تحت الأنظمة العربية القمعية توقف الاتصال بين الأفراد تقريبا تماما، لكن تميز نظام مبارك بكفاءة عالية في عزل الناس عن بعض بآليات اجتماعية بالإضافة إلى الوسائل البوليسية، عزل الطبقات، عزل الأديان، عزل الأجيال، عزل الأجناس، عزل الثقافات. وصلت كفاءة هذا النظام في تفتيت أواصر المجتمع إلى إحساس الفرد بالعزلة داخل شارعه وعمله وسط عائلته وأصدقائه ووصل في كثير من الأحيان إلى الإغتراب عن نفسه حتى خيل إليّ في فترة أن الأفراد مسجونون في فقاعات زجاجية كالحبس الإنفرادي غير المرئي. كيف نجح النظام في تحقيق هذه النتيجة المذهلة، سيكون موضوع أبحاث وأفلام وكتب وأغاني ولوحات في المستقبل.
لكن عندما قامت الثورة في 25 يناير 2011 لمع في أعيننا ما كان مصمتا ورأينا بعضنا البعض. واكتشف الكثيرون أن المسافة الشاسعة مسافة وجدانية تكمن في الفقاعة الزجاجية، ويمكن للمسافة أن تضيق كثيرا إذا ما اقتنعنا أن قطعها ممكنا مهما طالت. وقد يكون في ذلك جزء مما يفسر لجوء السلطة الى العنف والقمع الجسدي المباشر هذه الأيام.
يتجول البشر في بلادهم في محاولة للتعرف والفهم.
انعكس مزاج التعارف وجرأة التجول على أفلام السينمائيين المستقلين، فهم جزء مرهف من المجتمع، وأنتج عددا من الأفلام المتسللة خارج الفقاعة الثقافية الاجتماعية التي خنقتنا وثرنا عليها.. ظاهرة أحب أن أسميها سينما التجول، وهي سينما يحمل فيها السينمائي كاميرته ويتجول بخطوات أولى نحو الزوايا المعتمة عنه.. فاتحا صدره وعينه وقلبه ووجدانه لملايين من المؤشرات الوامضة والتي لا تفهم إلا بالحدس ولا يمكن معها التحليل العلمي المرتب ولا التخطيط الدقيق المسبق.. من وجهة نظري تستحق هذه الأفلام التقدير والاحترام لأنها تفتح رئة السينما والمجتمع لتتنفس قليلا.
لا أهمية في تهنئة هذه الأفلام على نية التسلل، بل لابد ان أعطيها نصيبها من الإنتباه والتأمل، فهي ليست مجرد أفلام في سلسلة من المحاولات الرتيبة لاستعراض إمكانيات المخرج، أو إجترار لأرشيف لحظات الثورة المعتادة التي تشبعنا بها، إنما هي افلام رائدة، وليدة عهد جديد، وتحمل بطبيعتها أهمية وارتباك الوثيقة الطازجة، تسجل الواقع ومعه تسجل تفاوض المخرج مع وضعه الجديد ومشروعه الفريد. أفلام تشاركية لا تسجل ما تعرف ولكن تسجل ما تكتشف وما تتعلم، تبحث وتبلور جمالياتها وبلاغاتها في خضم التجربة. الأفلام المتجوّلة ظاهرة بدأت قبل 25 يناير كالثورة نفسها، وكانت هذه الأفلام من إرهاصاتها، وستكون طويلا أحد دلالات استمرارها، وأعتقد أنه من البديهي أن نتوقع منها نوع سينمائي مكتمل.
يأخذ بالفعل عدد من المخرجين نفسا عميقا ويخطون خطوات في تلك المسافة الشاسعة خارج المساحة الآمنة، كما خرج في ملاقاتهم ناس من مساحاتهم الآمنة، التجول متبادل. وقد صادفني الحظ لمشاهدة عدد من هذه الأفلام وليس كلها، وأتمنى أن أشاهد الباقي. وإن كنت لا استطيع الكتابة عن كل الأفلام، إلا إنني أعتقد أن عليّ أن أشاهد كل الأفلام أو على الأقل أغلبها، ليس فقط كسينمائية تستمتع بالسينما وتؤمن بدورها الرائع في وجدان الإنسانية، ولكن كإنسانة مصرية عانت تماما تحت أحكام التسلط المتتالية في مصر قبل وبعد الثورة، مُنعت من التجول وتجولت رغم المنع. ومازلت أحاول التجول.
\”أنا الشعب\” إخراج آنـّا روسيون:
سأبدأ بفيلم \”أنا الشعب\” الذي شاهدته في إفتتاح ملتقى الصورة الحادي عشر بالمركز الثقافي الفرنسي مؤخرا.. الفيلم حائز على عدة جوائز وطاف عددا من المهرجانات، لكنه لم يعرض بما يكفي في مصر، وبالتأكيد لم تشاهده جماهير عريضة من خلال التلفزيون مثلا أو السينما التجارية.
