يتذكر كبار السن من المصريين إذاعة صوت العرب في الستينيات وعملها من أجل نشر أفكار القومية العربية وفضح النظم “الرجعية العميلة للإستعمار”، لكنهم ربما لا يتذكرون الإذاعات والتصريحات الإعلامية الموجهة من السعودية والأردن وسوريا، والذي كان ينتقد حكم الفرد، ويعني به عبد الناصر، وعجز مصر عن تحرير فلسطين ومواجهة إسرائيل. وكانت هذه الانتقادت اللاذعة التي تحولت لحملات مكثفة للاستفزاز والشتائم والتجريس موجعة للقيادات السياسية في القاهرة ومزعجة أحيانا حتى لحلفاء هذه النظم بين الدول الغربية، لخشيتهم من أن تدفع المبالغة فيها مصر وعبد الناصر إلى رد فعل قوي.
لم تصدر هذه الحملات من السعودية والأردن فقط، بل شاركت فيها سوريا مشاركة فعالة ولسنوات بعد انهيار مشروع الوحدة مع مصر في عام ١٩٦١، كما شاركت فيها أنظمة عربية أخرى – بعض الوقت – مثل العراق، وكان لبنان في الأغلب مسرحا للصراع السياسي بالوكالة بعض الوقت وسوقا لبيع الصحف والأبواق الإعلامية لهذه النظم أو للنظام المصري طول الوقت.
المفارقة أن كل هذه الدول لم تكن تريد أن تحارب إسرائيل، بل تواصلت السعودية والأردن مع إسرائيل بأشكال مباشرة أو غير مباشرة خدمة لمصالحها أو للحصول على تطمينات وتبادل معلومات، ووصل الأمر للتعاون العسكري غير المباشر بين السعودية وإسرائيل لدعم الإمام محمد البدر في اليمن ضد الجيش المصري (١).
وكانت البرامج المعدة خصيصا للنيّل من عبد الناصر تكرر وتعيد أن الزعيم المصري وجيشه يختبئان وراء قوات الطوارىء الدولية المرابطة في نقاط محددة حول القناة وفي شرم الشيخ جنوبا، وعلى حدود الهدنة وداخل قطاع غزة الفلسطيني الذي تديره مصر منذ ١٩٤٨، كانت هذه القوات الدولية، التي لم يزِد قوامها عن ٤٠٠ر٣ جندي من عدة دول، منتشرة على الجانب المصري فقط من الحدود مع إسرائيل منذ أواخر ١٩٥٦ في إطار ترتيبات إنهاء العدوان الثلاثي (الفرنسي الإنجليزي الإسرائيلي)، وتضمنت الترتيبات منح إسرائيل حق العبور الآمن في مضايق تيران نحو ميناء إيلات وكان تستورد نفطا إيرانيا وقسما من تجارتها العادية من هذا الطريق. وفي عامي ١٩٦٥-١٩٦٦، رست في ميناء إيلات ٥٠٠ سفينة استوردت ٥٤ ألف طن وصدرت ٢٠٧ ألف طن سلع مختلفة.
وكانت السعودية والأردن بل وإسرائيل والولايات المتحدة كلها تعتقد أن مصر تفضل فعلا الاحتفاظ بقوات الطوارىء على الحدود، لأنها توفر ذريعة لعدم شن عمليات عسكرية ضد إسرائيل من الجانب المصري، كما أنها تحمي مصر من أي مغامرات إسرائيلية، واعتقد الأمريكيون أن عنف الانتقاد العلني من الإذاعات العربية الموجهة ساهم في دفع عبد الناصر لقرار التصعيد وطلب سحب القوات في ١٦ مايو بغض النظر عما إذا كان فعل هذا بنية التهويش أم كان يعتزم خوض الحرب فعلا.
وهناك إشارات على أن عبد الناصر والمشير عامر كانا يريدان منذ ١٩٥٧ طرد هذه القوات أو على الأقل إعادة نشرها بحيث لا تعيق التحركات العسكرية المصرية من ناحية ولكي تستعيد مصر السيطرة على مضيق تيران من ناحية أخرى وتستعمله كورقة ضغط ضد إسرائيل. وسنركز في هذا المقال قليلا على النظرية الأولى لنرى الدور المحتمل للشتائم و“الردح” المتبادل بين مصر من ناحية والسعودية والأردن من ناحية أخرى في دفع مصر لاتخاذ خطوات تحفظ لها هيبتها وتحرم خصومها العرب من سلاح التشهير.
أثّرت هذه الإذاعات الموجهة ولغتها الوضيعة على عبد الناصر خاصة، ولم يوفر الزعيم جهدا في مواجهة هذه الحملات وعلى نفس مستواها.
في خطاب له في فبراير ١٩٦٧ سبّ عبد الناصر قادة السعودية والأردن وسوريا وتونس مستخدما ألفاظا مقذعة ومتهما إياهم بالعمالة والخيانة والتجارة بالشعارات والدين، وستساهم هذه المقتطفات، الذي ينبغي للمهتمين الاستماع إليها للتعرف أكثر على قدرات ناصر الخطابية وتأثيره الفعلي، في إظهار وضاعة الحملات المتبادلة.
