لا تنجبوا أطفالا, وأنتم غير قادرين على منحهم الأمان.. لا تعطوا لأطفالكم حياة تعيسة, قلقة.. لا تفقدوهم ثقتهم فيكم, كي لا يفقدون ثقتهم في أنفسهم.
…………
عندما أتم السادسة, نبتت أول أفكار المغادرة داخل رأسه.
عندما كان يسير في الشارع، لم يكن يرى ما يراه الناس.، دائما ما تنطبع صور مخالفة تماما للحقيقة داخل رأسه, يخلق أصدقاءا وأعداءا وهميين.. يحارب معهم, حروبا لا تنته.
كانت الصحراء بالنسبة له بحر, والبحر طريق, يستطيع السير فوقه, والتنفس تحت مائه والعبث مع أسراب السمك الملون, الذي يتحول دائما إلى مركبات أو طائرات, تندفع في طرقات مختلفة.
عند إتمامه السادسة, علم من محفظ القرآن أن الجنة هي الوعد الذي أعطاه الله لعباده, وأن الجنة مفتوحة أبوابها للمتقين.
أخبره شيخه أيضا, أن الطفل عندما يموت قبل أن يخط شاربه, سيدخل الجنة بلا حساب.. وبسببه سيدخل والديه الجنة أيضا.
لم يسمع أي شيء آخر من شيخه, حلم بالجنة كوطن له, يخلد فيه, بلا أي مسؤوليات.
لن يستيقظ في السادسة صباح كل يوم, ويجد نفسه محروما من مصروفه اليومي لأن خطه سيئ, أو لأنه رفض شرب الحليب, الذي كره طعمه من اليوم الأول.
لن يجلس في فصل, يعتبره مدرسيه متخلفا عقليا, ويعقدون إجتماعات دائمه, كي يبحثوا وضعه مع فصل المتأخرين, وعقاب والده له, بسبب غبائه الشديد, وعدم تركيزه, وسرحانه الدائم حتى عندما يحدثه والده.
الحقيقة, أنه لم يستطع أبدا السيطرة على ذلك, دائما ما كان يواجه بكل الأخطاء التي أرتكبها, أو لم يرتكبها, ويعاقب عليها.
كان يعلم, أنه سيعاقب, سواء انتبه أو لم ينتبه, بالتالي ليس هناك أي فرق, على الرغم من محاولاته الكثيرة, والمجهدة للتركيز, لكنه لم يستطع أبدا فعل ذلك.. ولم يستطع أبدا أن يبعد شبح العقاب.
دائما ما كان مخطئا, عاقا لوالديه لأنه لا يستمع إليهم.
حتى عندما فاجأ الجميع بكونه الأول على المدرسة في نهاية العام, لكنهم لم يصدقوا ذلك, وأعتبروا أنه قام بالغش من الصبي الذي يجاوره, والذي أبعدوه عنه في العام التالي، الذي أستطاع فيه أيضا أن يصبح الأول .
لم يكن يهتم كثيرا بدراسته, عندما كان يسأل عن ماذا يود أن يصبح عندما يكبر, لم يكن يعرف, لم تكن تروق له أي من المهن, لا يحب الشرطة, ولا يحب الجيش, لا يحب الأطباء بضحكتهم السمجة, ورائحة المستشفى العالقة بهم أينما حلوا.
كان يود دائما أن يدخل الجنة, لم يدع سوى بأن يقبض الله روحه قبل أن ينبت شاربه, كي يدخل الجنه بلا حساب, ويدخل والديه معه, ويجعلهم فخورين به, ولو لمرة.
عندما عاد إلى محفظ القرآن, سأله إن كان يستطيع أن يقتل نفسه كي يدخل الجنة؟
غضب منه المحفظ.. ضربه بعصاه على رأسه, أخبره أن من يقتل نفسه يدخل النار مخلدا فيها, ويبوء بغضب من الله لا ينتهي, سيأكل من شجر الزقوم, ويشرب صديدا مغليا, يذوب عنه جلده كل يوم, وينبت من جديد, فقط ليذوب مرة أخرى.