\”أنا الشعب\” فيلم تسجيلي بدأ تصويره قبل الثورة مباشرة، واستمر بعدها، ويدور بالكامل في قرية جزيرة البعيرات بمحافظة الأقصر، ولا يترك الفيلم القرية إلا من خلال شاشة التلفزيون أثناء مشاهدة شخصيات الفيلم له.. يحاول الفيلم متابعة فراج الفلاح وأسرته وباتعة راعية الغنم وتفاعلهم مع الثورة من يناير 2011 إلى يونيو 2013.
يبدأ الفيلم بفراج، وهو الشخصية الرئيسية، في مكالمة تليفونية مع المخرجة على خلفية صورة حشود التحرير في التلفزيون في بيت فراج. لا يعطي فراج وزنا كبيرا لما يراه في التلفزيون من جماهير مائجة، ويهوّن على المخرجة التي يلهث صوتها من الإنفعال ثم تنقطع الكهرباء. وعلى مرّ الأحداث التالية للـ 18 يوم كما ينقلها التلفزيون ثم عبر المناظرات السياسية ـ التوك شو والمناقشات التي تنتج عنها في بيت فراج وفي القرية ومع المخرجة ومن خلال انعكاسات الثورة على بعض جوانب الحياة اليومية، نرى الأمل في التغيير وهو يدبّ في قلب فراج ثم يخفت. ويتوصل فراج إلى مناصرة مرسي في سباق الرئاسة على أساس أنه الأمل الباقي لتحقيق حد أدنى من التغيير، إلى أن تهتز ثقته في مرسي أيضا وتدب الشكوك في قدرته على تحقيق أي شئ، ثم نرى كيف تكتسح موجة 30 يونيو البقية الباقية من دفاعات فراج، ويستسلم في مشهد الذروة وهو يهتف بلا صوت مع الجموع وكأن شفتاه تتنازعها المشاعر المتضاربة لدرجة البكم. وينتهي الفيلم وفراج غير واضح الفكر والظروف على الأرض كما هي وتنهي المخرجة الفيلم رمزيا بانقطاع الكهرباء كما بدأ بها وتتركنا في الظلام. وأنا أحيي الفيلم على هذه النهاية المربكة التي تفرض علينا المطالبة بالمزيد، فليس هناك أبوخ من فيلم يبدأ بالإستكشاف والتساؤل لينتهي بوعظة وخلاصة تلبس ثوب الخبير الذي توصل إلى الإجابة.
يتميز الفيلم باختيار شخصية محورية، التصق بها وتابعها، وهي فراج الفلاح، وجاءت الشخصيات الأخرى من العائلة أو من القرية في حدود تفاعلهم الطبيعي مع فراج أو المخرجة. لم تلجأ آنـّا إلى صوت الراوي المعتاد الذي يعتمد عليه الكثير من المخرجين التسجيليين والروائيين، وحتى صوت المخرجة جاء في شكل حوار مع الشخصيات أثناء التصوير، ولم تسمح لنفسها أن تتكلم عنهم وتترجمهم لنا.
حملت المخرجة الكاميرا على كتفها أو في حجرها وجعلتها تعبر عنها، فنزعت عن الكاميرا صفة الحيادية الكاذبة مما زاد من مصداقية محتوى الصورة. حضور المخرجة في الفيلم نابع من موقعها الطبيعي الذي تشغله كزائرة مستديمة. كما أنه واضح من الهدوء النسبي للشخصيات وبالذات فراج، أمام الكاميرا أنها ذهبت كثيرا وأصبحت زياراتها معتادة وكاميراتها مألوفة، فتمكنت الشخصيات من تخطي الرهبة المبدئية إلى درجة من الإسترسال في الأفكار والحوارات. سمح لنا هذا المنهج الأنثروبولوجي التشاركي كمشاهدين أن نتلقى معلومات كثيرة، عن طريق الصورة والصوت والكلام، نتفاعل معها بشكل يخرج إلى حد ما عن سيطرة المخرجة.
