(وفاءً بوعده لزوجه الشابة حُسنة بنت قنديل بالإنتقام، بعث الشيخ محمد ود دياب تلميذه المضوي برسالة إلى الشيخ عبد المحسن القريشابي.
حمل المضوي الرسالة، وقصد المدينة الكبيرة، ودخل مسجد الباشا يطلب الشيخ القريشابي.)
مشى يومين وليلة حتى وصل عند المدينة الكبيرة حيث يقيم الشيخ عبد المحسن. دخلها عصراً وأخذ يسأل الناس في الطريق عن مسجد الباشا. دلوه عليه فوجده بناء ضخماً من الحجر الملون. به قبة عظيمة تزينها النقوش. وساحة واسعة مكنوسة ومرشوشة بالماء. وحول المكان مئات الحيران والتلاميذ يقرأون القرآن فيصعد أزيزهم إلى السماء.
دخل المسجد، اغتسل من الغبار وتوضأ وقام يصلي. حين فرغ جلس إلى ركن ينتظر خروج الشيخ عبد المحسن.
كان للشيخ عبد المحسن القريشابي مكانة كبيرة ومنزلة لدى الباشا في المدينة. فأنزله مسجده الجديد فأقام فيه، واقتنى كتب الفقه والأصول والمنطق والكلام. وأذن له الباشا بالتدريس والفتيا. وأجرى عليه أموالاً كثيرة، وسلمه إدارة أوقاف لا تُحصى. فصار الشيخ عبد المحسن سلطاناً للفقرا وأهل الله. يخشاه الشيوخ والأمراء قبل العامة. إلا الشيخ محمد ود دياب فما كان يخشاه ولا يحسب لمكانته حساباً. وكان ما بينهما معروفاً مشهوراً بين الناس. لكن أحداً ما كان يعرف متى سيواجه الشيخ محمد المعروف بالصلاح والكرامات الشيخ عبد المحسن بالغ النفوذ والثراء. إلا المضوي فقد كان الآن موقن أنه يحمل اللوح الذي سيبدأ المواجهة بين الشيخين. ما بين الناس والواقعة إلا أن يخرج الشيخ عبدالمحسن فيناوله المضوي لوح شيخه.
بقي في مكانه حتى أذّن المغرب. حينها سمع الجلبة، ثم رأى الحيران والفقرا يضجون بالهتاف. بدا في وسطهم الشيخ عبد المحسن يمشي في ثياب من القطن مصبوغة. وعليه عباءة فاخرة، وعمامة من الشاش. رجل طويل عليه مهابة. أنفه به فطس، مع لحية مشذبة يخطها شيب خفيف. يحيي تلامذته باسماً في طريقه إلى المحراب ليؤم الصلاة.
قفز المضوي نحوه واعترض طريقه. هتف:
– رسول يا شيخ!
وقف الشيخ عبد المحسن ونظر إليه في صمت. مد المضوي إليه اللوح فتناوله الشيخ من طرفه. أمسك به متمهلاً وقرأ ما به. كلما جاوز سطر اسود وجهه. فلما ختمه رمى المضوي بنظرة كقذف الرماح. أحس المضوي بالخوف. هذه لحظة العقاب أتت. لكن الشيخ أمسك اللوح واستدار عائداً إلى حجرته دون كلمة. هرج الفقرا وانزعجوا من رجوع الشيخ دون أن يصلي. وجذب بعضهم المضوي من جلبابه وسألوه في حدة عن الخطاب الذي جاء به للشيخ فألهاه عن الصلاة. لكن المضوي ما أجابهم إلا بالصمت. ثم استنقذه من بينهم نجيب الشيخ حين نهرهم وصاح:
– الصلاة يا عباد الله. الرسول اتركوه فهو مأمور. الصلاة لا تفوتكم.
ثم نظر إلى المضوي في غيظ وقال له همساً:
– سيدي الشيخ عبد المحسن ينتظرك في حجرته. فإذا كبّر الناس للصلاة ادخل عليه خلسة، ولا يراك أحد.
هز المضوي رأسه فتركه النجيب ومشى إلى المحراب. أمر بصوت جهور:
– أقم الصلاة.
تراجع المضوي، على حين تسارع الحيران والفقرا للاصطفاف للصلاة. وحين كبّر الناس هرول نحاية الحجرة التي دخلها الشيخ عبد المحسن.
أزاح ستر القماش الذي يغطي بابها فتلقاه البخور الهندي. انتعش به ودخل إلى الحجرة. الشيخ عبد المحسن جالس على وسادة بلون الذهب بين كتبه النوادر التي ذاع صيتها في البلاد. سمع المضوي إن الفقهاء يأتون من القيروان ومكة للإطلاع على كتب الشيخ التي لا توجد إلا عنده. أشار إليه أن اجلس. فأطاع المضوي في صمت.
