أنتَ روحٌ غبية تكرهُ النورَ.. وتقضي الدهورَ في ليلٍ ملس ِ
ليتَ لي قوةَ العواصفِ ياشعبي.. فألقي إليك ثورةَ نفسي
أبو القاسم الشابي
لكم أحببت هذا البيت الغاضب سنينا طوال! ولكم كتبته على جلدة الكراس وفي أجندتي اليومية.. وبقلم فلوماستر في الركن العلوي من مجلات الحائط في الجامعة.. أيام كانت مجلة الحائط هي فيسبوك الثمانينيات.. وزملاء الجامعة هم الفريندز والأسر الثقافية في النشاط الجامعي هي الجروبس.. والخناقات مع الإخوان يعقبها بلوك!
معلمتي!
ذات يوم – وكنت وقتها ربما في منتصف العشرينات من العمر على ما أذكر – كنت أقرأ مقالا كتبته د. نوال السعداوي، تصف فيه كيف تطورت في رأسها عبر السنين \”فكرة التغيير\”، ذاك المقال! بحثت عنه كثيرا فيما بعد ولم أجده ثانية بالمناسبة، قالت إنها في العشرين من عمرها كانت متحمسة لتغيير العالم.. وعند الثلاثين صارت أنضج فراحت تحلم بتغيير الوطن العربي.. وعلى رأس الأربعين تواضعت فحلمت بتغيير مصر.. وكان أن أدركت في الخمسين أنه حلم صعب وأن تغيير بضع أفراد حولها سيكون إنجازا عظيما ثم.. نعم ثم.. ثم ها هي تعترف عند الستين.. لا توجد أي تباشير نجاح تؤشر أنها.. نجحت حتى في تغيير نفسها!
لكنك يا د. نوال بالمناسبة..غيرتنِي!
العبور العظيم:
هل تعلمون أنني بعد أشهرٍ قلائل سأتم الثانية والخمسين؟ حسنا، جيد أنني لم أكتب لكم هذا المقال وقت بلوغ الخمسين! كنت وقتها صغيرة! غالبا كنت سأقول لكم بيت أبي القاسم الشابي المذكور أعلاه! أما اليوم فأقضي الكثير من الساعات برفقة صديق السهر \”أبي العلاء المعري\”! وما أدراك ما أبو العلاء!
أيام البراءة تبعت معلمتي.. وحلمت بتغيير العالم.. غضبت من لحظة ضعفها التي بثتها في مقالها.. وواصلت وحدي العناد كي أؤدي الرسالة وأغير العالم! واستمر عنادي وعراكي مع الطواحين.. كنت ألهث لإتمام المهمة المقدسة، ولم أنتبه أثناء اللهاث لتغيير العالم.. أنني أمضي في اتجاه بوابة تبدو هناك في الأفق البعيد، وما لبثت أن لاحت.. بوابة الخمسين! في البداية اقتربت هي مني ببطء وكنت أراقبها دون اكتراث! ثم هرولت نحوي.. نعم نعم هي من هرولت تجاهي.. أقسم لكم أنا لم أقصدها بل هي من اقتربت.. ثم جاءتني.. فاكتسحتني.. فعبرتها بدهشة!
بعد البوابة بقليل جاءني صوت أبي العلاء من بعيد..
سرت نحوه مذهولة.. فالعالم الذي لم أغيره بعد.. صار ورائي! وجدت نفسي متكئة على جدران أبياته.. أسمع من ورائها أنينه!
هل قلت أنني أكتب لكم الآن وأنا واقفة عند ناصية بيت أبي العلاء؟! أسمع صوته الحزين:
\”والمرءُ يهبطُ هاوياً… والعيشُ من كلفٍ صعودُ
والشخصُ مثل اليوم يمضي في الزمانِ.. ولا يعودُ\”!
معلمتي حين عبرت الخمسين كان لازال لديها بعضُ أمل أن تغير بضع أفراد! تلميدتها الآن وبعد أن عبرت الخمسين بخطوتين.. وهي التي ما عاركت مقدار ذرة من معارك معلمتها.. تدعي أن العراك مع الطواحين أجهدها! تنصت بوجلٍ لصوت أبي العلاء القادم من بعيد جدا.. من وراء بيت بناه منذ ألف عام ولا يزال صامدا حتى وجدتني أتكأ عليه:
\”وما لنفسي خلاصٌ من نوائبها.. ولا لغيري إلا الكونُ في العدمِ\”!
ياااه.. كم تغيرت!
تمردوا أو.. موتوا:
– لسه عندك فرصة يا هويدا تغيريها وتشاركي في المسابقة بواحدة تانية.. أنا شايف إنه مش وقتها تكتبيها دلوقتي.. استني عليها شوية!
– بس أنا عايزة أشارك بها يا دكتور.. ممكن؟
– إنتي حرة!
كان أستاذا في قسم الكيمياء في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية، لكنه كان \”غاوي أدب\”! للأسف أحاول أن أذكر اسمه دون جدوى، نظم مسابقة للطلاب في مجالات القصة القصيرة والمقال الصحفي والشعر.. وكنت أنا طالبة في قسم هندسة اتصالات.. وبالمناسبة.. وقتها في الثمانينيات.. لم يكن يوجد أي اتصالات!
