صمت قلق داخل فصل المتفوقين بالصف الثالث الابتدائي، ينذر بعواقب وخيمة، تناقل الكثيرون منا الحديث عن علاقة تربطهما على مدار أسابيع مضت، لكن اليوم كان الترقب سيد الموقف، لعلمنا من صديقتها أن الجواب الغرامي قد وقع في يد والدتها.. مرت الحصة الأولى بسلام، وخلال الثانية اقتحم الفصل أستاذ اللغة العربية والتربية الدينية، ثم قال: \”مينا وفاطمة يستنوني عند أوضة المديرة، والطلاب المسيحيين يتفضلوا على حصة التربية الدينية المسيحية\”.. لم يكن هذا ترتيب الجدول، وبعد خروج الطلبة شرع في خطبة دينية طويلة، وفيها وضع أسس لسور فاصل بين فريقين، سيزداد إرتفاعا مع الوقت.
كانت أجملهن.. وظلت الأجمل رغم تورم خديها، ومقلتيها التي غلب عليها اللون الأحمر من أثر بكاء طال، والحجاب الذي استحدث على مظهرها في اليوم التالي، لكن لم تعد هي المتفوقة التي كانت، ولا حتى نحن، إنزوى الطلاب المسيحيين في ركن بالفصل يفارقونه جماعة ويعودون إليه جماعة، وأصبحنا ننظر إليهم كأغراب، ونتبادل عليهم النكات همسا، ونسكت حين يصادف مرور أحدهم بجوارنا، وغاب مينا تماما، قيل إنه انتقل إلى مدرسة أخرى.
علمتني الحياة بمحافظة أسوان فيما بعد، أن ما حدث لمينا وفاطمة، روعي فيه حداثة أعمارهم، فعقب انتشار الهاتف النقال المزود بكاميرا، حدثت وقائع طائفية على أثر انتشار مقطع جنسي أو صورة لفتاة مسلمة بصحبة شاب مسيحي أو العكس، دائما ما يتدخل لحلها أعضاء مجالس الشعب عن الحزب الوطني، ورؤساء القبائل، والقيادات الدينية، وفي الغالب تكون أحكام هذه المجالس مناصرة للطرف الأقوى، تُهجر بموجب كلمة، أسر مسيحية بأكملها ليس لها علاقة بالواقعة وصاحبها، ثم تهدأ لفترة قصيرة بلدتنا لهذا العقاب الجماعي، وسرعان ما تشتعل الأحداث مجددا، وتعاد الكرة مرات عديدة، فلما لا والدولة هي المستفيد الأول من الطائفية، ترتفع شعبية الحزب الحاكم في مجتمع عنصري، لأنه بذلك من وجهة نظرهم ينصر الإسلام ويعز المسلمين، ويضمن أعضاؤه أصوات العائلة المُنتصر لها، بينما يزداد إيمان المسيحيين بألا بديل أمامهم غير القبول بمواطنة منقوصة، ودولة فاسدة تحميهم من سواد أعظم كاره لهم.
المهم أن يتم ذلك في سرية تامة، وحتى لو كل البلد تعلم، فكل صباح عندما تتقابل الأعين في الشوارع والمدارس والعمل سنبتسم، سينقطع الكلام بمجرد أن يقتحم مجال الطوائف غريبا، أو كما يقول بهاء طاهر في رائعته شرق النخيل: \”كنت أعرف وكان يعرف، أخبار السوء يا ولدي يعرفها الإنسان من غير سؤال، المصيبة تحل ومعها خبرها، الفرح وحده هو الذي يحتاج لسؤال وجواب، وأين الفرح؟ المصيبة الثقيلة جاءت وانتهى كل شيء\”.