بقي الشيخ عبد المحسن ينظر إليه زمناً كأنما يختبر حقيقته. ثم رفع كفه التي تحمل المسحبة وقال:
– إني سأسألك، فهل تجيب؟
– ما أُمرت إلا بحمل اللوح إليكم. ما أنا بمأذون بالكلام.
– أتخشى محمد ود عيشة الصلعاء أكثر مما تخشاني؟
قطب المضوي جبينه وكرر:
– ما أنا بمأذون بالكلام.
– فبما أذنك محمد؟
– قال لي يا مضوي تحمل هذا اللوح للشيخ عبد المحسن ود حمد القريشابي ولا ترجع إلا بجوابه.
ابتسم الشيخ عبد المحسن.
– قال لك الشيخ عبد المحسن ود حمد القريشابي يامضوي؟
ارتبك المضوي. لم يعرف ماذا يقول فلاذ بالصمت، لكنه الشيخ عبد المحسن أكمل:
– هل قال لك ذلك أم إنك كذبت على شيخك بما لست مأذوناً به؟
دارت عينا المضوي في محجريها ذعراً، وقال في اضطراب:
– ما قصدت الكذب على سيدي.
– لكنك فعلت.
صمت المضوي. فأعاد الشيخ عبد المحسن سؤاله:
– ماذا قال يا مضوي؟
فقال المضوي في تسليم:
– قال لي امشي باللوح إلى عبد المحسن ود حمد المدعي أنه قرشي. ولا ترجع إلا بجواب منه.
انفجر الشيخ عبد المحسن بالضحك فجأة حتى قفز المضوي من مكانه. لكن الشيخ أشار إليه – بين ضحكاته – مطمئناً، فعاود الجلوس.
حين فرغ الشيخ من ضحكه قال:
– لا تخف يا مضوي. لقد كرهت ما كتبه لي شيخك أول مرة. أنا لست الرجل الذي يخاطب بمثل هذا الكلام. لكني عرفت سريعاً إن شيخك مازال يحمل ذات القلب الكريه بين جنبيه. إن دمه أسود من الحقد الذي يمشي فيه.
لم يرد المضوي. كان بين كراهية سماع التقليل من شيخه، والخوف على مصيره.
قال الشيخ عبد المحسن في اهتمام:
– المرأة المذكورة، حُسنة بنت قنديل! كيف هي ومقامها لدى شيخك؟
خفض المضوي بصره هرباً، قال في مذلة:
– لست مأذوناً بالكلام.
سمع المضوي نحنحه من خلفه، وقال الشيخ عبد المحسن مشيراً بكفه:
– ادخل يا جابر.
أحس المضوي بمن يجلس على يساره فرفع بصره. كان النجيب الذي أنقذه من فضول الحيران. ينظر إليه في غضب. قال الشيخ عبد المحسن مخاطباً حواريه:
– هذا يا جابر المضوي. تلميذ محمد ود عيشة الصلعاء.
تململ المضوي في مجلسه. ابتسم الشيخ عبد المحسن وقال له:
– يزعجك أن أسميه ود عيشة الصلعاء؟ هذه أمه. أما سمعت بها؟ كانت رحمها الله امرأة طيبة. لكن الله ابتلاها بالصلع. كان رأسها كركبة غلام. فنذرت للشيخ عبد القادر الجيلاني إن وهبها شعراً فإنها تحج راجلة لا تركب قط. لكن سيدي الجيلاني رضي الله عنه أمسك عنها الإجابة حتى جاوزت الستين من عمرها. ثم بدأ الزغب الأسود يطل على رأسها كشنب مراهق. هل تصدق؟ وخلال عام كانت تملك جمة كأنها فارس من البجا. لكن كانت هناك مشكلة !
نظر إلى تلميذه جابر وسأل:
– هل تعرف المشكلة يا جابر؟
– كيف تحج عجوز في الستين ماشية.
– نعم يا جابر. كيف لامرأة في عمرها أن تمشي حتى البيت الحرام؟ وماذا تفعل امرأة في سنها بشعر ما تفاخرت به في شبابها؟ لذلك قررت العجوز – التي عرفها كل الناس باسم عيشة الصلعاء – إنها ما عادت في حاجة لدعوتها ولا يلزمها نذر لا تقدر على وفاءه. فقضت بقية عمرها تحلق شعرها ليلاً وتحرقه قبل الصباح حتى لا يحق عليها وفاء النذر. وحتى ماتت وقد جاوزت الثمانين ما باتت ليلة دون ذلك.