“باقرا إذاعة إسرائيل وإذاعة الملك حسين وإذاعة الملك فيصل ووكالات الأنباء، وتسمع إذاعة الأردن يقولوا يا جعانين يا اللى مش لاقيين تاكلوا.. ياللى مش فاهم إيه، وتسمع إذاعة السعودية بيقولوا إن المصريين الاشتراكية جوعتهم وعرتهم والاشتراكية عملت وسوت! وطبعا طول الليل والنهار الملك فيصل عمال يسب ويشتم.. الملك حسين.. ما هو بقى ملك فاجر.. عاهر الأردن – زى ما بيقولوا عليه الإنجليز – واخد الصنعة عن جده فى سنة ٤٨ جده – الله يرحمه!”
ولا يتوانى عبد الناصر عن اتهام السعودية والأردن وسوريا وتونس بأنهم أسوأ من الاستعمار ويضحون بكل شىء من أجل بقائهم في السلطة.
“(الرئيس التونسي الحبيب) بورقيبه خرج وطالب بالتفاوض مع إسرائيل، والصلح مع إسرائيل، وهو بهذا كان يتبنى مخططات أمريكا، وبورقيبه كعميل استعمار قال إنه يعمل إنه شجاع ويطلع بهذه الآراء وتنشر عنه الصحافة الغربية ويستطيع بهذا أن يضمن عون أمريكا، إذن بدأت تصفية وحدة العمل ببورقيبه، ثم بدأ الملك فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامى.. حلف إسلامى لخدمة مصالح أمريكا وخدمة مصالح إنجلترا. وبعدين بيطلع الملك حسين وينضم إلى فيصل في هذا الطريق.. هم بيشتغلوا بالدسائس، وهم بيشتغلوا بالأموال، إحنا دعامتنا الأساسية كلامنا؛ إن إحنا نقف نتكلم وإذاعتنا تتكلم وصحافتنا تتكلم، مش دعامتنا الأموال ولا دعامتنا التآمر.. الأمريكان زعلوا جدا، ليه زعلوا؟ إزاى نهاجم الملك فيصل، وإزاى نهاجم الملك حسين، وإزاى نهاجم إسرائيل؟ مطلوب مننا إن إحنا نحل هذه المواضيع بالديبلوماسية الهادية، ومفيش داعى إن إحنا نعلنها.. طب يا جماعة والجماعة دول طب ما هم بيهاجمونا! بيهاجمونا في جرايدهم وبيهاجمونا في إذاعاتهم، اشمعني هذا الهجوم ما انتوش زعلانين منه؟! إذا إحنا هاجمناهم تزعلوا.. إذا هم هاجمونا تتبسطوا! معنى ده إيه؟!”
“فيه ناس قالوا بورقيبه ده ملحوس.. يعني الواحد ما يحاسبوش على كلامه، وده ساعات بتيجي له لحسه ويطلع بيقول أي كلام، وأنا فعلا بعد بورقيبه ما اتكلم، قلت استنى شوية، والراجل ده معروف إنه راجل عصبي وساعات بيقول أي كلام، لكن بورقيبه أكد هذا الكلام.. باين إن هو واحد بيقول شكل للبيع! وأنا عايز اتخانق معاكم.. قلنا له خلاص إذا كنت عايز تتخانق معانا بنتخانق معاك وبنقول رأينا فيك بصراحة، والرأي إن اللي بيقول هذا الكلام لازم يا يكون اليهود اشتروه، يا الأمريكان اشتروه، يا إما يكون اتلحس أو اتجنن.. لا يمكن أن نفصل الرجعية العربية بأي حال من الأحوال عن الاستعمار.. عن إنجلترا.. عن أمريكا؛ الموجه أمريكا، وإنجلترا فى جيب أمريكا، والتلاتة خدام لأمريكا وخدام لإنجلترا.. ملك الأردن.. ملك السعودية.. والخواجة بورقيبه.. التلاتة ماشيين لتحقيق أهداف الاستعمار.. اللي بيرتب واحد، والخبر اللي تذيعه إذاعة السعودية، بعد يومين يذيعه بورقيبه، التعليق اللي تذيعه إذاعة السعودية بعد يوم يذيعه بورقيبه، وبعدين بيذيعه الملك حسين، وباين إن المخابرات الأمريكي بتشتغل معاهم هم التلاتة، وبتنسق بينهم هم التلاتة.”(٢)
وأقر وزير الخارجية المصري –آنذاك- محمود رياض أن هذه الإذاعات الموجهة أثرت كثيرا على عبد الناصر، خصوصا “بادعائها المتكرر أن ناصر يحتفظ بقوات الطوارىء في سيناء ليبرر تقاعسه عن نجدة الفلسطينيين كما كانت البرامج في الإذاعات التابعة للسعودية تجتزىء من حديث لناصر قوله لمجموعة من الفلسطينيين إن مصر لن تعيد لهم وطنهم السليب.”(٣)
كان هذا مستوى الخطاب بين الزعماء العرب، وهو مما ساهم لا شك في إذكاء الغضب والكراهية المتبادلة بين الحكام وقطاعات من شعوبهم وبعضهم البعض، في نفس الوقت الذي كانوا فيه جميعا يتشدقون بأهمية الوحدة العربية والعمل المشترك، وتغذى هذا الخطاب على عجز هذه الأنظمة عن خلق علاقات تعاون في حدها الأدنى وانشغالها المطلق بدوافع الحفاظ على أمن الأنظمة وبقائها في السلطة بالدرجة الأولى، وهو أمر كان يتهدده بالنسبة للرياض – على الأقل – مساعي ناصر لنشر الثورة وشعاراتها القريبة من الإشتراكية والمعادية للحكم الملكي وطرد كل ما تبقى من آثار للنفوذ البريطاني.