دعوني أخبركم باعتزاز أنني شاركت بقصة وقصيدة ومقال! يا لتلك الأيام! صحيح أنني فزت بالمركز الثالث في الشعر.. لكنني فيما بعد اكتشفت أن من الأكرم لي أن أظل على حبي للشعر.. الذي يكتبه الآخرون! وأكف أنا عن كتابته! فزت كذلك بالمركز الأول في المقال.. لكن القصة القصيرة هي التي حاول الدكتور أن يثنيني عن المشاركة بها.. وألححت أنا واستجاب هو، وفازت بالمركز الثاني.. كانت القصة بعنوان: \” تلك النظرة في عينيّ أمي\”.
في ذلك العمر – أول العشرين- يكون عنفوان التمرد أصيلاً.. متقداً.. عنيفاً، وإن كنت أنثى.. أنثى مصرية.. أنثى مصرية مسلمة.. أنثى مصرية مسلمة أبوها صعيدي من بني سويف.. وُلدت وتعيش في الإسكندرية.. وتقرأ بنهم.. ومتفوقة في دراستها.. فهذا يعني أن التمرد لا ينقصه إلا السلاح حتى يكتسح العالم!
أما عن القصة التي نصح الدكتور أن أتراجع عن المشاركة بها في المسابقة.. فكانت تصف بالتفصيل وبغضب نظرة أمي وهي تقف وراء الحاجة نعمة الداية.. وهي تمسك بموس الحلاقة لطهارتي! هناك شرير في بلدنا اتبعه القوم.. سمى تلك الجريمة طهارة!
كانت تجربة الختان هي مدخلي لعالم الدكتورة نوال بعد ذلك بسنوات بعيدة.. وعالم التمرد وعالم الغضب.. من المدهش حقا أن أظل بعد عبور بوابة الخمسين بخطوتين أذكر ملامح الحاجة نعمة.. طرحتها السوداء و\”الغوايش الذهب\” في يدها التي تصدر صليلا يخترق روح طفلة في العاشرة.. لا تستطيع فكاكا من قبضة مساعدة الداية المتوحشة.. ثم ذلك السن الذهبي في مقدمة ثغر الحاجة المخيفة.. وذاك البريق الذي يصدر من موس الحلاقة وعيناي الصغيرتان تتبعاه برعب.. بينما أمي تشير لي – وهي أيضا مرعوبة – أن أكتم صوتي حتى لا أصرخ فيغضب أبي! مازلت أحس حرارة القطع! وذل النظرة، وغضب السنين، كانت الحاجة نعمة معروفة في الحي.. كانت تحج كل سنة.. تقطع أعضاء الصغيرات فتقبض أموالا من الآباء الحريصين على شرف بناتهن فتدخرها فتذهب لتحج بها.. وفي طريق عودتها تشتري ذهب السعودية!
تمردوا أو موتوا!
كانت تلك جملتي الأثيرة في مقالاتي منذ تملكني عشق الكتابة! بعد ذلك بسنوات كثيرة.. كثيرة جداً.. ظللت أرددها بغضب.. تمردوا أو موتوا.. لكل الناس كنت أوجهها وقتها.. إلايّ بالطبع! فقد كنت أنا ثورية.. والناس بلداء فاستحقوا أن أخيرهم.. تمردوا أو موتوا!
ما كنت بعدْ أعرف خاتمتي!
بهدوء:
كنت أحلم بالثورة.. ثورة \”تقوم ما تخلي\”! ألف ألف يوم مر حتى صار الحلم بالثورة عادة كل صباح.. أمارسها مع كل فنجان قهوة وكل مقال، ثم ذات صباح.. قامت الثورة! فألجمتني! ما حلمت به حدث أمام عيني.. ثورة إذن.. نعم.. ثورة لم تحك بمثلها الكتب! لكنها سلبت مني شيئا ما.. هناك شيء ما – غامض – فقدته.. فقدته للأبد.
لم يعد يغضبني شيء!
أنا التي كان ينقصها فقط السلاح لتغير العالم!
أتابع ببرود عبث العراك وتقسيم الناس إلى سيساوية وثوار.. لا أشعر بالمعنى!
أقرأ لشاب حَدَث كتابات نارية جميلة.. تطالب الناس أن تتمرد وتكف عن السلبية وإلا فالموت أشرف لهم.
تمردوا أو موتوا.. يالتلك الأيام!
زمان.. لما كنت ثورية.. كنت أغضب وكان الجسد الفتيّ ينشر غضبي حولي.. فيعدو مسافات ويعبر البحور.
اليوم.. لا أسمع بداخلي سوى طنين الصمت ووجل الانتظار.. وحسرات مختبئة في زوايا بعيدة.
ما كنت أعرف في البدء خاتمتي!
أهذا صوتك يا أبا العلاء؟ اسمعه من وراء جدران أبياتك:
وحوادثُ الأيام ِ تُولدُ جلة.. وتعودُ تصغُرُ ضدَّ كلِ وليد
ومن الرَزيّةِ أن يكونَ فؤادُكَ.. الوقَّادُ في جسدٍ عليه بليد
هو الجسدُ إذن!
بليد!