\”بتفكري أحيانا تتخلصي من حياتك؟\”.. باغتني سؤال الطبيب!
\”ايوة، بافكر امحي ناس من الوجود\”
لم يكن ذاك مقصده، عرفت بعد ما سمعت إجابتي بأذني ولمحت طيف ابتسامة وراء نظارته.. كان يسأل إذا ما كان الانتحار واردا على فكري. كان واردا ولم يكن؛ لم تكن فكرة انهاء حياتي هي المسيطرة ذلك الحين، بل التخلص من حياة أولئك الفاعصين لأرواح غيرهم حتى يزهدوهم فيها. ظل السؤال يطل برأسه على فترات، يتوارى زمنا ثم يعترض طريقي متحديا زاعقا، يخفت بعدها فأظنه تلاشى حتى تفزعني عيونه الحمر على ناصية طريق هجرة النور.
عجبت لنفسي، انا المسالمة حتى الاتهام بالسلبية، المارة على تفاهات البشر هامسة بيني وبين نفسي: \”غلابة!\”، اريد أن محو حيوات من الوجود؟ شافطات الروح هذه وآكلات الأحلام، تفترسها وتترك بقاياها في أجساد الحالمين لتزيد حيرتهم وتثقل عليهم الأيام يجرونها جرا. في الحقيقة: أيوه.. أريد هذه الأرواح هباء!
أتذكر المرات التي وضعتني فيها محاولات التخلص من الحياة وظهري الى الحائط مع فتاة صغيرة تقول يا هادى يا فاتح الأبواب نجنا مما نخاف. أشل يديها، أتشبث بها، اترس جسمي بكل قوتي بينها وبين سور يمكن أن يخذلنا نحن الاثنتان، تتفتت نظارتي تحت أقدامنا المتشابكة حتى تفر لحظة الشجاعة المارقة وأتنفس. وتبقى الذكرى عفريتا رذيلا يقرص الأم فىّ، يزن وراء الضحكات والابتسامات والانتصارات المؤقتة، نزنازا سخيفا في ركن الذاكرة.
يؤرقني أنني افهم الحاجة إلى التخلص من حياه قوامها حروب لا طائل من ورائها.. معارك، انتصاراتها وميض أهبل لا يضيف لأحد شرفا ولا متعة، حياة يجندك فيها الآخرون في جيوش أنت في الأصل تحاربها، سلاحهم نقاؤك ووقودهم أحلامك.. يتسلون \”بأزأزة\” حياتك حتى تأتى محطاتهم فيهجرونك مع الشك، مع الهزيمة، مع العفريت.. أقلق من يوم أتعاطف فيه ويخذلني أيماني بالمستقبل.. قلق من يوم أتعاطف فيه ويخذلني أيماني بالمستقبل.. تزورني أمي تذكرني روحها أن خوفي من العفريت يقوّيه.
تدافع روحي عن فتاتي، عندها حق، حمل ثقيل مش للورد المفتح، الحياة لازم تكون لها مش عليها، الحق يقول ذلك، العدل يقول ذلك، الحياة نفسها تقول ذلك.. هي المستقبل ولو كان مازال لينا أخضر، مصيره يشد ويجمد، الى أن يحدث فعليّ، أنا الأم، أن أكون المصد بينها وبين نهاشي الحياة وآكلي الأحلام.. روحها شفافة.. نسيجها رقيق لم تلوثه الحياة، تتخلله أحلام رحبة وهواء بحر لم يتنفّسه أحد بعد.. خطوتان كمان، وتاتا تاتا نخطى العتبة، ونقع ونقوم ونقوم ونقع، وغدا يوم جديد لها ننقصه من رصيد شافطى الأرواح.
تبقى لنا الخفة، تحمينا، تقوينا وتقودنا دائما إلى حيث الهواء والبراح.