في نهاية الأمر كان ناصر ومن حوله، خصوصا هيكل، يرون في الرياض وعمّان أنظمة حكم ساهم الأنجليز في خلقها وبقائها في مطلع القرن وظلت على علاقات أمنية وعسكرية وثيقة بلندن، وتدريجيا مع تراجع الإنجليز والفرنسيين للخلف كدول استعمارية تفرض مصالحها بالقوة على الأرض لصالح الهيمنة والقوة الأمريكية المتمددة شيئا فشيئا عن طريق الاقتصاد والسياسة، فقدت الحركة الوطنية التي قادت السياسة في العالم العربي منذ أوائل القرن العشرين زخمها، ولم تعد بحلول منتصف الستينيات سوى شعارات فارغة في أعين مؤسسات الدولة وأجهزة أمنها، حيث يعرف المعنيون بالأمر أنها فعليا في مرتبة أقل بكثير من المسائل المتعلقة ببقاء وتأمين النظم العسكرية والملكية، الرجعية والثورية سواء، وحمايتها، ليس من الأستعمار وأجهزة مخابراته فحسب، بل من جيرانهم، وحتى من شعوبهم ومن جيوشهم نفسها التي بدأت في التذمر أو في موجة الانقلابات العسكرية التي شملت السودان (١٩٥٨) واليمن (١٩٦٢) وسوريا (١٩٦٣) والجزائر (١٩٦٥) والعراق (١٩٥٨ و ١٩٦٣).
وتسارعت الأحداث في ربيع ١٩٦٧.
الأمريكيون يوقفون الحملات الإعلامية من الأردن:
على مدى سنوات هيّج الأردنيون الرأى العام ضد عبد الناصر بشدة واتهموه بالتقاعس عن المواجهة مع إسرائيل، حتى أدركوا أن هذا الموقف قد يؤذيهم، فتوقفوا في حوالي ٢١ مايو بعد طلب مباشر من واشنطن التي خشت أن هذه الحملات التشهيرية، التي لابد كانت تعجبها بعض الشىء، قد تدفع الأمور لمنزلقات وعرة يصعب السيطرة عليها.
كان ربيعا ساخنا في الأردن تزايد فيه الضغط الداخلي من شعب ثلثيه فلسطينى الهوية والانتماء داعما لنداءات وتحركات عبد الناصر لكبح جماح إسرائيل ومنعها من ضرب أي دولة عربية.. كانت المملكة الأردنية الهاشمية رغم مرور ٤٥ عاما على نشأتها –آنذاك- وربما ما زالت- دولة ضعيفة ومعتمدة على دعم ورعاية مصالح رعاة غربيين في لندن وواشنطن. طالما سارت عمّان بحذق يعود الفضل فيه للملك حسين على حبل مشدود بين بقاء نظام يعرف ضعف بلاده وهوان قدرتها، لكنه تحت ضغط مستمر من شعب يريد الحق والعدل والعودة لوطنه الأصلي ويؤجج ناصر مشاعره من ناحية، وبين عدو شرس وتوسعي في غربه لم يتوقف عن الحلم بـ “استعادة” القدس والسيطرة على ما صار يسميه يهودا والسامرة أو الضفة الغربية، التي كانت كلها حتى يونيو ١٩٦٧ أراض خاضعة لسيطرة الأردن، ولعجز النظام الأردني عن مصارحة شعبه كان ينزعج بشدة من الدعايات الناصرية القادمة من صوت العرب ويريد الحفاظ على الوضع القائم.. كان القصر الملكي يعلم بناء على خبرة السنوات الماضية أنه قد يخسر نصف الأراضي التي يسيطر عليها في أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولذا كان حنقه على ناصر كبيرا لأنه الزعيم المصري الذي كان يداعب أحلام وأمال كل الفلسطينيين، بل والعرب الطامعين في استعادة الشعور بالكرامة والقوة.
وشكا مسؤولون أردنيون – آنذاك – للسفير الأمريكى فيندلي بيرنز أنهم لا يستطيعون تحمل مزيد من الضغط الشعبي، وأن صورتهم فى العالم العربي كحليف للولايات المتحدة صار ثمنها أبهظ مما يمكن تحمله، وبدأ الأردنيون في أواخر مايو النظر في خطوات محددة – وفقا لتقرير أرسله بيرنز إلى واشنطن- ومنها “استضافة قوات عربية، مع ضمان أن تكون هذه القوات سعودية أو عراقية، وليست مصرية أو فلسطينية.”
ويقول السفير الأمريكي في عمّان إنه كان متوجها للقاء رئيس الوزراء الأردنى سعد جمعة في العشرين من مايو، وبعد أن دخل مكتبه وجد عنده الملك حسين ونائب القائد العام للجيش الجنرال الشريف ناصر ورئيس الأركان عامر خماش. وكان الأردنيون قلقين من أي انفجار للأعمال العسكرية سيورطهم حتما، “وهم لا يرغبون في المشاركة في أي أعمال عسكرية، وأبلغني الملك أنه قرر عدم تنظيم عرض عسكرى في مطار القدس حتى لا يستفز الإسرائيليين في القدس الغربية فيما يبدو. والقلق الأردني الأشد هو أن يطلب عبد الناصر مساعدتهم إذا قرر إغلاق خليج العقبة ويحاول وضع قوات مصرية في ميناء العقبة الأردني.”