وبشكل متسق مع هذا المنهج لم تستخدم المخرجة فريقا تقليديا بأجهزة تصوير وصوت وإضاءة، بل قامت هي بالتصوير واستخدمت ميكروفونا واحدا تقريبا ولم تستخدم إضاءة إلا ربما بشكل استثنائي وخفيف جدا دون العبث بميزان الإضاءة الطبيعية للمكان. سمح هذا الإختيار الفني، بحرية تدوير الكاميرا والبدء في التقاط ما يدور بدون تحضيرات تقريبا، وبدون تغيير في الجو العام للمكان والأهم من ذلك بدون تشتيت لمزاج الأشخاص، فاستمتعنا بحميمية المنزل الذي فتح لها أبوابه واستضافها مرارا وتكرار وفهمنا تواضعه وأحسسنا بجماله، كما وجدت الشخصيات مساحة لتعبر عن ملامحها بأكثر من مجرد الكلمات المنطوقة المنطقية، تأملنا الوجوه وتعبيراتها ولغات الجسد. كانت هناك عدد من اللقطات الصامتة لفراج، نتأمله وهو يتأمل الأحداث، نكاد نتمنى الدخول في صدره لمعرفة ما يختلج به. أما الكلام نفسه فجاء تقطيع اللقطات طويلا بحيث اكتملت الأفكار من فم المتحدث بدون تدخل مفتعل من المخرجة. فلقطات الحوار المكتملة الطويلة تعطي لنا فرصة أن نستوعب المعنى بالنبرة والسكتة وتعبير الوجه ولمعة العين، وتختلف هذه الطريقة في تقطيع الحوار جذريا بل ربما فلسفيا، عن طريقة تركيب جمل الحوار من لقطات قصيرة تستمد معناها وتأثيرها من المونتاج ورؤية المخرج فقط.
بكل المعايير حاولت آن روسيون أن تخلص نفسها وشخصيات فيلمها ومشاهديها من غطرسة المخرج الشائعة، واحتفظت بمسئولياتها، فبقت هي صانعة الفيلم تقدم للمشاهد اقتراحا متكاملا.
وقد جاء فراج مع المخرجة إلى العرض في المركز الثقافي الفرنسي، حيث شاهدت الفيلم، وناقش الجمهور بثبات، فهو اختيار رائع كشخصية محورية يلمع الذكاء والصدق والخبث وخفة الدم في عينيه، وهو فلاح حقيقي أي أنه يزرع الأرض ويفلحها طوال النهار، يتابع ما يحدث حوله ويكوّن رأي بدون تسرع، ولذلك يكون من الصعب إقناعه بتغيير رأيه لأنه يحتاج إلى أسباب ترقى لمستوى قناعته، مما زاد لقطة استسلامه للواقع في ٣٠ يونيو قوة. وكان النقاش بعد العرض به بعض المفارقات الدالة، فالمشاهد، مثل الفلاح وأكثر، يحتاج إلى تعرض خارج فقاعته، إحدى المداخلات جاء فيها: \”نحن سعداء أن نعلم أن في الريف المصري مايزال هناك بعض الفلاحين الذين يفكرون ويستخدمون المنطق، وأرجو أن يكون الأستاذ فراج مدركا لأهمية أن لا يصيبه الكسل وأن عليه أن يستمر في استخدام عقله ونقل هذه الخاصية الى أولاده، هل تعلم أولادك التفكير يا أستاذ فراج؟\” غني عن الذكر ان القاعة أصابها شئ من الإحراج ولم يعقب أحد على هذا الكلام، لكنها مداخلة مهمة، فالشخص الذي قال هذا الكلام لم يكن يتوقع ما شاهده، وبالرغم من أنه ظل حبيس الصورة المسبقة ورفض إلا أن يعتبر فراج تحفة نادرة من الريف، إلا أن اختلالا ما في العقيدة القاهرية البرجوازية المتوسطة حدث بالفعل.. تجوّل فراج خارج فقاعته، وطرق بقوة على فقاعة هذا المشاهد.
