محمد عبد الغفار يكتب: أتوبيس نقل عام

دائما طول المسافات يزيد التفاعل بين الناس، في التاكسي والميكروباص والقطار والأتوبيس، لكن تلك الحالة فريدة من نوعها، في الأسبوع الماضي كنت عائدا من منطقة العامرية، لحقت بأتوبيس النقل العام بصعوبة، كان متجها لمنطقة محطة الرمل، تلك المسافة تستغرق ساعة كاملة أو أكثر بخمس أو عشر دقائق.

بمجرد التحرك بدأ عدد من الشباب (ثلاثة) مستقلين المقعد الخلفي يتحاورون بصوت عالٍ، يمسك أوسطهم بكتاب يمحقون أنظارهم به، هم يتدربون على مسرحية، علمت بعد ذلك أنهم يحاولون تمثيلها، لكنهم لا يجدون مسرحا يقبل بعرضها.

كان الشباب مرحين، والركاب ينظرون وينصتون إليهم بشغف وتفاعل شديد، يضحكون مع الإيفيه ويتفاعلون مع المشهد الجاد.

كانت المسرحية تروي قصة مدير بإحدى الشركات، شخص عدواني متعصب لأفكاره، لا يقبل الرأي الآخر، يمطر مرؤوسيه بالجزاءات التي تصل إلى الفصل النهائي أحيانا، وتروي أيضا حال الموظفين، فمنهم الشجاع الذي لا يهابه فيكون مصيره الجزاءات، ومنهم الضعيف الذي يخافه فيفعل ما يأمره به دون نقاش، حتى وإن كان هذا الأمر ضد مصلحة الشركة، وهناك من ينافقه ويعلي من شأنه ويسب من يعارضه ويقوم باضطهادهم بسبب وبدون سبب وفي أي وقت.

قام الشباب بقراءة ثلاثة مشاهد دون آداء حركي نظرا لضيق المساحة، لكن القصة كانت مثيرة وشيقة، وبعد نهايتها، والتي أعلنت إفلاس الشركة وغلقها بسبب رعونة ذلك المدير وضيق أفقه وتعصبه، صفق البعض لهؤلاء الشباب وكان مشهدا أكثر إثارة من المسرحية ذاتها.

خلال التصفيق كان الناس يمزحون مع الشباب الثلاثة، فمنهم من قال \”مدير غبي\”، ومنهم من رد \”ده لو مديري هقتله واخلص البشرية منه\”، ومنهم من سأل الشباب عن الرسالة المقصود تصديرها من ذلك العمل.

صمت ساد السيارة، ثم بدأ أحد الشباب في الإجابة: \”بص يا أستاذنا.. اللي نقصد نوصله إن الفردية في اتخاذ القرارات بتغرق أي مكان، والتعصب لفكر معين بيعمي عين الشخص عن الصح، خصوصا لما بيلاقي ناس كتير ساكتة وناس تانية بتنافقه وقليلين جدا اللي بيعارضوه.. هنا هو بيعتقد إنه ماشي كويس وبيفضل مكمل في فساده وبيطغى ويبطش بالعباد، ودايما بتكون النهاية خراب، لإن النظام القائم على تزوير وظلم وتعصب ونفاق لازم تكون آخرته سقوط وخسارة للكل.\”

وهنا صاح أحد الركاب: \”إيه يا عم أنت! أنتوا بتشتغلونا بحكاية وبعدين تدخلونا في البلد والنظام والسيسي؟! أنتوا فاكرينا بهايم؟! أنا من الأول شكيت إنكم إخوان\”

قامت الدنيا بين مهاجم للشباب ومدافع عنهم حتى هدأت بتركهم للسيارة!

كم هي غريبة تلك الفئة الفقيرة محدودة الدخل التي أنتمي إليها.. الغالبية منهم يعشقون ما يغيب عقولهم، ينتظرون مسلسلات رمضان ويصطفون حول أجهزة التلفاز ويتابعونها بشغف، لكنهم يرفضون ربطها بالواقع حتى وإن كانت الأحداث شديدة التشابه به، يتعاطفون مع الشخصية المحاربة للفساد عندما يتقمصها ممثل مشهور خلف الشاشة بإحدى الأفلام، وينفرون من نفس الشخصية المحاربة للفساد عندما يجدونها في الواقع!

الفيصل في ذلك الأمر أن يعي هؤلاء أن الفن الحقيقي هو المترجم للوضع الذي يعيشونه، وهو المحرك الأهم لعقولهم وليست مشاعرهم فقط، وأن واقعنا هو أشد ألما ومقتا من تلك المشاهد التي تلاها علينا الشباب.

يكفي أن ينظر أحدهم إلى ما يحيط به من عدد غفير يصل إلى سبعين شخصا داخل عربة أتوبيس تستوعب خمسة وعشرين راكبا فقط، ثم ينتقل بتفكيره إلى مواكب الرئيس والوزراء وكبار زبانية الدولة الحاكمة، سيجد أن شخصا واحدا ينتقل من مكان لآخر بعدد من السيارات يفوق عدد هؤلاء الركاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top