كان عبد الناصر قد أعلن سحب قوات الطوارىء الدولية، لكنه لم يقرر بعد غلق مضايق تيران وخليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، وأوضحت برقية من واشنطن موجهة إلى السفير بيرنز في عمّان أن “إسرائيل أبلغتنا أن راديو رام الله –الأردني- في نشرة أخبار الظهيرة اليوم وفي التعليق الإخباري هاجم القاهرة وتحدى المصريين أن يظهروا جديتهم عن طريق إغلاق خليج العقبة.. إذا كان هذا التقرير صحيحا يجب أن تؤكدوا لرئيس الوزراء جمعة والآخرين أن هذا التحريض والخط الإعلامي الخطير يمكن أن يؤدي إلى تدهور الأوضاع، وفي الموقف المتفجر الراهن، فإن مثل هذه الأنشطة في مؤسسات المملكة الأردنية تتصف بالرعونة ويجب إيقافها.” (٤)
بين الثورة والاستقرار: “الملك حسين بيعيط هو وأمه”
كان عبد الناصر مؤمنا بحتمية وأهمية الوحدة العربية، ويعتقد أن مصالح الشعوب وثقافتها المشتركة تعلو فوق الأنظمة السياسية والاجتماعية الحاكمة لها، وربما كان يرى في نفسه الزعيم الموّحد للأمة والملهم لها، خصوصا في النصف الثاني من الخمسينيات وبعد إحرازه عدة نجاحات متتالية في وجه الإنجليز والإسرائيليين والفرنسيين، بل ومناوشاته الدبلوماسية مع الأمريكيين.
كان عبد الناصر قد وطد مكانة عالمية عن طريق حركة عدم الإنحياز بداية من عام ١٩٥٥ ، وهو نفس العام الذي أتم فيه القضاء على كل منافسيه داخليا من الإخوان المسلمين وحتى بقايا حزب الوفد وكبار ملاك الأراضي.. كان فقر مصر وضعفها الاقتصادي والعسكري النسبي يغلّ طموحات عبد الناصر، الذي لابد أنه – أو من حوله – كانوا يتحسرون على افتقارهم إلى ثروة نفطية، وجاءت الوحدة مع سوريا خطوة لم يسع إليها ناصر من أأأجل اختبار فرضيات القومية العربية، لكن انهيارها السريع ثم تورطه في حرب اليمن ونهاية فترة الانتعاش الاقتصادي في منتصف الستينيات كلها، جعلت الرجل أكثر استعدادا للمقامرة وأكثر غضبا على الولايات المتحدة التي رأى أنها العقبة الرئيسية في وجه مشروعه التاريخي.
بيد أن أحلام ناصر وطموحاته بذاتها بدأت تتفكك في أوائل الستينيات. وجه تفكك الوحدة السورية المصرية الهشة في ١٩٦١ ضربة قوية للمشروع الناصري، وآمال القوميين العرب عموما، ويقول السياسي المصري سيد مرعي إنه لكي نفهم قرارات وتحركات عبد الناصر في ١٩٦٧ “يلزم أن نعود إلى عام ١٩٦١ وتفكك الوحدة مع سوريا، والتي صار عبد الناصر بعدها منشغلا للغاية بهيبته وسمعته في العالم العربي.” ويتفق زكريا محيي الدين، الذي يرى أن قرار دعم ثورة المشير السلال في اليمن أتت من نفس المنطلق، حيث “بالنسبة لعبد الناصر كانت ثورة اليمن هدية من السماء ليتمكن من استعادة نفوذه وهيبته”.(٥)
ولابد أن عبد الناصر ورفاقه من المعسكر الثوري العربي نظروا بحسرة وغضب إلى كبرى الدول العربية المنتجة للنفط، والتي قارب دخلها في عام ١٩٦٥ ألفي مليون دولار سنويا، وفي مقدمتها دول تقود معسكر “الرجعية” مثل السعودية والكويت، وبدأ موسم الهجرة العربية إلى الخليج، حيث انتقل مئات الآلاف من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، ومعهم افكار ناصر والبعث وأحلام الفلسطينيين في استعادة وطنهم، بينما بدأ في نفس الوقت عمل السعودية الدؤوب على استغلال ثروتها في مكافحة كل تلك الافكار التي كانت ترغب في أن يستغل العرب نفط العرب من أجل حل مشاكل العرب بزعامة ناصر.