المضوي موجوع مما يسمع. شيخه عنده مقدس. ما ولدته أم ولا يحق في شأنه منقصة. أما كفاه معرّة أن يدعوه غريمه بأمه حتى يحكي عنها مثل هذا؟ أم المضوي كانت كثيفة الشعر حتى دعاها الناس أم روبة. أفتكون أمه أكمل من أم شيخه؟ هل يصح في حق الشيخ محمد ود دياب ولي الله الماشي على الماء أن تكون أمه امرأة يدعوها الناس عيشة الصلعاء؟ ويسخر منها هذا الفقيه الذي ما له عند الله كرامة ولا عُرف بين الناس بمعجزة؟
نطق المضوي متألماً:
– لماذا تعذبني بالحكايات؟
– لماذا جئت؟
قال بصوت كالأنين من تحت وطء المهانة:
– ما كنت لأعصي لشيخي أمراً.
– ومن يطيع شيخك؟ ربه أم حُسنة زوجه الجديدة؟
– يا شيخ عبد المحسن أعطني رد الرسالة وأعتقني لوجه الله بحق سيدي الجيلاني.
أشار الشيخ عبد المحسن لجابر فصب شراباً في إناء دفعه إلى المضوي. قال الشيخ:
– اشرب.
تردد المضوي لكن الشيخ كرر له الأمر، وقال:
– هذا دكاي من أجود البلح. سيقطع عطشك.
تناول المضوي الإناء وجرع ما فيه على عجل. راقبه الشيخ عبد المحسن حتى فرغ. ثم قال مخاطباً جابر:
– المضوي الفقير تضيفه عندنا ليلة حتى يصبح. لا تقصّر معه فهو مسكين. وفي الغد يرجع إلى شيخه بجوابنا.
ثم التفت إلى المضوي.
– هل معك دابة؟
هز المضوي رأسه بالنفي. فقال الشيخ:
– المسكين تعطيه ركوبة يا جابر. لا يمشي حامل رسالة الشيخ عبد المحسن القريشابي سليل نسب بيت رسول الله على قدميه.
أجابه جابر:
– ما تأمر به يكون يا شيخنا.
– يا المضوي! أنا لا أكتب لشيخك ود عيشة رداً. مثلي لا يكتب لأمثاله. لكن قل له ما سأقول لك.
– أفعل يا شيخ.
– قل له الشيخ عبد المحسن ود حمد يقول لك المرأة حُسنة بنت قنديل أنا أعطيتها حقها في عصمتي وزيادة. لكنها أبت إلا الطلاق. وأنا قلت لها لا أطلقك إلا وتنزلين لي عن صداقك. فرضيت وأعفتني فطلقتها. الشيخ عبد المحسن ما هو مثلك يدعي الكلام بلسان الغيب ويخالف شرع الله. الشيخ عبد المحسن رجل فقه يحفظ حدود الله. المرأة أنا ما أكلت حقها. لكنها شيطان مجلد بجلد إنسان فاحذرها. ولا ترجع تهددني كلما لعبت بشيبتك النسوان، وإلا أخرجك من مسجدك ذليلاً ككلب السقا. وأطوّب عليك داراً فلا يدخل عليك بشر ولا ملائكة بطعام حتى تهلك. فإن فعلت دفعت لأهلك ديتك غير باخل.
سأله مؤكداً:
– هل حفظت؟
قال المضوي:
– حفظت يا شيخ.
ابتسم الشيخ عبد المحسن، وقال:
– الحين تقوم مع جابر وهو يكرمك. وغداً تأخذ ركوبتك وترجع إلى شيخك.
نهض المضوي منهكاً ومشى خلف جابر. قبل أن يخرج من الحجرة قال له الشيخ عبد المحسن:
– المرأة حُسنة الله نجاني منها. لكن شيخك لن يهدأ حتى تروح روحه وراها.
بات المضوي على أسوأ حال. ورغم مقامه في حجرة وثيرة ما زارته راحة. وفي غده بكّر بالخروج على الحمار الذي منحه إياه الشيخ عبد المحسن وشرّق إلى وجهته محزوناً. حمل رسالة الغلظة من شيخه طائعاً ما يحمل همّ ما يحدث له، لكنه يعود حاملاً جواباً شفاهياً لا يقدر أن ينطقه لشيخه. ليت الشيخ عبد المحسن نكّل به ولم يحمّله ما يحمل.
قطع الطريق في نهار واحد، وبعد المغرب بشيء يسير كان يدخل بحماره الزريبة المجاورة لبيت شيخه محمد ود دياب. ربطه إلى وتد، وسار نحو باب البيت. وقف أمام الباب ونادى:
– السلام عليكم!