أتفقنا على أن ينتظرنا أعضاء الحركة المسيحيين على مقهى بجوار المسجد، وحين نفرغ من صلاة الجمعة ونشرع في الهتاف ضد النظام يتجمعون حولنا لزيادة العدد، فيتشجع المواطنون الخارجون من الجامع، نجحت الخطة وانطلقنا في مسيرة حتى ميدان المحطة.. لم يلتفت أحد لهوية المتظاهرين، كان همهم الأكبر تمزيق أكبر عدد من صور مبارك ونجله ولافتات الحزب الوطني، وقام البعض بتحطيم وحرق جزء من واجهة الحزب، حينها انطلق الخرطوش وقنابل الغاز من كل اتجاه لا يفرق بين أحد، واشتبكت أيادي كثيرة في المشهد، يد تكسر الحجارة الكبيرة وتدعم بها المتظاهرين، ويد تلقيها على العربات المصفحة، ويد تعالج المصابين، لم يكن الظرف يسمح لفحص ما تحمله هذه الأيادي من رموز دينية، أو ما تحيطه الصدور من عقائد وأفكار، الخطر يوحد الجميع دائما.. ظننا أن هذه الحالة ستبقى طويلا، لكن خسرنا في استفتاء مارس الصديق الأول، الطبيب الإسلامي الذي أسعف عددا منا يوم جمعة الغضب، فقد اختار أن يقول نعم، لأن المسيحيين سيقولون لا، لم يذكرها صراحة احتراما لزملائه ورفاق الميدان منهم، لكن هل كل الأمور تحتاج لإعلان كي نعلمها؟
فراقه فتح ملفا طالما تواطأنا على أن يبقى حبيس النفوس، تحدثنا عن الكثير مما علق بالأذهان من مفاهيم وذكريات طائفية، منها وقائع حدثت بالفعل وعولجت بطرق خاطئة، اذكر ضحكنا عندما أعاد على مسامعنا أحد الزملاء – وكنا محلقين على طاولة بمقهى في الميدان- إشاعة ترددت كثيرا تقول، إن المسيحيين هم من أحرقوا قطار الصعيد 2002 انتقاما لذويهم الذين قتلوا في اشتباك طائفي قُبيل الحادث، فقد أفرغوا بودرة سريعة الاشتعال في القطار، والدليل على ذلك أنه لم يكن من بين القتلى غير مسيحي واحد فقط من أسوان، لم تخبره الكنيسة بالمؤامرة، وحكت لنا زميلتنا، أنها سمعت جدتها تقول: \”الجسيس في الكنيسة بيعمل أعمال سفلية لبنات الشارع المسلمين عشان يتقلبوا في عيون الخطاب قرود\”.
تفرقت بنا السبل والمواقف السياسية وضغوطات المعيشة، وانتهت نقاشاتنا منذ مدة طويلة، واكتفينا باللايك والشير، وأحيانا نطمئن على بعضنا البعض على الخاص، ثم انقطعت المحادثات تقريبا إبان الثلاثين من يونيو 2013، وأضيفت للفريقين فرق تكونت بينهم عداوات.. تذكرت كل هذا وأكثر، تذكرت كيف بدأنا وأين انتهينا عندما تحدثت مع زميل من الأسكندرية بخصوص الأسر التي هجرت بسبب إشاعة حول علاقة جنسية وعاطفية رضائية بين مسيحي ومسلمة من منطقة العامرية، لم تكن هذه أولى الجلسات العرفية التي تحكم بما يخالف المادة (62) من الدستور الحالي، وربما لن تكون الأخيرة.
ففي دراسة أعدها الأستاذ إسحاق إبراهيم \”في عُرف من: دراسة عن دور الجلسات العرفية فى النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة\”، الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وجاء بها رصد وتوثيق وتحليل أنماط الانتهاكات التي طالت الأقباط منذ ثورة يناير حتى 2014، وفيها رصدت المبادرة نحو 45 حادث طائفي انتهى بجلسة عرفية تقف مع الطرف الغالب، وتقول الأوراق الرسمية لوزارة الداخلية أنها سجلت 150 إعتداء، كانت نتيجته لا تختلف عما رصدته المبادرة، والغريب أنها بإشراف ورعاية الأجهزة الأمنية، وتخرج أغلبها كحلول مؤقتة لأزمة لها جذور تجددها باستمرار، تماما كما كان يحدث قبل الثورة، الجديد الذي طرأ هو شخوص المحكمين بهذه الجلسات، فقد راح معظمها لصالح أعضاء حزب النور والبناء والتنمية السلفي بديلا عن الحزب الوطني، وارتفع صوت الطائفية الساكن بداخل المجتمع مع تغير أوراق اللعبة السياسية.
رفضت النزول يوم 30 يونيو مع أي طرف، وأعددت المقبلات أمام التلفزيون، اتنقل بين القنوات محاولا الفهم، توقفت عند إحدى القنوات التي كانت تبث المظاهرات من محافظتنا، الذين نشأوا خارج العاصمة دائما تغمرهم لذة حينما يرون موطنهم على الشاشة، تحول المشهد من كاميرا مثبتة في مكان مرتفع فوق الميدان إلى كاميرا متنقلة، أمامها مذيع يأخذ آراء بعض المتظاهرين، اندهشت عندما وجدته بينهم، لم يختلف كثيرا عما كان عليه وهو يدرس ليّ بمدرستي الإبتدائية، شعره تخلله اللون الأبيض، لكن صوته لا يزال عال من جراء \”المُهابرة\” مع التلاميذ طوال النهار، حاولت الإنتباه لما يقول: \”الإخوان فرقوا البلد.. طول عمرنا واحد، مفيش فرق بين مسلم ومسيحي\”، فأجبت مين قال غير كده؟! وإستسلمت لنوبة ضحك هستيري.