بالنسبة للخليج كان هذا نفطهم ويمكن أن يعمل مهنيون (أطباء ومدرسون ومحاسبون ومترجمون) عرب من دول أخرى لديهم، لكنهم لا يريدون انتشارا للأفكار الثورية في بلادهم، ولا يرغبون في القيام بأي تورط عسكري، ولا سيما وأن أمن الأنظمة والحكومات الناشئة في تلك المنطقة كان هشا، بل ومعتمدا في الأساس على مظلة تمدها لندن وواشنطن.. كان ناصر وأفكاره وما أعتقدوا أنه محاولته للسيطرة على ثرواتهم، مشكلة رئيسية تؤرق هذه الأنظمة. (٦)
آمن عبد الناصر أن الأمريكان خلف المحاولات العربية الحثيثة لمحاصرته عن طريق الأحلاف أو الضغط باستعمال صفقات القمح والمساعدات الاقتصادية، وزاد توجسه بعد رحيل الرئيس كينيدي وزيادة وتيرة التشهير بناصر وسياساته في الإذاعات العربية الموجهة، وفي خطابه في عيد العمال في ٢ مايو ١٩٦٧ قال:
“الملك فيصل والملك حسين بيشغلوهم الأمريكان وبيشغلوهم الإنجليز، والإنجليز طبعا وأمريكا أيضا قرروا من الأول في المرحلة الأخيرة إنهم ما يدخلوش مع الأمة العربية ولا الثورة العربية في مواجهة، لكن يدخلوا عن طريق العملاء، ولقوا عميل من الأسرة الهاشمية، وعميل في المملكة العربية ومشيوا معاهم، خطة أمريكا كانت إنها توجههم، وفي نفس الوقت مبنية على إن إحنا نسكت.. طيب هل ننفذ لها خطتها ونسكت؟ مش ممكن ننفذ الخطة ونسكت”
ولم يقبل عبد الناصر ومؤيدوه قط أن عداء الأسرتين الملكيتين، السعودية والهاشمية، ينبع من أن ثوريته وسياساته الخارجية خصوصا في سوريا والعراق واليمن، كانت تهدد أنظمة الحكم هذه نفسها.. لم يحتج الملكان، حسين أو فيصل، لتشجيع أو عمالة أمريكية فقد كان عدائهما لعبد الناصر نابعا من مصالحهم الشخصية المباشرة، حيث كان الزعيم المصري ينخر بلا هوادة في أسس شرعية هذه الأسر الحاكمة.
وكان ناصر، الذي وعد بمساعدة أي دولة عربية تواجه هجوما إسرائيليا، لاذعا في رده.
“وفيصل يطلع.. وفيصل طبعا بيتكلم على الدين ببقه، وقلبه ما فيه أي دين، ولا فيه أي حاجة.. كلام يعني وتمثيل، ويطلعوا الناس وبيوزعوا كتب، كتب ورق حلو.. أنا باقرا الكتب دي، وبييجي لي نسخ منها، ورق جميل وطباعة كويسة جدا، وكله شتيمة.. والله هذه الأمور ما هياش جديدة علينا، ياما اتشتمنا قبل كده، وياما اتقال علينا قبل كده، وكان علينا محطات إذاعة لا أول لها ولا آخر.. تطلع إذاعة.. طبعا إذاعة الملك حسين بتشتغل للمخابرات الأمريكية للـ C.I.A، لأن هو الملك حسين نفسه بيتشغل فى C.I.A، إذا كان الملك حسين نفسه بيشتغل في C.I.A يبقى الإذاعة بتاعته بتشتغل في الـ C. I .A بتطلع الإذاعة، ويشتموا بقى كلام سافل وكلام وسخ، وطبعا أنا باقرا الكلام اللي بتقوله إذاعة الملك حسين واقول كلام عيال ولا الواحد يعبره بحاجة.. ما هو مش معقول طبعا أرد على العيال دول لأن يعنى آخرتهم معروفة، وأنا وهم والزمان طويل! مش حنسكت.”
ثم يصل ناصر لبيت القصيد، والذي ربما كان أحد أسباب بعض تحركاته التالية خلال أسابيع للضغط على إسرائيل عقب تقارير عن حشود قرب الحدود الصهيونية مع سوريا:
“في أيام ما حصل العدوان الإسرائيلى على سوريا (كان يقصد هجوما جويا إسرائيليا ردا على قصف مدفعي سوري أدى لإسقاط عدة مقاتلات سورية فوق دمشق) طلعت إذاعة العيال في الأردن، إذاعة الملك حسين تقول إيه؟ إن اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا ما اتنفذتش، والملك حسين زعلان بقى وبيعيط هو وأمه على الاتفاقية إنها ما اتنفذتش.. جرى إيه؟ إيه الحكاية؟! محزنة في الأسرة الهاشمية في عمّان.. إيه الحكاية؟ قالوا مصر ما قامتش تساعد سوريا.. الملك حسين هو وعيلته زعلانين قوي، وطيب خدوا بقى موضوع للدعاية، وإزاي مصر.. طيارات مصر ما راحتش تساعد الطيران السوري.. طبعا معروف إن الطيارات المقاتلة مداها محدود، وطياراتنا المقاتلة ما توصلش إلى حدود سوريا، إذا قامت من مصر علشان تروح وترجع معروف إنها ما توصلش لحدود سوريا، أي طيارات مقاتلة يعني ما توصلش؛ لأن مدى الطيارات محدود، فإزاي بتطلع طياراتنا من هنا؟ أنا باقول هذا الكلام علشان أنبه الأمة العربية والشعب العربي والشباب العربي لكل شيء، ويعرفوا كل شيء.. إحنا عملنا اتفاقية دفاع مع سوريا، وقلنا إن إحنا مستعدين.. مستعدين إن إحنا ننفذ هذه الاتفاقية وبنقف مع سوريا، وبنقف مع الشعب السوري.. الشعب السوري زي الشعب المصري، وأي شعب عربي زي الشعب المصري، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إن إحنا نفرط في هذا، لكن إذا حصل اشتباك في الجو بين سوريا وإسرائيل ما نقدرش نطلع من مصر نساعد.