من المشاكل الشائعة التي تعانيها الأفلام التي تخطو خطوة على أرض غير مطروقة أن يفاجأ المخرج بأن الجمهور يلومه على ما أثاره من أفكار وعلى الضوء الذي ألقاه على الحاجة إلى مزيد من الأفلام، كالإمام الذي يلوم المصلين على قلة عددهم، مما جعلني أتردد في كتابة مأخذي على الفيلم، فأنا أريد أن أهنئ آنـّا على ما حققته لا أن ألومها، لكن أعتقد أنني لا أظلمها عندما أعبر عن ملاحظاتي. الفيلم يعدني كمشاهد بالإبتعاد عن صمم وعمى القاهرة ونرجسية المدن وأن يذهب إلى ريف الصعيد، وتعدني آنـّا بإعطاء الكلمة للشعب. ملحوظة أولى، عنوان الفيلم إستسهال لفكرة تأتي مباشرة من الإعلام وكأن أهل المدن ليسوا شعبا وكأن الذين ذهبوا الميادين ليسوا شعبا، فتضع المخرجة فراج في موقف المقارنة والمنافسة لا مع ضيوف التوك شو الذين قد لا يخطو الكثيرون منهم خطوة واحدة خارج الاستوديو، لكن مع أقرانه من \”الشعب\”، وبمعزل عن ضعف العنوان أو ربما بالإضافة لذلك، ففيلم تسجيلي طوله قرابة ساعتين اسمه \”أنا الشعب\” نستربع معه على الأرض في أريحية في بيت فراج وزوجته منذ أول كادر في أول مشهد، يتوقع فيه المشاهد بلا شك أن يذهب إلى أبعد من هواجس القاهرة وفرضيات التوك شو. وبالرغم من أن كسرات الإيقاع الرهيبة التي اهتمت بها آنّا منتقلة من تسارع أحداث الثورة على شاشة التلفزيون إلى إيقاع العمل اليدوي الشاق الرتيب في الحقل والنقلات الساخرة من هدير صوت ضيوف التوك شو يناقشون فرضيات سياسية مجردة إلى هدير صوت الفلاحين يناقشون تعطل موتور الماء بسبب نقص مياه الري أو صليل صوت النساء حول سيارة أنابيب الغاز، ساعدت كثيرا على رياضة الانتقال إلى طعم الثورة.. الثورة من وجهة نظر فراج وباقي شخصيات الفيلم، إلا أننا بقينا على مستوى السخرية العابرة ولم نفهم علاقة من العلاقات الدقيقة الخافية عنا.. بقينا محبوسين في أسئلة القاهرة وأطروحات الثورة الحاصلة في ميادين المدن، وظلت أسئلة المدن مفرّغة من مضمونها مثل ثورة أم لا ثورة، مع الثورة أم ضد الثورة، الحرية أم الخبز، مرسي أم شفيق.. أسئلة مجردة إن لم نعرف لماذا يختار وكيف يختبر فراج كل هذا الكلام.. لا أعرف إن كان السبب هو قصر زيارات آنـا للمكان رغم تعددها، أم غرق منها فيما كانت محملة به من أحداث جسام، تعيشها، ولا شك بكل وجدانها، فنقلت معها الى قرية جزيرة البعيرات، القليل او الكثير من مركزية القاهرة. المحصلة أن القاهرة لم تسكت ما يكفي حتى يسأل فراج السؤال ويطرح الإشكالية ويصيغ المطلب ويضع المقياس، ولم يسعنا كمشاهدين عند منتصف الفيلم إلا أن نأمل بل نتوقع أن نترك لفراج زمام الأمر، لكن ذلك لم يحدث. ولم يكن ذلك متسقا مع وعود المخرجة من خلال عنوان الفيلم وطوله وأطروحته، ولا يتسق أيضا مع المنهج التشاركي الذي اتبعته المخرجة والتزمت به وصنعت به فيلما جميلا فاتحا للشهية بحق.
عن المخرجة : ولدت آنـّا روسيون Anna Roussillon سنة 1980 في بيروت، وتربت في القاهرة حيث جدتها المصرية، ثم انتقلت للإقامة بباريس. درست آنـّا الفلسفة واللغة والأدب والحضارة العربية وعلم اللغة، كما درست السينما التسجيلية في لوساس بفرنسا. تخرجت من قسم اللغة العربية وتقوم بالتدريس في مدينة ليون وتزاول الترجمة الأدبية وتشارك في برامج الراديو، بينما تعمل على عدد من المشاريع المتصلة بمصر. \”أنا الشعب\” أول أفلامها التسجيلية الطويلة.
الفيلم إنتاج فرنسا عام ٢٠١٤ وحصل على عدد من الجوائز وهي أحسن فيلم وأحسن عمل أول بمهرجان جيلافيا بتشيكوسلوفاكيا وأحسن فيلم في انترفو بلفور في فرنسا ودوكسا فانكوفر بكندا، وجائزة الجمهور ببلفور فرنسا وجائزة \”فايربيرد\” في هونج كونج. وشارك في عدد من المهرجانات الدولية منها روتردام بهولندا وتروفولس بأمريكا وفيزون دو ريل بسويسرا ودوكفست بألمانيا، وبالأمس فقط حاز على جائزة أحسن فيلم في مهرجان فيدادوك بأغادير بالمغرب.
Jihlava Documentary Film Festival, Czech Rep. , 2014;> Best Documentary > Best Debut / Entrevues Belfort, France, 2014> Best Feature Film > Audience award / Rotterdam Film Festival, Netherlands, 2015 / True-False Film Festival, USA, 2015 / Hong-Kong Film Festival, 2015> Firebird Award / Visions du réel, Switzerland, 2015 / Dok Fest Munich, Germany, 2015 / Doxa Vancouver, Canada, 2015> Best Feature Film / Fidadoc Agadir Marocco > Best film