضوي فدعه.

– أريد أن أعرف.

فكّرت قلياً ثم صارحته:

– دينار واحد.

– دينار؟

– دينار! أنا ما كنت طامعة في مال يا المضوي. لكن عبد المحسن أذلني لأني بلا سند. أنا وحيدة في هذه الحياة. لو كان لي أهل لطلقني ودفع لي صداقي وإن كان دهب جبال شنقول.

ضحك المضوي. قهقه بعلو صوته في جوف النيل. كرر:

– دينار واحد؟

– يا المضوي الدينار كان يساوي كرامتي. يساوي أماني. كان يساوي قدرتي على حماية نفسي والانتقام ممن ظلمني.

جدّف في صمت. كان يبتسم ويهز رأسه في تعجب.

وحين وصلت المركب منتصف بحر النيل هبّ واقفاً فجأة وصاح:

– الحين يجي الغرق. يا راكب الموج قول الشهادة. الحين يجي الغرق.

فزعت حُسنة بنت قنديل. صرخت وحاولت التشبث بحواف المركب.

لكن المضوي كان يهز المركب بجنون ويصرخ:

– الحين يجي الغرق. الحين يجي الغرق.

وابتلع الظلام صرخات المرأة.

(تمت)

قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top