وينتهي عبد الناصر إلى القول إن العاهل الأردني يجب أن يرحل أو “يطير” لأنه: “بيبص لنا إحنا كأعدائه، وبيبص لإسرائيل كأصدقائه، وإسرائيل بتقول إنها لا توافق على تغيير النظام اللي موجود في الأردن – اللي هو نظام الملك حسين – والثوار العرب بأفكارهم الثورية ونداءاتهم الثورية لازم بيطير الملك حسين، يبقى بالطبيعة أن الملك حسين قلبا وقالبا بيكون موجود مع إسرائيل.”(٧)
وتطورت الأحداث بعد هذه الخطبة سريعا، حتى أوقف الأردن كل الحملات الدعائية ضد مصر، بسبب الضغط الشعبي، واستجابة أيضا لنصائح السفير الأمريكي الذي ابلغ واشنطن في ٢١ مايو ١٩٦٧ أن رئيس الوزراء جمعة “استدعى وزير الإعلام في وقت مبكر صباح اليوم وابلغه أنه يتعين على الصحافة والإذاعة الأردنية من الآن فصاعدا الإمتناع عن حث ناصر على شن أعمال عسكرية ضد إسرائيل أو أغلاق خليج العقبة.”(٨)، وأضاف السفير في تقرير بعد يومين أن الأردن توقف عن دفع “ناصر إلى مهاجمة إسرائيل وإغلاق خليج العقبة بسبب رغبة الأردن في عدم إثارة غضب ناصر في الوقت الحالي.. حكومة الأردن تشعر بضرورة أن تتخذ خطوات تهدف -على الأقل ظاهريا- إلى إنهاء عزلتها والانضمام إلى صفوف الدول العربية الأخرى خصوصا مصر، ويعتقد المسؤولون الأردنيون أن ناصر استعاد هيبته بصورة درامية بسبب تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة.” (٩)
توقفت الحملات الدعائية الأردنية الداعية لإغلاق خليج العقبة وحرمان إسرائيل من استعمال مينائها الوحيد في البحر الأحمر، في اليوم ذاته الذي قام فيه عبد الناصر بهذه الخطوة نفسها، وبات الملك حسين مجبرا على الدخول في حرب طالما دعت إليها أجهزة إعلامه وتحاشاها هو وجيشه عارفا أنه سيخسرها بسبب ضعفه العسكري وبسبب التأييد الغربي عموما للوضع الراهن فيما يتعلق بالخلاف العربي الإسرائيلي. دعا الملك حسين إلى حرب لإحراج ناصر وإضعاف موقفه إقليميا، لكن معظم شعبه الفلسطيني الأصل أرادها حقا ليختتم مأساة تدخل عامها العشرين واضطر الملك نفسه للقفز في قارب الحرب متأخرا حتى لا يخسر على كل الجبهات، فوصل القاهرة في نهاية شهر مايو ليعقد معاهدة دفاع مشترك مع مصر بعد أسابيع قليلة من إهانات مقذعة وجهها له الرئيس عبد الناصر.
فيصل وحسين و”الملحوس” بورقيبة وشاه إيران أدوات في يد أمريكا:
ورغم أن عبد الناصر كان يركز في شتائمه على الزعماء والقادة العرب فيما كان يسميه بالنظم الرجعية، فإنه كان يرى يد واشنطن فوق أيديهم. ويختتم الزعيم المصري خطاب عيد العمال المهم في ١٩٦٧ قبل خمسة أسابيع من هزيمة يونيو، مشيرا إلى الخطة الأمريكية الكبرى التي تقف وراء كل هذه النظم ووراء إسرائيل:
“المعركة اللي إحنا بنحاربها معركة مش سهلة.. معركة كبيرة ومعركة تقودها أو تشارك فيها أمريكا؛ أكبر قوة في العالم، والحقيقة إن معركتنا ماهياش مع فيصل ولا مع حسين، ولا مع الملحوس بورقيبه.. أبدا بأي حال من الأحوال، ولا مع شاه إيران، دول كلهم أدوات.. أدوات بيشغلوهم الأمريكان.” (١٠)
وجاءت خطبة ناصر في نفس الوقت الذي نشر فيه هيكل سلسلة مقالات في الأهرام تنتقد أمريكا وتتهمها بالوقوف خلف مشاكل مصر، وكان ناصر وهيكل يعبران عن نظرية منتشرة بين كبار رجال الحكم في مصر، مدنيين وعسكريين، وكررها عدد منهم في كتبه ومذكراته، ومثلما هي المشكلة في الخطبة كانت المشكلة في هذه المقالات وهذه النظرية عموما.. كثرة القفزات اللامنطقية من مقدمات معقولة لنتائج لا معقولة، مط الحقائق ولوي عنقها.. الافتقار للمعلومات والأدلة.. إهمال التفاصيل وتعقيدات بعض المواقف الدولية وتفضيل وجهة نظر ثنائية ربما تأثرا بالحرب الباردة تصبح معها أمريكا ضدنا على طول الخط، إن لم تقف جانبنا طول الوقت، وكانت واشنطن وعدد وافر من كبار مسؤوليها في إدارة جونسون، تقف منذ أواخر ١٩٦٣ ضد سياسات مصر الخارجية، خصوصا في اليمن وتجاه السعودية وإسرائيل والأردن وفي أفريقيا، لكن ليس طوال الوقت، ولا توجد أي أدلة معقولة أو موثقة على أن جونسون نفسه وافق على أو سعى إلى اغتيال ناصر أو أنه منح إسرائيل ضوء أخضر لضرب مصر. كان هناك شعور معاد لناصر بين بعض كبار المسؤولين الأمريكيين المؤثرين على رسم السياسة الخارجية، لكن السياسة الرسمية للحكومة تجاه الثورة المصرية كانت تقوم على الحياد بمعنى أنها غير معنية بما يحدث داخل مصر ومن يسيطر على السلطة فيها طالما كان الوضع مستقرا.
