الصبية التي دوّخت شوارع وسط البلد لفاً ودوراناً: يا دنيا دوري .. دوري .. دوري بينا، كبرت وتركت لفّاتها أثراً على الحوائط وبلاط الأرصفة المِتْكَسَرْ في وسط العاصمة، وحين تمر الآن تُناديها الأمكنة قبل البشر ويكاد أن ينطق الحجر.
حجر رشيد، يعرف الناس مكتشفه وصاحب فك رموزه وشفرته شارعاَ لا عالِماً، شامبليون بعد الضنا أصبح لها المصير والمُستقر. مرّتان يومياً تدخل وتخرج منه خلال خمسة أيام في الأسبوع و20 يوماً في الشهر، ما يعني 40 مرة شهرياً تدخل وتخرج من شامبليون في 16 سنة، صالت وجالت طوال هذه السنوات في الشارع الواصل بين المدخل الرئيسي لدار القضاء العالي بشارع 26 يوليو وميدان التحرير، كانت تجوبه مرّات مع حبيبها تتجاوز معه في خفة سوداوية ظلال الأبنية القديمة والأسطح المظلمة والرائحة العفنة المنبعثة من القمامة المرمية على الأرصفة البائسة بجوار الجدران وخصوصاً في الشوارع الجانبية، ومرّات أكثر كانت وحدها يغمرها الحزن وهي ترصد التفاصيل المتداخلة بين أبنية شاهقة وأخرى أصغر متهدمة ومنعزلة على أهلها، فتقول: لا أمل في العدالة الاجتماعية. تُحدق في النوافذ والبلكونات علها ترى عجوزاً يونانية من الزمن القديمة تنظر شاردة إلى لا شيء، أو تعد بقايا الملصقات واللوحات التي تتصدر المحلات باللغة الانجليزية أو الفرنسية أو اليونانية المعرّبة، فتصدمها لافتات متآكلة تجري في خلفيتها بعض الفئران الصغيرة، تتذكر حين ذهبت إلى باب زويلة لتصور مشنقته الشهيرة والشاهدة على الظلم التاريخي، فوجدتها مخفية وراء يافطة قبيحة من القماش مكتوب عليها \”كفتة الحاج عبده\” وتحتها جلست البائعات الفلاحات بالبيض والجبنة والفطير تدوس عليهن أقدام \”الرايحين والجايين\”، وتساءلت: أراد عبدالناصر وطناً جميلاً وكريماً لكل هؤلاء، فما الذي حدث؟ وسألت أستاذاً في كلية الفنون الجميلة عن هذا القُبح والبشاعة التي تجتاح المجتمع: هل يُعقل أننا حتى الستينيات كنا أجمل؟ وكيف كانت عصور الفراعنة أجمل وأجمل كما تقول لنا نقوشهم على الجدران؟ كيف حدث هذا الانحدار؟ استمع إليها الرجل باهتمام ولما همّ بالإجابة تأتأ ثم سكت.
القاهرة مثل أية مدينة كبرى تبني موروثها الجيني من شوارعها، لكنها حقاً مدينة تسير نحو الهاوية، لا تستطيع أن تحترم التاريخ، كل شيء شبه مكتمل الرداءة كهؤلاء المتحرشين في شارع شامبليون الذي كان اسمه وابور المياه وتعددت فيه أحواض تحلية الماء التي حلت محلها ورش السمكرة، ذات مرة كانت عائدة من ميدان التحرير خلال الـ 18 يوماً إلى مقر عملها وبكت كثيراً بعد أن خرج أحدهم من تحت سيارة يحمل مفتاحاً، كان يبدو عاملاً طيباً يُصلح السيارة، لكنه اقترب منها متحرشاً؛ كزّت على أسنانها وابتعدت خطوتين فرشقها بأفظع الشتائم واجتمع معه زملائه يدعمونه وهو يقول: هو احنا ما نشبهش اللي كنتِ معاهم في التحرير، أسرعت تجري حتى دخلت 35 شارع شامبليون مكتب يوسف شاهين واختبأت نهاراً بأكمله.
وفي أحوال أخرى، كانت تجلس على المقهى الشعبي المقابل للقصر الحزين ذو النوافذ المكسورة والمهملة، كأنها شبح ينظر إلى حياته السابقة، إنتابها هذا الإحساس بشكل غامر، على الرغم من أنها ولا حتى أهلها عاشوا في قصر مثله، لكنها كانت تنجذب إلى إطلالته الغامضة على الأزمنة المتعاقبة ومصيره الذي جرّه إلى عزلته الانطوائية كما صاحبه الذي بناه، حفيد محمد علي باشا، سعيد حلمي الذي ولد في القاهرة وانتقل إلى اسطنبول ليصير بعد سنوات رئيساً لوزراء تركيا قبل أن يتم عزله لأنه اعترض على دخول تركيا الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تصادر السلطات الإنجليزية أملاكه بما فيها القصر الذي صار اسمه كما اسم الشارع \”شامبليون\”، اسم الذي فكّ رموز الحجر. والحجر أوفى من البشر، ربما لم يتصور العالم الفرنسي جون فرانسوا شامبليون أن القصر الذى صممه أشهر المعماريين الإيطاليين “أنطونيو لاشياك” واستغرق إنشائه 6 سنوات، سيُلقب باسمه، كما لم يعلم أن كشري أبو طارق سيكون أشهر منه.
وحدها تستطيع أن تغير جغرافيا هذا الشارع، فتلعب معه لعبة المسارات الجديدة لعلها تتبيّن شيئاً يدل عليها، تُبدل طريقها اليومي وتمتد في الشارع وتدخل وتخرج في حواريه، وتتسكع أحياناً أمام البنايات القديمة كي تتلمس خيطاً يُقربها من الأولين، فتنسل إليهم في الخفاء حين يغشى الجميع، لم تجد سبباً لتسأل عن هذا الانجرار لمجال شامبليون المغناطيسي، بل تنس جزءً منها في كل مرة قبل الرحيل: حقيبة صغيرة، كتاب، تليفونها الإضافي أو حتى كوب الشاي الذي لم ترشف منه رشفة واحدة، تعود فتجد ما فاتته إلا ذرة من رماد روحها، كمفتاح شقتها الذي تنساه تكراراً، فتضطر تجلب نجاراً يُغير الكالون، وفنياً يُغير نسخة ويندوز اللاب توب، وسباكاً يُغير جلدة المطبخ، لكن ماذا لو نسيت مفتاح شقتها في الباب من الخارج، أو نسيت اللاب توب ذاته على المقهى، أو أنها لم تدخل المطبخ أساساً منذ أسبوعين؟
لا ينبغي أن ترتبط الدموع بخطواتها في الشارع، تحاول أن تدرب نفسها حتى لا تصبح تفاصيله تأريخاً لما قصّته من روحها الجدران والحجر، وحتى يتسنى لها أن تهبِد رأس صبي متحرش بحقيبتها، كل شيء خارجها، البيوت والأرصفة، الوجوه الكالحة والمُتْعِبَة، والنظرات المنفرة، الدموع، اليوم الكادح الذي لا ينتهي، وفي داخلها يستقر الوجع. لا هو سحر ولا شعوذة، إنه أسلوب شامبليون في التعبير عن حاله، فحضوره ليس محايداً بل يدفع ناسه إلى التأمل ثم الانفجار، تضحك بصوتها المنكسر وهي تفلت من قبضته إلى مقر عملها الجديد، وراء كاميرا صغيرة تطل من زاوية جانبية في شرفة واسعة مشرعة على ميدان التحرير، ترصد الثورة من علوٍ متوسط.