\”إنتي عانس وعاوزة تتخلصي من اللقب ده حتى لو تكوني مطلقة\”.. قالها الصديق \”التقدمي اليساري\” في لحظة غضب وانفعال كاشفة عن حقيقة بداخله يداوم على ألا يظهرها حفاظا على مكانته الاجتماعية.
كانت المرة الأولي التي يقال لها \”عانس\”، وجاءتها الكلمة بردة فعل \”ابتسامة ساخرة\” علت وجهها المكبل بهموم حياة اختارت جزء منها وفرض عليها القدر الجزء الأكبر.
لم تشعر بغضب من ترديد الكلمة، فلم تكن تشعر بأنها كذلك.. حالتها واعتيادها ممارسة الحب مع كل شىء حولها في الحياة جفف لديها منابع الإحساس بوطأة الوحدة وخلو حياتها من الحبيب.
ارتدت فستانها الأرجواني الذي يظهر مفاتن جسدها، ونظرت لنفسها في المرآة ورددت بصوت مسموع \”المُزَة العانس\”.. لقب حصلت عليه اليوم من \”المثقف اليساري التقدمي\” رفيق درب الكثيرات ممن يراهن\”عوانس\”، كانت ردة فعل وانفعال كاشف لحقيقة عارية.. لم تبادله الرد، بل صمتت وشكرته على إزالة ورقة التوت التي يغطي بها نفسه دوما بين رفقائه، وأشفقت على نفسها من مصاحبته.
كانت تسمع كثيرا عن مثقفي اليسار من الرجال الذين يعيشون حياة إنفصامية بين ما يقولون ويرفعون من شعارات وما يضمرونه من حقيقة عند ممارسة تلك الشعارات.. كانت تسمع عنهم وتقرأ عن اليساري الذي يتشدق بمقولات جيفارا وحكايات \”الرفيقة\”، وها هي المرة الأولي التي ترى هذا النموذج متجسدا أمامها، لقد كان لهذا المثقف التقدمي الفضل في أن يختصر لها عشرات الكتب حول إنفصامية المبادئ.
بمعايشته وقت قصير كشف عوراته الفكرية أمامها، ودون أن يدري ذاك المثقف دخلت منطقته الحمراء التي لا يعرف عنها الكثيرون ممن حوله شيئا، ألا وهي معتقداته الحقيقية وما يؤمن به.
نلوم دوما المجتمع إجمالا ونقول إنه ضد المرأة وإنه يمارس العنف بكل حالاته عليها، ونتناسى في تحليلاتنا أن مدعي \”التقدمية\” أشد خطرا من أفراد المجتمع، فكيف لمثقف يساري نظرته لفتاة قاربت الأربعين عاما دون \”زواج معلن\” أنها \”عانس\”، وهو يؤتمن على حمل رسالة تنويرية في المجتمع؟
\”كلنا انفصاميون بدرجات متفاوتة، والمدعون كثيرون يا عزيزتي\”.. جملة تريح ضمائر \”الآخرين\” الذين لا يستطيعون أو لا يريدون أخذ موقف إيجابي نحو تغيير تلك الصورة النمطية عن \”مفهوم العنوسة\” وعن موضوع المرأة بوجه عام، ولكل أسبابه الخاصة وتبريراته المعلنة وغير المعلنة.
بل ذهب هذا \”المثقف الثوري\” بأفكاره البائسة إلى المفاضلة بين حالة المرأة \”العانس\” و\”المطلقة\”، وقرر بأن كونها مطلقة أحسن –اجتماعيا- لها، وكأنه يرد الفضل إليه في تحويل حالتها الاجتماعية باعتباره من سيمنحها هذا اللقب، لكن إن إرادت أن تبقى مستقلة بذاتها، فهي منقوصة \”الأهلية المجتمعية\”.
لقد تضامن هذا \”الثوري التقدمي\” مع القيم السالبة لحرية المرأة رغم ادعائه \”نبل الأخلاق\”، والذي يصدقه الكثيرون ممن حوله في طرحه لها.
نعم لا مفر من الاعتراف بأن هذا هو حال الكثيرين \”من رفقائنا التقدميين\” الذين كسرّوا كل مرايا غرفهم حتى لا يروا أنفسهم، ولم يبقوا سوى على مرآة غرفة المكتب الأنيقة التي تعج بعشرات الكتب \”التقدمية\”، وهم لم يبرحوا العصور الظلامية، وقد تساوا بالحمار الذي يحمل أسفارا.
يضع الكثيرون الموقف المبدئي من موضوع \”المرأة\” كمؤشر لقياس مدى وعي المجتمع والفرد، وأن نظرة المجتمع للمرأة تحدد قربه أو بعده من قضايا عديدة تتقاطع مع غيرها من القضايا في المجتمع، والسؤال: هل حقا العنوسة \”لقب\” أم \”حالة\”؟ ومن ذاك الذي يمنح هذا اللقب؟ وفي أي لحظات يقرر تتويج حياة المرأة فقط بلقب \”متزوجة\” أو مطلقة\” أو \”عانس\” ؟
\”العانس\”.. هل هو لقب يطلق أم حالة تعيشها من اختارت أو أجبرت أو لم تستطع؟ أو لأسباب كثيرة لا تريد تلك \”الإنسانة\” الإفصاح عنها في ألا تتزوج؟ وهل \”مؤسسة الزواج الرسمي\”، نجحت رغم مُر الشكوي منها في السر والعلن من تعقيدات العلاقات الزوجية في مجتمعنا؟ وهل حق الاختيار، الذي تظل المرأة دائما محرومة من ممارسته هو عقاب لها بسبب \”نوعها\” بسبب كونها امرأة؟
عذرا ليس لنا مكان بينكم أيها المثقفون.. دعونا نمارس \”عنوستنا\” كما يحلو لنا، وعلي كل \”مثقف وتقدمي\” الالتزام بحق الملكية الفكرية في إطلاق لقب \”عانس\”.