تركزت خلافات واشنطن مع القاهرة على سياسات مصر الإقليمية و“مغامرات ناصر في الخارج، خصوصا أنشطته في شبه الجزيرة العربية”. (١١)
سعت سياسات مصر تحت حكم ناصر لتثوير الوضع القائم في المنطقة، بل والعالم، بينما رغبت امريكا معظم الوقت في الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط ومنع دخول الاتحاد السوفيتي له، وعاش الطرفان فترة وفاق صارت هشة مع رفض واشنطن تزويد مصر بأسلحة طلبتها، ورغم التدخل الأمريكي الذي ساهم بشكل رئيسي في إخراج مصر من براثن العدوان الثلاثي في ١٩٥٦، جاء اعتراف مصر بالصين ومعارضة واشنطن لتمويل البنك الدولي للسد العالي ليحطم الآمال الوليدة في بناء علاقات ودية.
وفاقم من التوجس المشترك إقرار مبدأ إيزنهاور للعمل ضد الدول الشيوعية وحماية الدول المحافظة، والذي في ضوئه نظرت واشنطن بمزيد من الشك والارتياب لدعم مصر للقوى الثورية في المنطقة ضد نظم محافظة في العراق ولبنان والسعودية، وكانت فرصة القاهرة وواشنطن الأخيرة هي وصول جون كينيدي للحكم في ١٩٦١ والعلاقة الودية التي نشأت بينه وبين ناصر، لكن الأشخاص بمفردهم لا يحركون التاريخ، إذا لم تكن هناك تغيرات حقيقية في المؤسسات والسياسات التي خلقت التوتر الأساسي في العلاقات.
ساهم وجود كينيدي في تغاضي واشنطن سنتين عن التدخل المصري في اليمن رغم الانزعاج السعودي الشديد، لكن رحيل كينيدي المفاجىء أنهى هذه الفترة ونزع عنها العامل الشخصي، بل عكسهان إذ لم يكن لدى الرئيس الجديد جونسون صبرا على بلد كان يتلقى مساعدات أمريكية ليست بالقليلة وصفقات قمح تفضيلية، وهو في نفس الوقت يشاكس حلفائه ويهدد إسرائيل.
وكانت أمام القاهرة فرصة أخيرة لتغيير سياستها أو تهدئتها (في اليمن أو غيرها) في عامي ١٩٦٤ و ١٩٦٥ ، لكنها مضت معظم الوقت في طريقها، خصوصا على صعيد التصريحات والجهود الدبلوماسية، ولم تحاول القاهرة كسب ود واشنطن التي كانت منحازة لحد ما (أقل بكثر من الوضع الراهن) إلى إسرائيل، ولم يكن المدهش هو أن واشنطن بدأت في الضغط على مصر في ١٩٦٥، بل إنها لم تضغط في السنوات السابقة.
وفي ١٩٦٥ و ١٩٦٦ بدأت واشنطن في الضغط المتزايد على القاهرة وتقليل المساعدات والمعاملة التفضيلية في صفقات القمح الأمريكي، الذي كان يمثل أكثر من نصف استهلاك مصر، وبالتوازي بدأت في تسليح إسرائيل – مباشرة- بصواريخ مضادة للطائرات، ثم حثت ألمانيا على بيع دبابات لإسرائيل في عام ١٩٦٥ وبعدها باعت طائرات سكاي هوك لتل أبيب.
كانت العلاقات المصرية الأمريكية في نفس الوقت تتعرض لهزات ثانوية، لكنها متتالية ومريبة مع حريق السفارة الأمريكية أواخر ١٩٦٤ على يد متظاهرين (إما أن أجهزة الأمن المصرية حركتهم أو تغاضت عنهم) ثم اسقاط طائرة رجل نفط أمريكي صديق للرئيس جونسون بعد ذلك بأسابيع (لم يكن الرجل على متنها) وتصريحات ناصر العنيفة في خطبه والتي منحت المعادين لمصر في الإدارة الأمريكية ذخيرة إضافية من أجل سياساتهم التي كانت تدعو لتصعيد الضغط على القاهرة. (١٢)
مس ناصر كما لم يفعل زعيم عربي وترا حساسا لدى غالبية شعوب المنطقة وهو الكرامة التي أُهينت ومُزقت على أيدي الاستعمار والنخب الوطنية، ولإصراره في سياساته الخارجية على هذه القضية والعمل من أجلها، حقق عبد الناصر شعبية هائلة لاسيما وقد نجح في السنوات العشرة الأولى من حكمه في تحدى الاستعمار الإنجليزي والخطط التوسعية الإسرائيلية بنجاح.
