إنهم \”المختفون\”.. أعرف أنها رسائلهم.. أصحو يوميا على خبر شاب ملقى ككلاب السكك بين الحياة والموت بعد اختفائه لمده طالت أو قصرت، فتتت عظامه، فرّغ جسمه الرصاص، نفضته أسلاك الكهرباء وألقي به في الشارع كردش الحمّامات الطافحة.. يطل علي من صورة معذبة على سرير كلما طالعت شاشاتي، بينما آراه أنا – دوما- منكمشا في البرد ملقى على الطريق.. تترصدني الرؤى وتحاصرني.
فردة جزمة حريمي متشبثة بفرع جاف، تتأرجح على مسمار دقّ في حائط بلكونة أرضية مغلقة، إلا أنها تركت نورها ليضىء شارعا بللته الأمطار وجففه الخوف.. تطاردني هذه اللقطة.. تختبىء لتذكرني كلما تناسيت أو أغرقت نفسي في شىء معقد لا لزوم له لإلهاء عقلي.. تربكني وتنبش ليالي البحث عن ما تاه.. تدهسني رائحة فورمالين مشرحة زينهم المعبأة بعطانة بلاطها المبلول دوما.. اراوغ برودة مكاتب استقبال المستشفيات ليلا وضريبة مرور الأربع وعشرين ساعة حتى يقبل الظابط النوبتجي لكتابة محضر.
كنا – ابنتي وأنا – دائما ما نقف عند هذا المشهد من فيلم \”تخيّل أرجنتينا\”. كان بإمكانها مشاهدة الفيلم مرّات ومرّاتّ بلا توقف إذا مسّها.. كانت في الثالثة عشرة ومغرمة بالافلام، اختارت هذا الفيلم – في الغالب- استنادا على اعجابها بفيلم \”إيفيتا\”، الذي حوّل فيه آلان باركر ممثلين متوسطين –فجأة- إلى موهوبين: بطله \”شى\” كان أنطونيو بانديراس وكان الشعب، وكان غرام سلمى في ذلك الوقت.. كان الفيلم يدور في الأرجنتين أيضا، لكن في حقبة الـ \”حرب القذرة\”.. حقبة \”المختفين\” من 1976 إلى 1983 أثناء حكم الجنرال فيديلا، الذي ألهمه بلا شك نمط حكم جاره بينوشيه، الديكتاتوري العنيف، في الشيلي، بينما أعلنت الحكومة أن هؤلاء المختفون لا يتعدون التسعة آلاف! وكأنه شيء عادي أن يختفي الناس! أكد ذووهم أنهم فاقوا الثلاثين ألفا.. لم يسلم أحد.. الأطفال والنساء والكبار.. لم تعرف أسباب الخطف والتعذيب، فلم يعد أحد ليحكي ما كان.
الأهم ان الجناه لم يعرفوا ولم يحاكموا.. كنت دائما اشاهد الأفلام مسبقا، ولم افعل هذه المرة.. أتسعت عينا ابنتي وتسمّرت أمام الشاشة.. تسحبت حتى التصقت بي على الكنبة.. قبضت يدها المثلجة على ركبتي وسألتني مستعطفة: \”ليه؟ بيعملوا كده ليه؟\”
مشهدان لاحقاني: الأول لفردة الجزمة الوحيدة في الليالي الباردة، والتي كانت شرارة اكتشاف كارلوس روويدا مخرج مسرحيات الأطفال لقدرته على رؤية المختفين وإخبار ذوييهم عن أحوالهم.. مات منهم من مات وصمد آخرون.. كان يمسك بشيء من \”ريحتهم\” فتتجلّى رؤاه.
طمأن البعض وعزّى الكثيرين، إلا زوجته الصحفية المعارضة، التي جسدتها إيما طومسون في الفيلم، وابنته التي فارقتها الحياة سريعا بعد اختطافها لإرهاب أمها، إلا هما لم يتمكن أبدا أن يجد لهما أثرا في رؤاه. فردة جزمة وحيدة.. كانت أول خطوة في طريق طويل امتلأ أسلاكا وحفر وسلالم وطيور وشبابيك، مشاه هو وهي وجدته في آخره بعد هروبها. المشهد الثاني كان انتظار \”روييدا\” اليومي لمسيرات أمهات البلازا دي مايو، الميدان الرئيسي في بيونس آيريس أمام مقر الحكومة.. كان يراهن كل يوم حاملات صور ابنائهن وبناتهن، بنظارات أو ضفائر، شعورهن شقراء طويلة أو لم تنبت لهم شوارب بعد.. يدرن، بملابس الأمهات المتعبات، صامتات لكن مصممات.
كان يقترب خطوة كل يوم.. يجدّ في البحث ولا يجد أثرا، فيزداد اقترابا من دائرة نداء الأمهات، أكثر فأكثر حتى التحم بالجمع حاملا صورتي ابنته وزوجته واصبح منهن.. كن أربع عشرة أما يائسة أول يوم، استنفذن سبل البحث ولم يبق لهن إلا الحفاظ على وجوه أحبائهن حتى لا تضيع أرواحهم.. انضمت إليهن العشرات ثم المئات، اصبحن كيانا يكبر في وجه السلطة حتى بدأ يخيفها.