اتوقف أحيانا عن الاستماع للموسيقى التي احبها, ثم اسأل نفسي: لما كل هذا الغياب عن الحياة؟
متيمة أنا بأغنيتين لأم كلثوم \”رباعيات الخيام\”, و\”هذه ليلتي\”، وأنا في
أوائل الصبا كنت استمع لهذه ليلتي، فتمتلئ نفسي بمشاعر غامضة ومتضاربة.
كنت صغيرة جدا على إدراك كل هذه المشاعر التي تقولها الموسيقى والشعر, لكنني كنت توّاقة للحياة للدرجة التي تجعلني اشعر ما ليس افهمه, اتذوقه بروحي.. كنت اعتبر أن هذه ليلتي هي أغنيتي المفضلة.. كانت الموسيقى تملأ روحي.
منذ متى توقفت عن الاستماع لأم كلثوم؟! في لحظة ما كنت نضجت كفاية لأدرك أن أم كلثوم تلمس عمق روحي، فتوقفت عن الاستماع إليها.. أنا ابنة برج القوس، وهؤلاء لا يريدون أبدا الاستغراق في فهم مشاعرهم.. كلما مرت الأشياء على سطح روحنا كلما كان أفضل.
عشت أربعين عاما وأنا مقيدة بصندوق المخاوف في روحي.. اعتبر نفسي سيدة الهواجس بلا منازع.. افكر ليل نهار في كل السيناريوهات السيئة للمستقبل.. متى سيهجرني حبيبي؟ وكيف سأفقد عملي؟ ومتى سأفقد شبابي؟ وهل سأعيش شيخوخة تحوجني للآخرين؟ الخوف فعلا \”كأنه كلب سد الطريق\”.. الخوف في حالتي كلب سد منافذ روحي حتى الاختناق.
كم استهلكت هذه المخاوف من عمري؟ ربما أخذت كل ما مضى.. الغريب أنني لم اتحرر من هذه الهلاوس إلا وأنا على اعتاب الموت! احببت الموت من هذه الزاوية, فقد حررني اقترابي من الموت من كثير من أوهام الحياة.. اعاود الاستماع لأم كلثوم وأنا ادرك أن كل الموسيقى الخفيفة التي لا تلمس الروح كانت تمثل هدرا في أعمارنا.. كيف لا تلمس كنه روحك يا عزيزي؟ كيف لا تعرف نفسك حقا؟
احسد السابقين أن كان لديهم كل هذا الشجن.. كل هذه الموسيقى التي تشبه
زخرفات صائغ موهوب على لوح الزمن.
اعرف – أخيرا – أن الموت والحياة صنوان, بابين كلاهما يشع نورا, الخوف وحده هو الذي يمنعنا من رؤية النور في الحالتين.
اتأمل المعاني الثقيلة في أغنيتي المفضلة \”هذه ليلتي\” فافهم ما تعثرت عن
فهمه وأنا صغيرة.. المس الحقيقة الأبدية التي تقول: \”سوف تلهو بنا الحياة
وتسخر\”.. إنها تفعلها حقا, الآن وليس غدا.
لقد هرمنا بما فيه الكفاية لندرك أننا أضعنا جل عمرنا في الخوف من الحياة، ربما هي الآن تسخر منا سخريتها الأخيرة.