لكن الخطب لا تصنع جيوشا، والكرامة التي كان ينادي بها الرجل ويحث أبناء شعوبه على رفع رؤوسهم تعبيرا عنها، كانت تهان أكثر فأكثر على يد هذه الأنظمة القومية بما فيها مصر، ولم يتبق سوى الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققها ناصر للطبقات الوسطى والدنيا في مجالات الصحة والتعليم والإسكان، لكن حتى هذه الإنجازات والمدفوعة بخطط تصنيعية طموحة واستفادة هائلة من تأميم مصالح اقتصادية أجنبية ضخمة وإعادة توزيع ملكية الأراضي، بدأت تترنح في ١٩٦٦ في ضوء الضعف الهيكلي في الاقتصاد المصري وعدم تجديد وإصلاح المؤسسة العسكرية.
وبغض النظر عن المنطلقات الأيدلوجية للقومية العربية في نسختها الناصرية في مواجهة ما سمي بالنظم الرجعية في السعودية والأردن، فإن هزيمة ناصر الحقيقة، ليست بالضرورة هزيمة للوشائج الثقافية والروابط الاقتصادية القائمة والممكنة بين هذه الدول، لكنها هزيمة ساحقة لمحاولة فرض هذا النسق بالقوة، خصوصا من جانب طرف كانت أكبر أسلحته هي الأفكار والإعلام والمنتجات الثقافية، وهي كلها أسلحة حرم ناصر – ونظامه شعبه ذاته- من حرية استعمالها، وهي أسلحة باتت عاجزة في وجه المال السعودي والسلاح الإسرائيلي عندما دقت ساعة الجد.
وخلال شهور قليلة من هزيمته الساحقة، اضطر ناصر إلى التوقف عن مساعيه لتصدير الثورة (في اليمن وغيرها)، وتصالح مع العاهل السعودي “العميل” في مؤتمر قمة عربي شهير في الخرطوم في إطار صفقة شملت تعهد السعودية بدفع حوالي ٤١ مليون جنيه استرليني سنويا لمصر أو أكثر من ٤٠٪ من كل التعهدات العربية المقدمة في هذا المؤتمر الذي كان بحق إعلان نهاية فورية لمشروع ناصر على الصعيد الأقليمي، وبداية النهاية لمشروعه داخل مصر.
……….
عن الكاتب:
خالد منصور: كاتب مصري عمل بالصحافة وبالأمم المتحدة في السودان وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة ووسط آسيا والشرق الأوسط، وشغل منصب المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية (٢٠١٣-٢٠١٥) ويكتب سلسلة مقالات عن حرب يونيو ١٩٦٧ بمناسبة الذكرى ٤٨ لها.
هوامش:
(١) نظمت إسرائيل جسراً جوياًلمدة عامين شمل ١٤ طلعة بطائرات نقل ضخمة لإسقاط أسلحة وذخائر وأدوية وأموال للأمام محمد البدر وقواته لمساعدته ضد القوات المصرية المؤيدة للضابط اليمني القومي الميول المشير عبد الله السلال الذي انقلب على حكم الائمة في اليمن. وتم الاتفاق على الجسر مع بريطانيا والسعودية في عملية سمّوها “القنفذ” وفيها حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق الاراضي السعودية تفاديا لكشفها أو تعرضها لنيران الطائرات المصرية. لمزيد من التفاصيل انظر : Oren Kessler, “When Israel Helped Yemen’s Shiites”, Politico Magazine (April 21, 2015). Retrieved on May 28, 2015 at http://www.politico.com/magazine/story/2015/04/israel-yemen-shiites-117208.html#ixzz3bQImuLL1
(٢) يمكن مراجعة كل خطابات عبد الناصر على الموقع التالي لمكتبة الاسكندرية ومؤسسة عبد الناصر http://nasser.bibalex.org/Speeches/SpeechesAll.aspx?CS=0&lang=ar والخطاب الرئيسي المقتبس في هذه المقالة القاه الرئيس في فبراير ١٩٦٧ يمكن قرائته على الموقع التالي: http://nasser.bibalex.org/Data/website%20html/Nasser/Nasser–Protect/website/0024/0053/0069/670222.htm
(٣) Richard Parker, “The Politics of Miscalculations in the Middle East”, p. 80
(٤) البرقيات المتبادلة بين عمان وواشنطن في تلك الفترة محفوظة في الأرشيف القومي الأمريكي. وبرقية الوزارة المشار إليها تحمل رقم 198923 بتاريخ ٢٠ مايو في ملفات الخارجية الأمريكية في المجموعة ٥٩ في الأرشيف الوطني وهي مرسلة من قسم الشرق الأدنى بوزارة الخارجية ألى السفارة فى عمان بينما تحمل برقية السفير بيرنز رقم 021472 بتاريخ ٢١ مايو.
(٥) Parker, pp. 50
(٦) Albert Hourani, “A History of the Arab Peoples”, pp. 408-413
(٧) الخطبة المشار اليها في الهامش ٢
(٨) برقية مرسلة من السفير الامريكي في عمان إلى وزارة الخارجية بتاريخ 21 مايو ١٩٦٧وتحمل رقم 021670 في الأرشيف القومي الأمريكي.
(٩) برقية مرسلة من السفير الامريكى في عمان إلى وزارة الخارجية بتاريخ ٢٣ مايو ١٩٦٧ وتحمل رقم 023277 فى الأرشيف القومى الأمريكي.
(١٠) خطبة عبد الناصر في عيد العمال ٢ مايو ١٩٦٧ ويمكن سماعها والإطلاع عليها في (http://nasser.bibalex.org/Speeches/browser.aspx?SID=1214&lang=ar
(١١) Parker, pp. 100
(١٢) نفس الكتاب، ص ١٠٤-١٠٦