لم يأته جواب. فكرر النداء. برهة ثم سمع حركة. تراجع وخفض بصره. فتحت ميمونة بنت الشيخ خوجلي زوج الشيخ محمد الباب. هرول الضوء خارجاً وارتمى على وجهه فميزته. ابتسمت له. كانت تحنو عليه وتعده كإبن لم يُقسم لها. والدها الشيخ خوجلي بن دفع الله قطب العارفين، مرشد السالكين، منقذ الهالكين، الواصل إلى الله والموصل إليه، علم المهتدين ومظهر شمس المعارف كان له من الولد سبعة من الذكور وتسعة من الإناث. ما فيهم واحد إلا ورزقه الله الولاية الكاملة كأبيه. اخوتها كواكب الدجى وحجة المتصوفة. يتكلمون في علوم الأولين والآخرين والأمم الماضية من غير نظر في كتاب. وأخواتها رزقن الذرية أمماً كما الأسباط. أما هي فأجدبت أن تنجب. ونفخ الله في روحها حب العبادة والاجتهاد كأنها رجل من أهل الصفة. لكنها كانت تشبع ما يتطاول في نفسها من حنين بإسباغ الأمومة على جماعة من نجباء زوجها وصفوة تلاميذه، منهم المضوي.
سألها عن شيخه، فقالت:
– أتاه داعٍ من القاضي هذا النهار فرحل إليه.
– هل يعود في ليلته أم يبات يا أم الفقرا؟
– كان قديماً إذا تأخر بات ليلته وأقبل في الصباح. لكن ما أراه يفعل بعد الآن.
لمس المضوي في قولها جرح النساء. فلعله لذلك أراد أن يطيّب نفسها برد الشيخ عبد المحسن. ربما إن سمعت شديد الكلام الذي قاله في حق ضرتها يبرأ شيء مما بها. ولعله إن أفضى إليها بالجواب ما احتاج أن يكرره أمام شيخه. قال لها:
– فأنا أحمل جواباً لشيخي من الشيخ عبد المحسن القريشابي. فإن شئت حدثتك فتخبريه.
– هات ما تحمل يا ولدي.
أعاد عليها ما قاله الشيخ عبد المحسن بحرفه. ما أسقط منه كلمة. حتى تحذيره الأخير. ود لو يجرؤ على رفع بصره ليرى وقع ما تسمع عليها. لكنه اكتفى بمراقبة ظلها يرجف تحت قدميه.
– هل من شيء آخر يا ولدي؟
– هذا كل شيء يا أم الفقرا.
– شكراً لك. سأخبر أبوك الشيخ حين يرجع.
تراجع بظهره دون أن يرفع بصره وقال:
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام ورحمة الله يا ولدي.
أغلقت الباب واتكأت عليه. ماهذا الهوان الذي أورثتنا إياه يا شيخ محمد. بعد أن عشت عمراً موفور الجانب، مرهوب الكرامات، يقصدك أصحاب الحاجات، ويقسم بك المحبون، ما حكى عنك الناس هزل ولا تناقلوا لك خبراً غير العبادة والصلاح ما خلا قصة قديمة، تقع في مشاجرات لا تسمع فيها إلا قبحاً؟ ترى كيف يتداول سكان المدينة الليلة هذا الجواب؟ وكيف يتحدث الناس عن رد الشيخ عبد المحسن القاسي المتعالي على ولي الله.
تنهدت في هلع وقالت بصوت خافت:
– غفر الله لك يا شيخ محمد. حكاية قديمة كانت قد اندثرت ها أنت تعيدها للناس حية بتنازعك مع الشيخ عبد المحسن.
ما من أحد في البلاد لم يعرف أن الشيخ محمد والشيخ عبد المحسن بينهما من الخصومة شيء كثير. لكن قلة قليلة كانت تعرف السبب. وما عاد يذكر من هؤلاء العارفين إلا بضع أشخاص. تكفلت أعوام قاربت الخمسين بنسيان التفاصيل. وما بقي غير علم الناس بخصومة لا يدرون من أين أتت.
حدث ذلك في زمان قديم. قبل قدوم الباشا. كانت البلاد تحت حكومة ملوك الفونج. نزلت بالملك نازلة فبعث يطلب أفقه أهل البلاد وأعظم أولياء الله. دله بعث الفقيه على الشيخ عبد المحسن. وجاء بعث الولي إلى والدها الشيخ خوجلي. لكن والدها قال للشيخ محمد ود دوليب الذي كان شاباً من نجبائه:
– الملوك أنا ما بدخل عليهم. لا يريدونني ولا أريدهم. وأنا كبرت وعمري جاوز التسعين، أي شيء أفعل في بلاط الملوك؟ لكن أنت لك سمت الرياسة. فإن أوقع الله الرضا عنك في قلب الملك نلت الخير.
وقبل أن يخرج أوصاه:
– يا ولدي! احذر مكر الله وسفه الملوك. فالملوك كالأطفال إذا غضبوا وإذا رضوا. جناح جبرين يغطيك.
قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت
(يتبع)