أخبره أن رحمة الله الواسعة, موازية لغضبة, وأن الله كما هو رحيم, هو جبار, قهار.. لا يتهاون مع العصاة والمخطئين.
………..
أتم السادسة عشر, أحب بنت الجيران, لم يجرب الحب من قبل, لم يجرب لمسة يد امرأة, أو إبتسامتها التي تضيئ قلبه, كان يركض في الشوارع, كي يقابلها – صدفة- وهي عائدة من دروسها, أو من زيارات لأصدقائها, أصبحت جنته, بعد أن ذهب حلم الجنة بلا رجعة مع بلوغه, كان يعلم أن الله لن يسامحه, وأنه سيظل من العصاة, بسبب أفكارة وتساؤلاته التي لا تنتهي, وغضب أهله الدائم عليه, واعتباره أنه لا نفع له, وأنه لن يصبح شيئا ذا بال, ولن يقترب من أبناء أصدقائهم, الذين يستذكرون دروسهم بجد, كي يصبحوا أطباء ومهندسين.
لم يعد مهتما بالجنة, أو خائفا من النار, الاثنين تساوتا بالنسبة إليه, حتى فكرة الله, تحولت داخله, بعد معرفته بما يجري في البوسنة والهرسك, والصومال, والشيشان.
عندما سمع عن المقابر الجماعية للنساء, اللاتي تم اغتصابهن حتى الموت, والرضع الذين شقت بطون أمهاتهم عنهم, وألقوا بهم داخل المقابر, لم يعد يثق في عدل الرب, ولا رحمته, وإن ظل على إيمانه به.
عندها عادت فكرة الموت من جديد, حاول يوميا الخلاص من حياته, سواء بأدوية القلب الذي تأخذه جدته, والذي عوقب بسبب أنه تناول أربع أشرطة من ذلك الدواء المستورد الباهظ السعر, أو عن طريق تناول الكلور, أو محاولاته الفاشلة لاختراع السيانيد, مرورا بشنق نفسه, بربط حبل إلى المروحة, والتي انهارت فوق رأسه بعد 20 ثانية.
لم يعدم أي محاولة قرأ عنها أو شاهدها إلا وجربها, مع تقدمه في العمر, أصابه اليأس من الموت, أصبح يائسا من الحياة, ومن الموت, من الوجود, ومن عدم الوجود.
حاول في مرات متفرقة الانتحار من جديد, على الرغم من معرفته بعدم جدواه, لكنه حاول, ابتاع الكثير من الأدوية, حكت له صديقته الجديدة, عن صاحبة لها, انتحرت منذ شهور بمهدئ للأعصاب, احتال على كل الصيدليات, إلى أن ابتاع الدواء, أبتلع 5 أشرطة, استعد للموت, الذي رأى تباشيره تقترب, من انعدام قدرة على الحركة, أو التفكير, أو الكلام, لم يستطع أن يبقى عينه مفتوحة سوى للحظات.
ارتسمت ابتسامة في مخيلته.. قطعتها صوت صديقته, وهي تضرب أصابعها في فمه, وتجبره على إخراج كل ما في جوفه, ساحبه إياه للحمام, وإعادت الكرة مره أخرى, وغسل جسده.
أخبرته يومها, أنه لن يموت أبدا, وأنها تعلم كما يعلم هو, أنه لن يستطيع أبدا الحياة.
سيبقى كما هو كسفينة مهجورة ملقاة على الشاطئ, لا تستطيع الطفو, ولم تحرق.
ولا فائدة لها, سوى أنها تصنع ظلا, لأولئك الذين يودون الراحة من لسعة الشمس, سيظل يتمنى وهو متوقف على الشاطئ, أن يموت, سيظل يحلم بالحياة في جنته التي لا تقترب, إلى أن يتوقف عقله تماما عن العمل, وتتوقف رغبته في الحلم, عندها, ستنهار أشرعته, وتسقط دفته ولن يتبقى منه, إلا لمحات من ذاكرة, تسترجع أحلاما بالموت, ود وهو طفل أن يهرب إليه.